جعل الإسلام: الإيمان بالله الواحد، المتصف بالكمال المطلق، وبجميع صفات الكمال، أساسا لتطهير العقل، من الوثنية والخرافة؛ لأنهما انحطاط بالعقل إلى درك لا يليق بالإنسان، ولذلك حاربهما الإسلام حربا شديدة، في جميع صورهما الظاهرة والخفية؛ فحرم الإسلام: الحلف بـ...
الحمد لله آناء الليل وأطراف النهار، ملء السماوات وملء الأرض حيثما توجه الإنسان وحيثما استقر.
الحمد لله العلي القادر، العزيز القاهر، القدير الذي لا ينسى، الحكيم الذي لا يضل.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأولاده، وخلفائه الراشدين الهادين المهدين من بعده سيدنا أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى باقي الصحابة والقرابة والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: الإسلام جعل: العبادات وسيلة لتطهير العقل والنفس والسلوك؛ لأن أساس الحياة الصالحة السعيدة طهارة العقل والنفس والسلوك.
جعل الإسلام: الإيمان بالله الواحد، المتصف بالكمال المطلق، وبجميع صفات الكمال، أساسا لتطهير العقل، من الوثنية والخرافة؛ لأنهما انحطاط بالعقل، إلى درك لا يليق بالإنسان، ولذلك حاربهما الإسلام حربا شديدة، في جميع صورهما الظاهرة والخفية؛ فحرم الإسلام: الحلف بغير الله -عز وجل-، إبعادا للإنسان عن الوثنية والشرك، وتحقيقا لتنزيه الخالق -عز وجل-، فقال صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت".
وحينما رأى سيدنا عمر -رضي الله عنه- أن الناس بدؤوا يتبركون بالشجرة التي جرت تحتها بيعة الصحابة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الموت في سبيل الله، قطعها سيدنا عمر -رضي الله تعالى عنه- ليقطع الطريق أمام وقوع الإنسان في التشبيه بين التوحيد وبين الشرك، ولكي يكون بعيدا عن الخلط بين الخالق وبين المخلوق؛ لأن القسم لا يكون إلا بمقدس، وهو الله -عز وجل-.
وإذا كان الإسلام اعتبر العبادات وسيلة لتطهير العقل والنفس والسلوك -كما قلت- فقد وضع ضوابط تكفل تحقيق تلك الأهداف، من هذه الضوابط: أن الإسلام حرر العبادة عن قيد الوساطة والوسطاء، فالمؤمن يتصل بربه -عز وجل- من غير وسيط ولا وسطاء: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)[الغاشية: 21-22].
(لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)[آل عمران:128].
وحرر الإسلام أيضا العبادة من قيد المكان، فكل مكان صالح للعبادة وللتوجه إلى الله -عز وجل-، فحيث ما كان الإنسان في البر، أو في الهواء، أو في أعماق الماء، يستطيع أن يتصل بربه -سبحانه-: "وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا".
كما أن الإسلام أيضا وسع من مفهوم العبادة، فليست العبادة فقط صلاة وصياما، بل كل عمل مفيد نافع مباح مشروع، يعود على الفرد، أو على الجماعة بالخير، إذا فعله المسلم بنية التقرب إلى الله -عز وجل-، والامتثال لأمره، فله ثواب المتعبدين، وله ثواب الطائعين.
حتى العرض الدنيوي، والمتع الطبيعية، من أكل، أو شرب، أو نوم، أو نزهة بريئة، إذا قصد المؤمن بها أن يتقوى على طاعة الله، وعلى القيام بواجباته الدينية والدنيوية، إذا قصد بها أن يكون المؤمن القوي الذي عناه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".
إذا قصد بهذه المتع أن يعف عن المحرمات، وعن الانحرافات، سواء في نفسه، أو في أهله، أو في ولده، فهو في عبادة.
ومن هنا ندرك أن الإنسان لم يحرم على المسلم متع الحياة، وإنما أراد منه أن يسلك فيها الطرق المشروعة، التي لا عدوان فيها، أو تجاوز على حقوق الآخرين، أو على حدود الفضيلة، أو على مصالح المجتمع.
فالمسلم يتناول حظوظه، وهو مراقب لله -عز وجل-.
هذه الحظوظ وسيلة للآخرة، وليست هدفا في الدنيا، وإنما يحقق قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ)[القصص:77].
ومن هنا عبر الفقهاء، وقالوا: "إن النية الصالحة تجعل من العادة عبادة".
أي تجعل من الأعمال الطبيعية العادية، ومن الحظوظ الدنيوية، عبادة من العبادات، ولهذا قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك".
أي حتى ما تنفقه على نفسك وأهلك وولدك وزوجك إذا نويت بذلك أن تعفهم عن الحاجة وعن الحرام وعن الانحراف: "فإن لك بذلك صدقة".
وهذا من يسر الإسلام وعظمته، حتى جعل الأكل والشرب والنوم، عبادة من العبادات، إذا اقترنت هذه الأفعال بالنية الصالحة.
وقد يقول قائل: ما أهمية هذه النية؟
أهميتها أن الإنسان بهذه النية دائم المراقبة لله -عز وجل-، فيكون معصوما من الانزلاق، في الانحرافات.
بينما من يتمتع باللذائذ، ومتع الحياة، بدون نية التقرب إلى الله -عز وجل-، تكون متعه سبيلا للانزلاق في المحرمات وفي المكاره.
ولهذا نجد أن المؤمن الصادق الصالح، كل حركة من حركاته، وكل عمل من أعماله، فهو في طاعة، وهو في عبادة، ونذكر في هذا قول الله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ)[محمد: 12].
عملية الأكل واحدة، ولكن المؤمن حينما يكون قاصدا النية الصالحة، فإن يبتعد عن الانزلاق، وعن الانحراف.
وهو متحقق بالمراقبة لله -عز وجل- في كل عمل من أعماله، وفي كل سلوك من صفاته.
بينما غير المؤمن، أو المتساهل في أمر النية، فإنه يفقد أجرا عظيما، وثوابا كبيرا.
هذا إذا كان مع الإيمان، أما بدون الإيمان: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا)[الفرقان: 23].
وإذا كان الإسلام -أيها الإخوة الأحبة- قد وسع من مفهوم العبادة، حتى جعل الأعمال العادية، والحظوظ الدنيوية، والمتع الشهوانية، جعلها عبادة من العبادات، ولكن هذا لا يغني أبداً عن المراكز الأساسية للعبادة التي اعتبرها الإسلام أركانا أساسية، ألا، وهي: الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج.
هذه الأركان الأربعة، بعد ركن الشهادتين، لا بد منها، ولا بد من التقيد بها؛ لأنها دليل على إيمان المؤمن.
وما يزعمه بعض الجاحدين بأن الدين في القلب، وفي العمل، ولا حاجة للصوم، ولا للصلاة، ولا لهذه الفرائض، طالما تعامل الإنسان مع الآخرين تعاملا سليما صحيحا.
هذا قول قصد به القضاء على القيم، وعلى الدين من أساسه.
ولو صح هذا القول لجاز لكل ملحد مضلل، ضال، مخرب: أن يدعي أنه من أول المتعبدين، فلا بد من هذه الأركان، ولا يغني عنها شيئا؛ لأن هذه الأركان وسيلة لتحقيق الأهداف الصحيحة في السلوك والمعاملة.
أليس الله -عز وجل- يقول: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)[العنكبوت:45].
والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء لم يزدد من الله إلا بعدا" أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وأيضا الزكاة: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا)[التوبة:103].
وأيضا الصوم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة:183].
وأيضا الحج: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)[الحـج:27].
فهذه العبادات هي أساسية وضرورية لا بد منها، وهي وسائل -كما قلت- لتحقيق الأهداف التي تجعل من الإنسان في هذه الحياة ملكا من ملائكة السماء، يسير على هذه الأرض، ليحقق أخلاق السماء.
وهذه العبادات جاءت متنوعة منها عبادات بدنية، كالصلاة والصوم، ومنها عبادات مالية محضة، كالزكاة، ومنها عبادات مالية وبدنية، كالحج والعمرة، وأيضا منها عبادات متكررة كل يوم، كالصلاة، ومنها عبادات في السنة مرة وهو الصوم، ومنها عبادات في العمر مرة، وهي عبادة الحج.
ويجدر بنا -أيها الإخوة- أن نذكر قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ من استطاع إليه سبيلا".
ونذكر قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه عُمَر بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا".
قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ؟ قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ".
قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ؟
قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ".
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ؟
قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ؟
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا؟
قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: "يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ؟" قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ"
أي يعلمكم أركان الإسلام والإيمان والأحكام الهامة في هذا الدين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد وكفر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، سيد الخلائق والبشر، الشفيع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى أصحابه ما اتصلت عين بنظر، وسمعت أذن بخبر.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فاتقوا الله العلي حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، وتزودوا من دنياكم لأخرتكم عملا يرضاه.
واعلموا أنه لا يضر وينفع، ويصل ويقطع، ويفرق ويجمع، ويعطي ويمنع، يخفض ويرفع، إلا الله.
واعلموا: أن الله -سبحانه- وله الأمر، أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته المسبحة بقدسه، فقال وعز من قائل مخبرا وآمرا: (023
.)[الأحزاب: 56].
اللهم فصل وسلم وبارك على سيدنا محمدا ما تعاقبت الأوقات.
اللهم أيد الإسلام والمسلمين، وانصر يا مولانا كلمة الحق والدين، وبدد اللهم شمل الكفرة والفسقة والملحدين.
اللهم عليك بكل ظالم وباغ ومعتد وخائن يخون الإسلام والمسلمين، يا رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي