عباد الله: يوم يُقلِّب المرء صفحات الماضي المجيد، ويتدبر القرآن الكريم، ثم ينظر لواقعنا، ويقارنه بماضينا يتحسر، يتحسر يوم يَجِد البَوْن شاسعًا والفرق عظيمًا، يتحسر يوم يرى تلك الأمة، وقد كانت قائدة وإذا بها قد أصبحت تابعة، ثم...
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرَح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أَعْيُنًا عُمْيًا وآذانًا صُمًا وقلوبًا غلفًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70- 71].
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً تُبَيِّض وجوهنا يوم نلقى الله: (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88- 89].
ثم اعلموا علم يقين أن حكمة الله اقتضت أن يكون الحق والباطل في خلاف دائم، وصراع مستمر، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيِّب، فمنذ بَزَغَ نجم هذا الدين وأعداؤه من يهودٍ ونصارى ومشركين يحاولون القضاء عليه بكل ما يستطيعون: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[الصف:8].
حاول أعداء هذا الدين القضاء عليه في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فما أفلحوا، وحاولوا في عهد الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- فما أفلحوا، ثم في العصور المُتَأَخرة إلى وقتنا هذا وهم يحاولون دائبين؛ بالعنف والصراع المُسلح تارة، وبالمكر والخداع والخطط والمؤامرات تارة أخرى.
ولسنا مجازفين -والله- عندما نقول ذلك؛ فالله يقول: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ)[البقرة:217].
والله -جل وعلا- يقول: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)[البقرة:120].
هذه شهادة الله على أعدائنا بما يريدونه منا، وأَيُ شهادة أعظم من شهادة الله وأصدق؟!
والتاريخ في ماضيه وحاضره يشهد بذلك، لكن أنَّى لهم أن يفلحوا ما تمسَّكنا بكتابنا، وسُنَّةِ نبيِّنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
كلُّ العِدَا قَدْ جَنَّدوا طَاقَاتِهِم *** ضِدَّ الهُدَى والنُّورِ ضِدَّ الرِّفْعَةِ
إِسلامُنا هُو دِرْعُنَا وَسِلاحُنَا *** ومنارنا عَبْرَ الدُّجَى فِي الظُّلْمَةِ
هُو بِالعَقِيدةِ رَافِعٌ أَعْلامَهُ *** فَامْشِي بِظِلِّ لِوَائهَا يَا أُمَّتِي
لا الغَربُ يَقصِد عِزَّنَا-كَلا- ولا *** شَرْقُ التَحَلُّلِ، إنَّهُ كَالحَيَّةِ
الكُلُّ يَقْصدُ ذُلَّنَا وهَوَانَنَا *** أَفَغَيْرُ رَبِّي مُنْقِذٌ مِنْ شِدَّةِ؟
عبادَ الله: يوم يُقلِّب المرء صفحات الماضي المجيد، ويتدبر القرآن الكريم، ثم ينظر لواقعنا، ويقارنه بماضينا يتحسر، يتحسر يوم يَجِد البَوْن شاسعًا والفرق عظيمًا، يتحسر يوم يرى تلك الأمة، وقد كانت قائدة وإذا بها قد أصبحت تابعة، ثم يدرك أن السبب هو بُعدنا عمَّا كان عليه أسلافنا، ويتساءل المرء متى ينزاح هذا السواد الحالِك من الذل والمسكنة متى يَنْبَرِي للأَمَّة أمثال خالد و"صلاح" و"القعقاع؟" متى تُحيَا في القلوب آل عِمران والأنفالُ وبَرَاءة؟ (قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا)[الإسراء: 51].
وإنَّا لنرجُو اللهَ حتَّى كأنَّما *** نَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللهُ صَانِعُ
عَودًا، والعَود أحمد، عَودًا سريعًا إلى الماضي المجيد لنستلهِم منه الدروس والعبر في هذا الحاضر العاثر، عَودًا لسيرة من لم يطْرِق العالم دعوة كدعوته، ولم يُؤَرِّخ التاريخ عن مُصلِح أعظم منه، ولم تسمع أُذن عن داعية أكرم منه.
رُوحِي الفِدَاءُ لِمَنْ أَخْلاقُهُ شَهِدَتْ *** بِأَنَّهُ خَيْرُ مَبْعُوثٍ مِنَ البَشَرِ
عَمَّتْ فَضَائِلُهُ كُلَّ البِلادِ كَمَا *** عَمَّ البَرِيَّةَ ضوء الشَّمسِ وَالقَمَرِ
صلوات الله وسلامه عليه، ما هَطَلَتْ الغمائم بهتان المطر، وما هَدَلَتْ الحمائم على أفنان الشجر، العَيْش في سيرته عَيْشٌ رَغِيد سعيد؛ هِداية ونور وحضور وبِشْر وسرور، ما أحرانا ونحن في هذه الأيام العَصِيبة أن نخترق أربعة عشر قرنًا؛ لنعيش يومًا من أيام محمد -صلى الله عليه وسلم-، بل ساعة من سُوَيْعاته الثمينة، لنأخذ العِبرة والدروس من تلك الساعة في هذه الساعة:
اقرءوا التَّارِيخَ إِذْ فيه العِبَرْ *** ضَلَّ قَوْمٌ لَيْسَ يَدْرُونَ الخَبَرْ
عَوْدًا بكم إلى السنة التاسعة للهجرة، والعود أحمد؛ لنعيش معكم أحداث غزوة العسرة التي تساقط فيها المنافقون، وثبت فيها المؤمنون، وذَلَّ فيها الكافرون، ما السبب وما الأحداث؟ ما آيات النبوة فيها؟ ما الدروس المستفادة؟
إليكموها، فاسمعوها وعُوها، واعتبروا بما فيها، واسألوا التاريخ عنا كيف كنا؟
نحن أسسنا بناءً أحمديًا، بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الروم تتجمع لحربه ولتهديد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم؛ لكونه قد أذاقهم مرارة غزوة "مؤتة" التي جلبوا لها مائتيْ ألف، ولم يتمكنوا من إبادة ثلاثة آلاف مقاتل؛ بل ولا هزيمتهم.
فيا للَّه!
كنا جبالا في الجبال وربما *** صرنا على موج البحار بحارا
عند ذلك أعلن النبي-صلى الله عليه وسلم- ولأول مرة عن مقصده، وأعلن التعبئة العامة، فتجهز أقوام، وأبطأ آخرون، تجهز ثلاثون ألف مقاتل قد باعوا أنفسهم من الله، وأعلنوا نصرة "لا إله إلا الله".
تساقط المنافقون، ومن يرد الله فتنته: (فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)[النساء:143].
ها هو أحد المنافقين، يقول المصطفى-صلى الله عليه وسلم- له: "هل لك في جلاد بني الأصفر؟" يعني الروم، فيقول: يا رسول الله ائذن لي ولا تفتني؛ فو الله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبًا بالنساء منِّي، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر.
فَرَّ من الموت، وفي الموت وقع،
أعرض عنه صلى الله عليه وسلم، وعذَره، لكن الذي يعلم خائنة الأعين، والذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فَضَحَهُ وأذلَّه، وأنزل فيه قرآنًا يُتلى: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)[التوبة:49].
ويتخلف أناس آخرون عن الخروج، لا رغبةً بأنفسهم عن نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكن غلبتهم نفوسهم لصعوبة الظرف، واشتداد الحرب.
قد آن أوان الرطب، وظلال الأشجار، فاعتذروا بعد عودة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقَبِل عُذْرَهم، وتاب الله عليهم، وأرجأ توبة ثلاثة منهم امتحانًا لهم فَمُحِصُوا حتى: (ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[التوبة:118].
يأتي سبعة رجال مؤمنون صادقون، لكنهم فقراء لم يجدوا زادًا ولا راحلة، وعز عليهم التخلف، نياتهم صادقة لكن ليس هناك عدة، فأتَوْا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون: يا رسول الله لا زاد ولا راحلة، ويبحث لهم صلى الله عليه وسلم عن زاد وراحلة، فلا يجد ما يحملهم عليه فيرجعوا: (وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ)[التوبة:92].
بالله ظلّ السيف للمسلم مثل ظل حديقة خضراء، تنبت حولها الأزهار.
وتدنو ثمار المدينة، ويشتد الحر، ويبتلي الله من يشاء من عباده: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)[العنكبوت:2].
ويخرج صلى الله عليه وسلم، ويستخلف على أهل بيته عليًا -رضي الله عنه-، ويخيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في "ثنية الوداع" ومعه ثلاثون ألفًا، ويأتي المنافقون الذين لا يتركون دسائسهم، وإرجافهم على مر الأيام، يلاحقون أهل الخير والاستقامة، يلمزون ويهمزون ويتندرون ويسخرون، سخر الله منهم، ويستهزئون، والله يستهزئ بهم، يأتون إلى عليٍّ -رضي الله عنه- ويقولون: ما خلفك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا استثقالا لك؟
يريد التخفف منك، وعليٌّ بَشَرٌ تأثَّر لذلك، ولبس دِرعه، وشَهَرَ سيفه يريد الجهاد في سبيل الله، ويلحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويعتنق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويقول: يا رسول الله زَعَم الناس أنك استثقلتني فخلفتني في النساء والصبيان، فتهراق دموعه صلى الله عليه وسلم، ويقول: " كذبوا يا عليُّ، فاخلفني في أهلك وأهلي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟! إلا أنه لا نبي بعدي".
فيقول بلسان الحال: بلى رضيت، بلى رضيت.
وعاد عليُّ -رضي الله عنه-:
يَدعُو جَهارًا: لا إلهَ سِوى الذِي *** خَلَقَ الوُجُودَ وقَدَّرَ الأقْدَارَا
وقبل مسير الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- تقوم فرقة للصَدِّ عن سبيل الله، تُثبِّط الناس بعد أن اجتمعوا في بيت أحدها، تقول -وهي تزهد في الجهاد-: لا تنفروا في الحَرِّ، تشكك في الحق، وترجف برسول الحق، ويتولى الحق -سبحانه- الرد: (وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)[التوبة:81].
هم في مؤامرة الصَدِّ عن سبيل الله، ويأمر صلى الله عليه وسلم بإحراق البيت عليهم، ويُنَفِّذُ ذلك الأمر "طَلْحَةُ" -رضي الله عنه- فيقتحمون الأسوار خوفًا من نار الدنيا، فتنكسر رِجل أحدهم، ويفِرُّ الباقون، ويَعِزُّ جُنْدَ الحق رغم أنوفهم، ويخيب كل منافق خَوَّان.
ويتوجَّه صلى الله عليه وسلم، ويمر بديار "ثَمُود" وما أدراكم ما تلك الديار؟!
ديار غضب الله على أهلها، فتلك بيوتهم خاوية، وآبارهم معطَّلة، وأشجارهم مقطَّعة، فيدخلها وقد غطَّى وجهه، وهو يبكي، ويقول لجيشه: "لا تدخلوها إلا باكين أو مُتباكين لئلا يصيبكم ما أصابهم".
يا لله! هذه أرض سكنها الظَلَمَة، فقولوا لي -بالله فيمن يجالس الظَلَمَة، ويؤيد الظَلَمَة، ويركَن إلى الظَلَمَة، ويكون لهم أنيسًا ولسانًا وصاحبًا-: كيف يكون حاله؟ ألا يخاف أن يغضب الله عليه؛ فيأخذه أخذ عزيز مقتدر؟
(وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)[هود:113].
ويستسقي الناس من بئر في "ديار ثَمُود" فيقول صلى الله عليه وسلم: "لا تشربوا من مائها، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما عَجَنتم من عجين بمائها فاعْلِفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئًا".
ففعلوا امتثالا لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومع الغروب يُعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنها سوف تَهُبُّ رياح شديدة، فلا يخرج أحد من مُخَيَّمِه إلا مع صاحب له، حتى تهدأ الريح، وخالف أمره رَجُلان من المسلمين، لضَعف في إيمانهم، خرج أحدهم ليقضي حاجته فخَنَقَتْه الجِنُّ عند حاجته، وخرج الآخر في طلب بَعِير له، فاحْتَمَلته الريح حتى طرحته في "جبال طَيء" فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للذي أُصيب بخَنْق الجِنِّ، فَشُفِي، فكانت هذه آية من آيات نبوَّته صلى الله عليه وسلم، وأمَّا الآخر، فسُلِّم للنبي -صلى الله عليه وسلم- عند عودته إلى "المدينة".
لا زال صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى "تَبُوك" قد بلغ به الجوع والتعب والإرهاق مبلغًا عظيمًا، لكن في سبيل الله يهون، ومع السَّحَرِ ينام من التعب صلى الله عليه وسلم على دابَّتِه حتى يكاد يسقط، كما في صحيح مسلم- فيقترب منه "أبو قتادة" فيَدْعَمَه بيده حتى يعتدل، ثم يميل مَيلةً أخرى، فيدعمه أبو قتادة حتى يعتدل، ثم يميل مَيلة أشَدَّ من المَيلتين الأُولَيين، حتى كاد يسقط، فيدعمه بيده، فيرفع رأسه صلى الله عليه وسلم، ويقول: من هذا؟ قال: أنا أبو قتادة، فيُكَافِئَه صلى الله عليه وسلم، فبمَّ كافأه؟ قال: "حفظك الله بما حفظت نبي الله يا أبا قتادة".
يقول أهل العلم: فو الله مازال أبو قتادة محفوظًا بحفظ الله في أهله وذريته ما أصابهم سوء حتى ماتوا، وهذا درس عظيم، فإن من حفظ الله حفظه الله، فلا خوف عليه.
إن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، وينزل صلى الله عليه وسلم والمؤمنون منزلا، يقول عمر: في ذلك المنزل وقد أصابنا عطش عظيم حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعتصر قرته فيشربه، وتضل راحلة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويخرج أصحابه يبحثون عنها، فيقوم أحد المنافقين، فيقول: إن محمدًا يزعم أنه نبي ويخبركم بخبر السماء وهو الآن لا يدري أين ناقته، ويأتي جبريل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخبر، ويقول: إنَّ رجلا منكم يقول: إنَّ محمدًا يزعم أنَّه نبي ويخبركم بأمر السماء وهولا يدري أين ناقته، وإني -والله- ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها.
يقول لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هي في هذا الوادي في شعب كذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانْطَلِقُوا حتى تأتوني بها".
فذهبوا فوجدوها كما ذكر صلى الله عليه وسلم، وظهرت آية نبوته، وفُضِحَ هذا المنافق، وطُرِدَ عدو الله من جيش محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويمضي صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى "تبوك".
ويتخلف عنه بعض المسلمين، فيقول الصحابة: فلان تخلف يا رسول الله، فيقول: "دعوه إن يكن فيه خير فسَيُلْحِقَه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه".
ويتأخر "أبو ذر" ببعيره الهزيل، أبطأ به بعيره، فترك بعيره وأخذ متاعه، وحمله على ظهره، وينزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض منازله على الطريق، وينظر ناظر المسلمين، ويقول: يا رسول الله رجلٌ يمشي على الطريق وحده، متاعه على ظهره، فقال صلى الله عليه وسلم: " كن أبا ذر، كن أبا ذر".
فيتأمل الصحابة، فيقولون هو والله أبو ذرٍ يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده".
وتمضي الأيام على هذه المقولة، وتمضي الأعوام، ويُنْفَى أبو ذرٍ إلى "الربدة"، ويحضره الموت هناك، وليس معه إلا امرأته وغلامه، وقبل موته أوصاهما: أن يُكَفِّنَاه ويُغَسِّلاه، ويضعاه على الطريق، وأول ركب يمر بهم يقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأعينونا على دفنه.
ويفعلان ذلك، ويأتي "عبد الله بن مسعود" في رهط من أهل العراق؛ ليعتمروا، وما راعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق، كادت الإبل أن تطأها، عندها قام غلام أبي ذر، وقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأعينونا على دفنه، فاندفع عبد الله بن مسعود باكيًا، يقول: صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تمشي وحدك وتموت وحدك".
ثم نزل هو وأصحابه فدفنوه، ودموعهم تَهْراق على خدودهم.
وليس الذي يجري من العين ماؤها *** ولكنها روحٌ تسيل فتَقْطُرُ
وينتهي المسير بمحمد -صلى الله عليه وسلم- إلى "تبوك"، ويقيم بضع عشر ليلة حافلة بالأحداث المثيرة.
روى "البيهقي" من حديث "يزيد بن هارون" أنَّه صلى الله عليه وسلم لما نام ليلة في "تبوك" أتاه جبريل -عليه السلام- وقال: يا رسول الله قم صَلِّ صلاة الغائب على "مُعاوية بن مُعاوية اللَّيْثِي" فقد تُوفِى بالمدينة، من يا ترى "معاوية؟" عابد صالح يذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه، وكأنَّه صلى الله عليه وسلم يتساءل لِمَ؟ فأُخْبِر أنَّه كان يقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)[الإخلاص:1] قائمًا وقاعدًا وعلى جنب، بالليل والنهار، وقد تُوفِى "بالمدينة" وصُلِّيَ عليه هناك، وشهد الصلاة عليه صفان من الملائكة، في كل صف سبعون ألف ملك.
ف"لا إله إلا الله" قام صلى الله عليه وسلم، وصلَّى عليه، وكان قد سافر صلى الله عليه وسلم إلى "تبوك" وهو مريض فهنيئًا له دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وصلاة الملائكة عليه.
لازالت الأحداث المثيرة تتوالى في "تبوك" يقول "ابن مسعود"-رضى الله عنه-: "ونِمْنًا تلك الليلة وانتبهت وسط الليل، فالتفت إلى فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم أجده، إلى فراش أبي بكر فلم أجده، إلى فراش عمر فلم أجده، وإذ بنار وسط الليل تضيء آخر المعسكر، فذهبت أتبعها؛ فإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حفر قبرًا ومعه أبو بكر وعمر.
وعند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سراج بيده، قد نزل إلى القبر، قال: قلت: يا رسول الله من الميت؟ قال: "هذا أخوك "عبد الله ذو البجادين".
من هو؟
إنه أحد الصحابة، حلت به سكرات الموت بالليل، فقام صلى الله عليه وسلم، وشهد موته، وودعه ودعا له، وحفر قبره بيده الشريفة، وأيقظ أبا بكر وعمر، يقول ابن مسعود: "فو الذي لا إله إلا هو - ما نسيت قوله صلى الله عليه وسلم وهو في القبر، وقد مد ذراعيه لذي البجادين، وهو يقول لأبي بكر وعمر: "أدنيا إليَ أخاكما فدلياه في القبر ودموعه صلى الله عليه وسلم تتساقط على الكفن".
ثم وقف صلى الله عليه وسلم لما وضعه في القبر رافعا يديْه مستقبلا القبلة، يقول: "اللهم إني أمسيت عنه راضيًا فارض عنه، اللهم إني أمسيت عنه راضيًا، فارض عنه".
يقول ابن مسعود: "يا ليتني كنت صاحب الحفرة، لأنال دعاءه صلى الله عليه وسلم".
من هو "ذو البجادين؟
إنه صحابي جليل، أسلم وكان تاجرًا، فأخذ أهله وقومه ماله كله؛ لأنه آمن وهم يريدون له الكفر، أخذوا حتى لباسه، فذهب فما وجد لباسًا غير شملة قطعها إزارًا ورداء -بجادين-، وفر بدينه يريد الله والدار الآخرة.
قدم على المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ذو البجادين، وأُخبِرَ صلى الله عليه وسلم بخبره، فقال: "تركت مالك لله ورسوله، أبدلك الله ببجاديْك إزارًا ورداء في الجنة، أنت ذو البجادين".
فلُقِّب من تلك اللحظة بذي البجادين.
وكان مصرعه في "تبوك" ومضى الركب وخلفوه هناك، لكنهم يجتمعون معه في جنة عرضها السماوات والأرض: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ)[التحريم:8].
ويقيم صلى الله عليه وسلم ب"تبوك" ويدنو من الروم، ويفزعهم، ويكاتب رسلهم، ويفرض عليهم الجزية، وهم صاغرون، ولم يلق كيدًا منهم؛ لأن الله قد نصره بالرعب مسيرة شهر، فلم يقرب إليه الروم خوفًا وفزعًا، وقد كانوا قبل قد عزموا على غزوه في عقر داره: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا)[الطارق: 15- 17].
ويرسل صلى الله عليه وسلم "خالدًا" على رأس أربعمائة مجاهد في سبيل الله إلى "أُكيْدِر" ملك "دومة الجندل" ويخبر صلى الله عليه وسلم خالدًا أنه سيلقاه يصيد بقر الوحش، خرج خالد، ولما بلغ قريبًا من حصنه، وجده قد خرج للصيد، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتلقته خيل الله بقيادة خالد، فاستأسرته، واستلب خالد منه قباء مخوصًا بالذهب قميصًا مخوصًا بالذهب، وبعث به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل قدومه عليه، فجعل المسلمون يتعجبون من هذا القباء، فقال صلى الله عليه وسلم مُزهِّدًا لهم في زخرف الدنيا: "أتعجبون من هذا؟ لَمناديل "سعد بن معاذ" في الجنة خير من هذا".
قدم خالد ب"الأكيدر" وحقن دمه صلى الله عليه وسلم، وضرب عليه الجزية، ولكنه مجرم، ولو علم الله فيه خيرا لأسمعه، نقض العهد في عهد أبي بكر، فقتله خالد -رضي الله عنه وأرضاه-.
وهكذا، نصر الله جنده وأولياءه ورسله وعباده في الحياة الدنيا، وينصرهم يوم يقوم الأشهاد.
عباد الله: ويعود صلى الله عليه وسلم إلى "المدينة" بعد إرهاب أعداء الله من نصارى ويهود ومشركين، يعود في يوم بهيج، لتستقبله "المدينة" لتستقبل نور بصرها صلى الله عليه وسلم، يخرج الأطفال في فرح، ليصطفُّوا إلى مداخل المدينة، وعلى أفواه الطرقات، ليستقبلوا رسول البرية -صلى الله عليه وسلم- أصواتهم -كما حقق "ابن القيم" -عليه رحمة الله-:
طلعَ البدرُ علينَا *** مِن ثنيَّات الوداعْ
وجَب الشكر علينَا *** ما دَعا لله دَاعْ
أيها المبعُوث فينَا *** جئتَ بالأمرِ المُطاعْ
جئتَ شرَّفت المدينةْ *** مرحبًا يا خيرَ داعْ
وهنا قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ "بالمدينة" رجالا، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، ولا وَطَئِتُم موطئًا يغيظ الكفار، إلا كانوا معكم، حبسهم العذر" قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: "نعم، وهم بالمدينة".
ويتبسم صلى الله عليه وسلم، ويمسح الرؤوس، ويقبل ويدعو.
وهكذا انتصر المسلمون في "تبوك" على شهواتهم وأنفسهم، وبالتالي انتصروا على أعدائهم: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحـج:40].
هذه غزوة "تبوك" قائدها محمد -صلى الله عليه وسلم-، جنودها صحابته -رضوان الله عليهم-، عز فيها المؤمنون، وسقط المنافقون، وذل الكافرون وانهزموا، وبالجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله يُنصَر المؤمنون، والمؤمنون على عناية ربهم يتوكلون، لا خوف يُرهبهم، ولا هم في الحوادث يحزنون.
اللهم أنت الناصر لدينك، والمعز لأوليائك؛ افتح لنا فتحًا مبينًا، انصرنا نصرًا عزيزًا، واجعل لنا من لدنك سلطانًا نصيرًا.
اللهم ثبِّت أقدامنا، وزلزل أعداءنا، اللهم أدخل الرعب في قلوبهم، واستأصل شأفتهم، واقطع دابرهم، وأَبِدْ خضراءهم، واجعل تدبيرهم تدميرهم، وأورثنا أرضهم، وديارهم وأموالهم، وكن لنا وليًا، وبنا حفيًّا.
يا من نصرت بماض ضعف أمتنا على الطواغيت، عجل نصرنا الثاني.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: ها قد عشتم بعد أحداث غزوة تبوك التي انتهت -كما عرفتم- بنصر المؤمنين، ولئن انتهت، فما انتهى نورها، وما انتهت دروسها وعبرها ومواعظها، ففي كل حديث منها قصة، وفي كل قصة عظة وعبرة، وفي كل ذكرى منها موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع
هل يكفي سرد أحاديث الماضي، والتغني بالذكر الغابر؟ هل يجزي هذا، وقد تشابكت بأمة الإسلام في هذه الأعصار -حلقات من المحن، وتقاذفتها أمواج من الفتن، وصيح بهم من كل جانب، وتداعى عليهم الأكلة من كل فج؟
لا بد أن نستفيد مما مضى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى)[يوسف:111].
فهاكم بعض دروسها وعبرها، علَّ الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
وأول هذه الدروس: أن هذه الأمة أمة جهاد، ومجاهدة، وصبر، ومصابرة، ومتى ما تركت الجهاد، ضُربت عليها الذلة والمسكنة.
دعِ المِداد وسطِّر بالدَّمِ القانِي *** وأسكتِ الفَمَ واخطبْ بالفمِ الثَّانِي
فَمُ المدافعِ في صدرِ العداة لهُ *** منَ الفصاحةِ ما يُذري بسحبانِ
وثانيها: أن الله -تعالى-، كتب العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدقت وأخلصت.
فها هي دولة الإسلام الناشئة، تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه، وتنتصر عليه: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ)[الحـج:40].
ومن هذه الدروس: أنه ما تسلل العدو سابقًا ولاحقًا إلا من خلال الصفوف المنافقة، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة، إلا من قِبَل أصحاب المسالك الملتوية: (لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)[التوبة:47].
ومنها: أن مواجهة الأعداء، لا يشترط فيها تكافؤ القوى.
يكفي المؤمنين أن يعدُّوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة، ثم يثقوا بالله، ويتعلقوا به ويثبتوا ويصبروا، وعندها يُنصروا. فها هو سلفهم "ابن رواحة" يقول: والله ما نقاتل الناس بعَدد، ولا عُدد، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي كرمنا الله به. ومنها أن الحق لابد له من قوة تحرسه، لا يكفي حق بلا قوة.
فما هو إلا الوحيُ أوحدُّ مُرهَف *** تقيم ظباه أخدعيْ كل مائلِ
فهذا دواء الداء من كل جاهل *** وهذا دواء الداء من كل عاقلِ
دعا المصطفى دهرًا "بمكة" لم يُجَب *** وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف بالكف مسلط له *** أسلموا واستسلموا وأنابوا
ومنها: أن الأعداء لن يَرْكنوا إلى السكون، ولن يصرفوا أنظارهم عن دولة محمد -صلى الله عليه وسلم- سابقًا ولاحقًا، فهم يُجمعون أمرهم وشركاءهم، ويُعمِلُون مكرهم ودسائسهم: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الأنفال:30].
في نهاية هذه الغزوة، ها هي مؤامرة دنيئة يقوم بها أدنياء سفلة عددهم اثنا عشر شقيًا منافقًا، تواطئوا على قتل محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتنفيذ الخطة -في تقديرهم- بمضايقته في عقبة في الطريق إلى "تبوك" ليسقط من على راحلته، فيهلك -على حد زعمهم-، ويصل إلى العقبة تَحُفُّه عناية الله ورعاية الله، "حذيفة" آخذ بخطام ناقته، و"عمار" يسوقها، وإذ بالأشقياء يعترضون الناقة لينفذوا مخطط الشقاء والعار، فيصرخ فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيولوا مدبرين، ويحفظ الله سيد المرسلين، وينزل الله قوله في المنافقين: (وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ)[التوبة:74].
ويرسل بعدها صلى الله عليه وسلم عليهم سهمًا إلى الحي القيوم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ إذ يدعو اللهَ عليهم أن يهلكهم، فيصاب كل واحد منهم بخُرَّاج يخرج في ظهر الواحد منهم، ويدخل إلى قلبه؛ فلم ينجُ منهم أحد؛ فإلى جهنم، وبئس القرار.
ومن دسائس أعداء الله أنهم أرسلوا "لكعب بن مالك" -رضي الله عنه- يوم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهجره أرسلوا إليه، يقولون له: بلغنا أن صاحبك جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة؛ فالْحقْ بنا نُواسِك، لكن "كعبًا" مؤمن علم أن هذا من الابتلاء، فيمَّمَ التنور، فأوقده بالرسالة: (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)[غافر:25].
عباد الله: هذا هو ديدن أعداء الإسلام في الغابر والحاضر في كل زمان ومكان، يتحسسون الأنباء ويترصدون ويتربصون بالإسلام وأهله، وكم من أقدام في مثل هذا ذلَّت؟! وكم من أرجل في مثل هذه الأوحال قد انزلقت؟!
أما كعب فيمَّمها التنور وسجَّرها، وكم في الأمة من أمثال كعب؟!.
فدت نفسي وما ملكت يميني *** فوارس صدقت فيهم ظنوني
ومن هذه الدروس: إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرةٍ أقوى وألف مهند، قضى الله أنه متى ما حادت الأمة عن عقيدتها، وتعلقت بهذا أو بذاك إلا وتقلبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها.
من يتق الله وينصر دينه *** لابد في ساح المعارك يُنصَر
ألا وإن من أعظم الدروس، وليكن الأخير من غزوة "تبوك" -والمسلمون يمرون بأحداثهم المعاصرة ومتغيراتهم الحثيثة- إنه الدرس الجامع الذي يكون من محراب الجهاد وكفى، من محرابه تنطلق قوافل المجاهدين، بالجهاد ترد عاديات الطغيان؛ فيكون الدين لله، ولا تكون فتنة، جهاد بالنفس والمال واللسان والسنان، ويبقى دين محمد -صلى الله عليه وسلم- مهيمنًا.
فيا أمة الإسلام في كل زمان ومكان: اتقوا الله، وأجمعوا أمركم، وذُودوا عن دينكم ومحارمكم؛ فإن من لا يذود عن دينه ومحارمه ولا ينتصر لدينه ذليل حقير غير حقيق بالعزة؛ بل لا تحلو له الحياة، اصبروا، وصابروا، ورابطوا، وبما تمسك به أسلافكم تمسكوا، جاهدوا كجهادهم، واصبروا كصبرهم، وتوكلوا على الله، وثقوا بالله واطمئنوا، وأبشروا، والعاقبة للمتقين: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)[الصافات: 171- 173].
خذوا إيمان إبراهيم تنبت لكم في النار جنات النعيم.
يا أمة الإسلام فانتفضي *** فإن الجرح غائر
والجمع مُذْ فقد العقيدة فهو *** مضطرب وحائر
وجريحنا الأقصى هوى *** وديس بالحوافر
فهناك تعبث في جوانب أرضه *** عُصَب الكوافر
وتسومهم ذلا وخسفًا *** كالبهائم في الحظائر
يا أمتي فلتنفضي عنك *** الغبار وتستعدي
ولتنفري نحو الجهاد بكل *** إقدام وجد
إن الجهاد به نرد لَجاجة *** الخصم الألدِّ
وبدونه نبقى على ما نحن *** من أخذ ورد
يا رب أيقِظْ أمتي حتى تعود *** إلى رحابك
واهدِ الولاة لكي يسوسوها *** بوحي من جنابك
وأمدها بالنصر ليس النصر *** إلا من جنابك
هذه بعض دروس من هذه الغزاة العظيمة، غيض من فيض، وقطر من بحر، وكتب السيرة تفيض بذلك فاتقوا الله، وعوها، وطريق أسلافكم اسلكوها، عودوا فالعود أحمد.
وصلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أمرتم بالصلاة عليه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم أصلح من في صلاحه صلاح للإسلام وللمسلمين، وأهلِكْ من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه وليك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي