ولو أن الحجاج استشعروا هذا المعنى العظيم من معاني الحج، ونقلوا هذا التوحيد إلى ديارهم لاضمحلت مظاهر الشرك من بلدان المسلمين؛ فلا يعظمون إلا الله تعالى، ولا يدعون غيره، ولا يتبركون بأحد من البشر، ولا يطوفون بالمشاهد والقبور، ولا يبنون عليها، ولا يدعون عندها، ولا يذبحون بساحتها، فكل هذا من الشرك الذي لا يرضاه الله تعالى ..
الحمد لله العلي العظيم؛ كتب الحج على المؤمنين، وأجزل الأجر للحجاج والمعتمرين فـ"الْعُمْرَةُ إلى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ ليس له جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ" نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لبى الملبون له محبة وتعظيماً، ولهج الذاكرون بذكره بكرة وأصيلاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ حج حجة واحدة ودَّع فيها أمته، وبيَّن المناسك وعظم الشعائر، وقال للناس:"لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هذه" صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم -عباد الله- بتقوى الله وطاعته، واغتنام هذه الأيام الفاضلة بأنواع الطاعات، وعمارة الوقت بما يرضي الله تعالى؛ فإن العمر يمضي، والأعمال تكتب، وسيجد كل عبد ما عمل في الدنيا من خير وشر، فيا سعادة من وجد في صحيفته عملاً صالحاً، ويا شقوة من وجد غير ذلك (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزَّلزلة:8].
أيها الناس: الحج شعيرة من الشعائر الكبيرة الظاهرة التي تقرب إلى الله تعالى، وهو من أهم العبادات التي ترسخ التوحيد والطاعة لله عز وجل.. ورغم طول السفر، وكثرة الحجاج، وشدة الزحام، ومشقة المناسك فإن الملايين من المسلمين يفدون إلى البيت الحرام حجاجاً ومعتمرين في كل عام، ومن حُرموا ذلك لعجز مالي أو بدني تبكي قلوبهم قبل عيونهم على ما فاتهم من الخير، فسبحان من عبَّدهم له! وسبحان من هداهم إليه! وسبحان من علمهم المناسك! وسبحان من قذف في قلوبهم محبة المشاعر، وتعظيم الشعائر!!
إن مظاهر التوحيد لله تعالى في الحج كثيرة منذ أن يخرج الحاج من بيته يريد البيت الحرام إلى أن يُنهي نسكه فيعود إلى بلده.. توحيدٌ في الإحرام والإهلال، وتوحيدٌ في الطواف والسعي، وتوحيدٌ في منى وفي عرفات وفي مزدلفة، وتوحيدٌ في النحر ورمي الجمار.. توحيدٌ بالأقوال وتوحيدٌ بالأفعال.. توحيدٌ يملأ القلوب إجلالاً لله تعالى ومحبة وتعظيماً وخوفاً ورجاءً..
وفي مِنى يبيت الحجاج محرمين ليلة التاسع متأهبين ليوم عرفة، يُصَلُّون في رحالهم ويقصرون صلاتهم؛ طاعة لله تعالى، فهم يتمون صلاتهم بأمره -سبحانه-، ويقصرونها بأمره عز وجل. ويعودون لمنىً بعد الوقوف والمبيت بمزدلفة؛ ليبيتوا بها ليالي التشريق، وهذا المبيت من واجبات الحج.
إنهم هجروا ديارهم، وفارقوا أحبابهم، وأتوا من كل فج يزدحمون على بقعة صحراوية صغيرة، حرها شديد، وموضعها بعيد.. يفارقون فرشهم الوثيرة، ومساكنهم المشيدة؛ ليبتوا في خيام لا وجه للمقارنة بينها وبين مساكنهم وفرشهم، وكلُ ذلك من أجل ماذا؟ ولِمَ يتحملون شدة الحر وكثرة الزحام؟ إنهم يفعلون ذلك ليس لشيء إلا لإرضاء الله تعالى، وطمعاً في ثوابه؛ فيا لله العظيم ما أعظمه من جمع! وما أشده تأثيراً في القلوب، وأسراً للنفوس؛ ولذا ترون غير الحجيج وهم يشاهدون جمعهم في الشاشات تحنُّ قلوبهم، وتقشعر جلودهم، وتدمع عيونهم؛ غبطة لهم، وتمنياً أنهم كانوا معهم، فشاركوهم بقلوبهم، وإن بقيت أبدانهم في ديارهم.
إنه مظهر من مظاهر التوحيد واضح، ومقام من مقامات العبودية ظاهر، لا يماري فيه إلا جاهل أو مكابر.. يصدرون ضحى يوم التاسع من منىً إلى عرفات وهم يلبون، ويعودون إليها ضحى يوم النحر وهم يلبون، والتلبية إهلال بالتوحيد، ونبذ للشرك: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.
وفي منى تُرمى الجمار، سبعون حصاة لمن تأخر، وتسعة وأربعون لمن تعجل، ويكبر الحجاج مع كل حصاة يرمونها، والتكبير توحيد لله تعالى وتعظيم، فلا شيء أكبر من الله عز وجل.
وعند الجمرات أنزلت أطول سورة في القرآن تدعو إلى التوحيد، وتُفَصِّل التشريع، وتحذِّر من الشرك، وتذكرنا بقصة عدونا الشيطان الرجيم حين وسوس لأبينا آدم عليه السلام، فأكل من الشجرة التي نُهي عنها، وهدف هذه القصة في هذه السورة العظيمة تحذيرنا من وسوسة الشيطان لنا، ووجوب اتخاذه عدواً، وإذا ما استشعر المسلم عداوة الشيطان له باعد بينه وبين ما يريد. والبراءة من الشيطان هي براءة من الشرك، وتحقيق للتوحيد؛ لأن الشيطان يدعو إلى الشرك المعصية، ويصد عن التوحيد والطاعة. روى ابنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنه لما رمى الجمرة قال: "هذا وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَقَامُ الذي أُنْزِلَتْ عليه سُورَةُ الْبَقَرَةِ" رواه الشيخان.
والحاج حين يرمي الجمار فهو لا يزيد على سبع حصيات ولا يُنقص منها، ولا يَعلم لِمَ كانت سبعاً، ولم تكن خمساً أو ثماناً، ويختار من الجمار الحجم الذي ورد في السنة، ولا يرمي بغير ذلك؛ لأنه ممتثل لا مبتدع.. طائع غير عاصٍ.. مستسلمٌ لأمر الله تعالى.. لا يعقل من معنى الرمي، وحكمة مشروعيته، وتحديد مكانه إلا أنه لإقامة لذكر الله تعالى، وبه أمر -سبحانه- عباده على هذه الصفة وفي هذا المكان، وتأسياً بالخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام في رميهما، وقد حكى جابر رضي الله عنه رمي النبي صلى الله عليه وسلم في حجته فقال: "حتى أتى الْجَمْرَةَ التي عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مع كل حَصَاةٍ منها مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ رَمَى من بَطْنِ الْوَادِي" رواه مسلم، وحصى الخذف هي التي يخذف بها بالأصابع.
وفي منى تنحر البدن وتذبح البقر والغنم تنسكاً لله تعالى، وهذا الفعل من أعظم مظاهر التوحيد؛ إذ إن الذبح لغير الله تعالى شرك (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر:2] فهي من الله تعالى، وإليه سبحانه، وتذبح على اسمه، وتقرباً له، ومنى موضع لهذا التوحيد، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ" رواه أبو داود.
وتَقرَّب النبيُ صلى الله عليه وسلم في ذلك المشعر العظيم لله تعالى بنحر مئة بدنة؛ كما في حديث جابر رضي الله عنه قال: "ثُمَّ انْصَرَفَ إلى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بيده ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ ما غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ في هَدْيِهِ" رواه مسلم.
وبعد الرمي يحلق الحاج رأسه؛ قربة لله تعالى، ويتحلل من إحرامه، فهو يحرم تعبداً، ويحلُّ تعبداً، وهذا أبلغ ما يكون في ترسيخ العبودية لله تعالى، والاستسلام له بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة.
وهذه الشعائر العظيمة في مشعر منى علتها المنصوصة إقامة ذكر الله تعالى بالأقوال والأفعال. بل كل مناسك الحج هذه علتها وغايتها الكبرى، والذكر من أبلغ معاني التوحيد، وقد قال الله تعالى في أيام منى (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة:203] وروت عَائِشَةُ رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ الله" رواه أبو داود.
وفي أيام التشريق يرمي الحاج الجمار الثلاث، ويدعو طويلاً بعد الجمرة الصغرى وبعد الوسطى، ولا يدعو بعد الكبرى، وهذا الدعاء في هذين الموضعين من سنن النبي صلى الله عليه وسلم،كما روى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: "أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَقْدَمُ فَيُسْهِلُ فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ طَوِيلًا وَيَدْعُو بِرَفْعِ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ يَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ طَوِيلًا ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ ذَاتَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ، وَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ".
قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى: "كان ابن عمر رضي الله عنهما يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ الرجل سورة البقرة" وعن هارون بن إبراهيم قال: "رأيت عطاء بن أبي رباح على حمار واقفاً عند الجمرة الوسطى قدر ما كان إنسانٌ قارئاً سورة البقرة" فتأملوا تتابع السلف رحمهم الله تعالى واحداً عن واحد في تحقيق هذا المظهر العظيم من مظاهر التوحيد عند الجمرات في مشعر منى؛ وذلك بالحرص على الدعاء، وإطالته وفقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أن الدعاء من أخص خصائص التوحيد؛ فلا يجوز أن يصرف منه شيء لغير الله تعالى، وقد جاء في الحديث أن الدعاء هو العبادة. والله تعالى قد ذم المشركين حين دعوا غيره في الرخاء، ودعوه في الشدة (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت:65].
ولو أن الحجاج استشعروا هذا المعنى العظيم من معاني الحج، ونقلوا هذا التوحيد إلى ديارهم لاضمحلت مظاهر الشرك من بلدان المسلمين؛ فلا يعظمون إلا الله تعالى، ولا يدعون غيره، ولا يتبركون بأحد من البشر، ولا يطوفون بالمشاهد والقبور، ولا يبنون عليها، ولا يدعون عندها، ولا يذبحون بساحتها، فكل هذا من الشرك الذي لا يرضاه الله تعالى.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يرضيه، وأن يجنبنا ما يسخطه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع قريب..
وأقول قولي هذا وأستغفر الله...
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واقدروا هذه الأيام قدرها، واعمروها بأنواع الطاعات؛ فإن العمل فيها أفضل منه في غيرها؛ كما في حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله عز وجل ولا أَعْظَمَ أَجْرًا من خَيْرٍ يعمله في عَشْرِ الْأَضْحَى، قِيلَ: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قال: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله عز وجل إلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ"، قال الراوي: وكان سَعِيدُ بن جُبَيْرٍ إذا دخل أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حتى ما يَكَادُ يَقْدِرُ عليه"رواه الدارمي.
ومما شرع الله تعالى لكم في هذا الموسم الكريم الأضحية؛ فإنها فداء أبينا إسماعيل، وسنة الخليلين عليهما السلام، وقد ضحى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قال: "ضَحَّى النبي صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ على صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بيده" رواه الشيخان.
ومن أراد أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره إلى أن تُذبح أضحيته؛ لحديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أحدكم أَنْ يُضَحِّيَ فلا يَمَسَّ من شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شيئاً" وفي رواية: "فلا يَأْخُذَنَّ شَعْرًا ولا يَقْلِمَنَّ ظُفُرًا" رواه مسلم.
ومن طرأت عليه الأضحية بعد أن أخذ من شعره وأظفاره فإن أخذه منها لا يمنعه من الأضحية، ومن الحرمان العظيم أن يترك المسلم سنة الأضحية المؤكدة مع القدرة عليها لأجل تحريم الأخذ من الشعر والأظافر، وأكثر من يقع في مثل ذلك من يحلقون لحاهم من إخواننا؛ لأن كثيراً منهم لا يطيقون صبراً عليها عشر ليال، هدانا الله تعالى وإياهم لما يرضيه.
أيها الإخوة: عظموا الله تعالى في العيد كما تعظمونه في العشر؛ فإنه أفضل الأيام عند الله تعالى، وهو يوم الحج الأكبر، وفيه تراق الدماء تعظيماً لله تعالى وتوحيداً وعبادة وقرباً، واحذروا المنكرات؛ فإنها سبب لقسوة القلوب والكسل عن الطاعات (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ) [الحج:32].
وصلوا وسلموا على نبيكم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي