امرؤ فيه جاهلية

هلال الهاجري
عناصر الخطبة
  1. قصة أبي ذر مع غلامه .
  2. احتقار النَّاسِ والتَّكبر عليهم سُنَّةٌ إبليسيَّةٌ قديمةٌ .
  3. الرابطة الإيمانية بين المؤمنين .
  4. أعظمُ صِلَةٍ بينَ النَّاسِ. .

اقتباس

أيُّها الفاخرُ بالحسبِ .. ويا أيُّها الطاعنُ في النَّسبِ .. هل أنتَ من اخترتَ نسبَك؟ .. وهل من تعيبُ عليه قد اُستشيرَ في حسبِه؟ .. أمْ أن اللهَ -تعالى- اختارَ لكما ذلكَ .. إذاً ففيمَ التَّفاخرُ والطَّعنُ فيما اختارَه اللهُ وليسَ لك فيه يدٌ؟ .. بل قد يكونُ من تسخرُ منه خيراً عندَ اللهِ تعالى منكَ .. تأملوا طويلاً في قولِه -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) .. تجدْ فيها الرَّابطةَ الحقيقيَّةَ .. عقدٌ عَقدَه اللهُ بينَ المؤمنينَ، فإذا وُجدَ الإيمانُ من أيِّ شَخصٍ كانَ، في مَشرقِ الأرضِ أو في مَغربِها، مهما كانَ جِنسُه أو لونُه أو عِرقُه أو نسبُه، فإنَّه أَخٌ لجميعِ المؤمنينَ، يُحبُّونَه، ويحبُّونَ له ما يُحبُّونَ لأنفسِهم، ويَكرهونَ له ما يَكرهونَ لأنفسِهم .. وهذه هي أعظمُ صِلَةٍ بينَ النَّاسِ .. قَالَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ" ..

الخطبة الأولى:

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

 (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].. أَمَّا بَعْدُ:

عَنِ المَعْرُورِ بنِ سُوَيْدٍ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِالرَّبَذَةِ، وَرَأَيْتُ عَلَيْهِ بُرْدًا، وَعَلَى غُلاَمِهِ بُرْدًا، فَقُلْتُ: لَوْ أَخَذْتَ هَذَا فَلَبِسْتَهُ كَانَتْ حُلَّةً، وَأَعْطَيْتَهُ ثَوْبًا آخَرَ، فَقَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلاَمٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَنِلْتُ مِنْهَا، فَذَكَرَنِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: "أَسَابَبْتَ فُلاَنًا؟" قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "أَفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ؟" قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ"، قُلْتُ عَلَى حِينِ سَاعَتِي: هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ؟ - أيْ: هَلْ فِيَّ جَهْلٌ وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ- قَالَ: "نَعَمْ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ يُكَلِّفُهُ مِنَ العَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ، فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ".

عبادَ اللهِ .. إنه الدَّاءُ الخطيرِ .. والوباءُ الكبيرُ .. إذا شاعَ في أَحدِ المُجتمعاتِ .. نَتجَ عنه الكراهيَّةُ والاختلافاتُ .. ولذلكَ لم يكنْ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- ليتركَ التَّوجيهَ وبيانَ الخطأِ في مسألةِ عظيمةٍ كهذه .. حتى لو كانَ الفاعلُ هو من قالَ فيه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "مَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ، وَلَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ، مِنْ رَجُلٍ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ".

فكم نحتاجُ في زمانِنا هذا أن نقولَ لمن يحتقرُ النَّاسَ ويعيبُ أنسابَهم: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ .. ولكن هل يا تُرى سيكونُ له إيمانُ أبي ذرٍّ، فينتفعُ بالذِّكرى سائرَ حياتِه؟!

وحيثُ إن الطعنَ في الأنسابِ من أمرِ الجاهليَّةِ، كما قالَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قَالَ: "أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ" ..

فقد حذَّرَ منها في أعظمِ تَجمُّعٍ حَدَثَ في زمانِه وهو في حَجَّةِ الوداعِ أمامَ أكثرِ من مائةِ ألفِ مُسلمٍ، حينَ قالَ: "أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ" وذكرَ من أمورِ الجاهليَّةِ: "يَا أَيُّهَا النَّاُس، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ لأَحْمَرَ عَلىَ أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟" قَالُوا : بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-".

ولذلكَ لو قرأتَ القرآنَ كُلَّه من أولِه إلى آخرِه ما وجدتَ أن اللهَ تعالى مدحَ أحداً بنسبِه .. وإنما هو التَّقوى والإيمانُ كما قالَ تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13] .. وحينَ ذكرَ أولياءَه بقولِه: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس: 62].. ذكرَ صفاتِهم (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس: 63] .. فمن كان مؤمناً تقيَّاً كانَ للهِ وليّاً .. أيَّاً كانَ حسبُه ونسبُه.

فيا أيُّها الفاخرُ بالحسبِ .. ويا أيُّها الطاعنُ في النَّسبِ .. هل أنتَ من اخترتَ نسبَك؟ .. وهل من تعيبُ عليه قد اُستشيرَ في حسبِه؟ .. أمْ أن اللهَ -تعالى- اختارَ لكما ذلكَ .. إذاً ففيمَ التَّفاخرُ والطَّعنُ فيما اختارَه اللهُ وليسَ لك فيه يدٌ؟ .. بل قد يكونُ من تسخرُ منه خيراً عندَ اللهِ تعالى منكَ .. قالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 11] .. فميزانُ اللهِ -تعالى- هو التَّقوى والإيمانُ والعملُ الصَّالحُ.

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: "مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: "مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟"، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا".

بل إن احتقارَ النَّاسِ والتَّكبرَ عليهم سُنَّةٌ إبليسيَّةٌ قديمةٌ .. حينَ قالَ لهُ ربُّه سبحانَه: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) .. فَطُردَ من رحمةِ اللهِ -تعالى- .. ولازمتْه اللَّعنَّةُ .. وأصبحَ من أهلِ النَّارِ الخالدينَ فيها أبداً .. هو ومن كانَ على شاكلتِه من المُتكبرينَ .. ولذلك جاءَ في الحديثِ: "احْتَجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتْ النَّارُ: فِيَّ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتْ الْجَنَّةُ: فِيَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، قَالَ: فَقَضَى بَيْنَهُمَا إِنَّكِ الْجَنَّةُ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَإِنَّكِ النَّارُ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكِلَاكُمَا عَلَيَّ مِلْؤُهَا".

وهي طريقةٌ جاهليَّةٌ جهلاءِ بدأتْ في أولِ الأممِ الكافرةِ .. حينَ جاءَ نوحٌ عليه السَّلامُ لقومِه بالحقِّ (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) [هود: 27].. فكانَ احتقارُهم لأتباعِ الأنبياءِ .. سبباً للكفرِ والذَّمِ والشَّقاءِ.

ولذلكَ جاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَل- قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ –أيْ: كِبْرَها- وَفَخْرَهَا بِالآْبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلاَنِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ".

لَعَمْـرُكَ ما الإنسانُ إلا بِدينِهِ *** فَلا تترُكِ التَقـوى اتِّكالاً على النَسَـبْ

فَقَدْ رَفَعَ الإسلامُ سلمانَ فــارِسٍ *** وَقَدْ وَضَعَ الشِــركُ الشَريفَ أبا لَهَـبْ

بل قدْ جاءَ الوعيدُ الشَّديدُ على من طعنَ في الأنسابِ كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ جُثَاءُ جَهَنَّمَ"، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ قَالَ: "نَعَمْ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى، وَلَكِنْ تَسَمَّوْا بِاسْمِ اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ عِبَادَ اللَّهِ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ".

أتدرونَ لماذا يكونُ من جُثَاءِ جَهَنَّمَ؟ .. لأن الجنَّةَ لا يدخلُها من كانَ في قلبِه مثقالُ ذرةٍ من كِبْرٍ .. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ"، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ –أيْ: ردُّ الحقِّ-، وَغَمْطُ النَّاسِ –أيْ: احتقارُهم-" .. بل قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ، الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ" .. فكيفَ يهونُ على الطاعنِ في الأنسابِ .. سماعَ هذا الوعيدِ الشَّديدِ والعِقابِ.

أيُّها الطالبُ فخرًا بالنسبْ *** إنَّما الناسُ لأمٍّ ولأبْ

هل تُراهم خُلِقوا من فِضَّةٍ *** أو حديدٍ أو نُحاسٍ أو ذَهبْ

أو تُرى فَضَّلَهم في خَلْقِهم *** هل سوى لحمٍ وعَظمٍ وعَصَبْ

إنما الفضلُ بحلمٍ راجحٍ *** وبأخلاقٍ كرامٍ وأدبْ

ذاك مَن فاخر في النَّاس به *** فاق مَن فاخر منهم وغَلَبْ

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرْآنِ العَظِيمِ وَنَفَعَنِي وَإِيَاكُم بِمَا فِيهِ مِن الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ .. أَقُولُ قَولِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِكَافَةِ المُسْلَمَين مَن كُلِ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ الذي أَنعمَ علينا بالإسلامِ وشَرحَ صدورَنا للإيمانِ، أَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأَشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمداً عبدُه ورسولُه -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وأصحابِه أجمعينَ .. أما بعد:

يا أهلَ الإيمانِ .. تأملوا طويلاً في قولِه -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) .. تجدْ فيها الرَّابطةَ الحقيقيَّةَ .. عقدٌ عَقدَه اللهُ بينَ المؤمنينَ، فإذا وُجدَ الإيمانُ من أيِّ شَخصٍ كانَ، في مَشرقِ الأرضِ أو في مَغربِها، مهما كانَ جِنسُه أو لونُه أو عِرقُه أو نسبُه، فإنَّه أَخٌ لجميعِ المؤمنينَ، يُحبُّونَه، ويحبُّونَ له ما يُحبُّونَ لأنفسِهم، ويَكرهونَ له ما يَكرهونَ لأنفسِهم .. وهذه هي أعظمُ صِلَةٍ بينَ النَّاسِ .. قَالَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ" ..

وهي سببُ الأُلفةِ والمحبةِ بينَ النَّاسِ .. كما قالَ -تعالى-: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 63].. وعندما تنقطعُ الأنسابُ (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) .. تبقى هذه الرَّابطةُ قويَّةٌ صامدةٌ .. "فيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ لِجَلاَلِي؟ الْيَوْمَ أَظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي؛ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي".

هذه الأخوةُ هي التي جمعتْ بينَ أبِي بكرٍ من تَيمٍ، وعُمرَ من بَني عَديٍ، وخَالد من بني مَخزومٍ، وسلمانَ الفَارسيِّ، وصُهيبٍ الرُّوميِّ، وبِلالِ الحَبشيِّ، وسائرِ الصَّحابةِ رضوانِ اللهِ عليهم .. فكانتْ من أكبرِ النِّعمِ عليهم (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103].

فيا من لا زلتَ تفتخرُ بنسبِك .. انظرْ إلى عملكَ .. وأين منزلتُك من ربِّكَ .. واجعلْ نصبَ عينيكَ قولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ".

الـلهم إنَّا نسألـُـك فعـلَ الخيراتِ .. وتركَ المنكراتِ .. وحبَ المساكينِ .. وأن تغـفـرَ لنا وترحمنا وتتوبَ علينا .. واٍذا أردتَ بقـومٍ فـتنةً .. فـتوَفـنا غـيرَ مفـتونينَ .. ونسألُك حُبَـك.. وحبَ مَن يُحـبـُـك.. وحبَ عـملٍ يقـربُنا اٍلى حـبـِك .. يا ربَّ العــالمـينَ ..

اللهم انا نعـوذُ بك من عـملٍ يُخزينا ، ونعـوذُ بك من صاحبٍ يؤذيـنا .. ونعـوذُ بك مِن أملٍ يـُـلهينا .. ونعـوذُ بك من فـَقـرٍ يُـنسينا ..ونعـوذ بك من غِـنى يُـطغـينا .. اللهم إنا نعـوذُ بك من منكراتِ الأخلاقِ والأعـمالِ والأهـواءِ والأدواءِ ..

اللهم احفـظـنا بالإسلامِ قائمـينَ .. واحـفـظـنـا بالإسلامِ قاعـدينَ .. واحفـظـنا بالإسلامِ راقدينَ ولا تـُـشمِّتْ بنـا عـدوًا ولا حاسـدينَ.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي