وحين يستقر في النفوس اسم الله "الحكيم", فإن قلب المؤمن حينها يحب ربه الحكيم، ويسلّم لدين الله، ويوقن أن أوامر الله لها حكمة وإن غابت عنا, وكم لله من حِكمٍ في العبادات وإن شقّت! وكذا الحال في المنهيات، فيها حكم بالغة، قد تظهر للمكلّف وقد لا تظهر، فهو الحكيم العليم.
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى, وأسعد وأشقى، وأضل بحكمته وهدى، ومنع وأعطى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى، والرسول المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن من أسماء الله: "الحكيم", اسم ساقه الله في القرآن في واحد وتسعين موضعًا تقريباً.
ومعنى "الحكيم": الذي يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها مواقعها, ولا يأمر إلا بما فيه الخير، ولا ينهى إلا عما فيه الشر, ولا يعذِّب إلا من استحق, ولا يُقدِّر إلا ما فيه حكمة وهدف, فأفعاله سديدة، وصنعه متقن, فلا يقدِّر شيئاً عبثاً, ولا يفعل لغير حكمة؛ بل كل ذلك بحكمةٍ وعلمٍ وإن غاب عن الخلائق.
خَلَقَ الخلق لحكمةٍ, وقدّر الموت والحياة والجنة والنار لحكمة شريفة وهي العبادة, يسخر هذا لخدمة هذا بحكمته، وهو الحكيم, أحصى كل شيء خلقه ثم هدى، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر:49]، أرزاقٌ مكفولة, وأعمال مقدرة, وخلائق مختلفة, وكون محكم لا يختل لحظة واحدة, شمس وقمر, نجوم وجبال, لو طال خروج الشمس لهلك العباد، ولو تأخر القمر على الناس لهلكوا, (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الروم:27].
الحكيم يقدّر على العبد المصيبة والبلاء, ويحوّل حال الرخاء, فتحل الأحزان، ليس ذلك عبثاً, بل لحكم عظمى.
أيها الإخوة: والحكيم -سبحانه- خالف بين الناس في معايشهم وأوصافهم فلم يجعلهم سواءً؛ لحكمة, قال ابن القيم رحمه الله: " الله -سبحانه- يحب أن يشكر, ولذا فاوت بين عباده في صفاتهم الظاهرة والباطنة في خلقهم وأخلاقهم وأديانهم وأرزاقهم ومعايشهم وآجالهم، فإذا رأى المعافى المبتلى والغنيُ الفقير والمؤمنُ الكافرَ عظُم شكره لله وعرف قدر نعمته عليه وما فضله به على غيره فازداد شكرا وخضوعا واعترافا بالنعمة, فالضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتبين الأشياء، ولولا خَلقُ القبيح لما عرفت فضيلة الجمال والحسن، ولولا خَلقُ الظلام لما عرفت فضيلة النور، ولولا خلق أنواع البلاء لما عُرف قدر العافية، ولولا الجحيم لما عرف قدر الجنة، ولو جعل الله -سبحانه- النهار سرمدا لما عرف قدره، ولو جعل الليل سرمدا لما عرف قدره, وأعرف الناس بقدر النعمة من ذاق البلاء. اهـ.
أيها الكرام: ومن حكمة الحكيم أنْ فاضَل بين الناس، فوفّق قوماً للدين, ووكل قوماً لأنفسهم فاختاروا الكفر, ولا يعجز الله هدايتهم، قال ابن القيم -غفر الله له-: في خَلق إبليس من الحكم والمصالح والخيرات التي ترتبت على وجوده ما لا يعلمه إلا الله، ومن حِكم إيجاده أنه -سبحانه- جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته وأصرّ على معصيته, وأنه محكٌّ امتحن الله به خلقه ليتبين به خبيثهُم من طيبهم, ومنها أنه -سبحانه- يحب أن يُظهر لعباده حلمه وصبره وأناته وسعة رحمته وجوده فاقتضى ذلك خلق من يشرك به ويضاده في حكمه. اهـ.
عباد الله: وحين يستقر في النفوس اسم الله "الحكيم", فإن قلب المؤمن حينها يحب ربه الحكيم، ويسلّم لدين الله، ويوقن أن أوامر الله لها حكمة وإن غابت عنا, وكم لله من حِكمٍ في العبادات وإن شقّت! وكذا الحال في المنهيات، فيها حكم بالغة، قد تظهر للمكلّف وقد لا تظهر، فهو الحكيم العليم.
عباد الله: إيماننا بأن الله حكيم يجعلنا نوقن بأن له الحكمةَ البالغة في أقداره وقضائه، فتنجلى الأمور للعبد، ويعلم حينها أن ما قدّره الله هو الخير, قال الله -تعالى-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216]، فعسى أن يكون في المحبوب شراً لك، أو في المكروه خيرا لك.
ولأجل هذا فقد كان الأنبياء والصالحون يسلّمون لله في قضائه؛ لعلمهم بحكمته, ويتذكرون عند الملمّات اسم الله الحكيم, أوَلَمْ يقل يعقوب حين علم بحجز ابنه الثاني: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف:83]؟.
فسلِّم الأمر لمولاك, وارض بتقديره, وأيقن بحكمته, فلن يقدّر إلا الخير, ولن يأمر إلا بالأصلح, ولن ينهى إلا عما يضر, وله الحكمة البالغة، والقدرة الباهرة.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه المصير، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله البشير النذير، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بحسن توفيق وتدبير.
أما بعد: حين يشتد الذل على الأمة وتزداد الكربة والمحنة يتساءل البعض: أين نصرة الله لعباده؟ وما الحكمة من تأخر النصر؟ أليس الله على كل شيء قدير؟ فلمَ لا ينصر المؤمنين؟ ما بالنا نرى الشر منتفشاً...؟ وهنا، لزامٌ على المؤمن أن يستذكر اسم الله الحكيم, وكم لله من حكمة في تأخير النصر! ولن يقدر الله أمراً إلا لحكمة.
فالنصر السريع الذي لا يكلف عناء، والذي يتنزل هينا لينا على القاعدين المستريحين، لا يعرف الناس قدره، وربما فرطوا فيه؛ لأنه رخيص الثمن، لم تبذل فيه تضحيات عزيزة.
وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من اللّه لا تكفل النصر، إنما يتنزل النصر من عند اللّه عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى اللّه.
وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها باللّه. وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تُحسن نيتها إحساناً كما يريد ربنا فهي قد تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو وطنيتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها. واللّه يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئا من المشاعر الأخرى التي تلابسه.
وقد يبطئ النصر حتى ينكشف أهل الباطل عن حقائقهم، لأنهم كانوا مستورين؛ فأخر الله النصر لتظهر حقيقتهم.
من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه اللّه، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام, مع دفاع اللّه عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية.
وجماع الأمر -أيها المبارك- أن توقن أن تقدير الله لحكمة، فافعل الأسباب, وارض بتقدير رب الأرباب, ولا يرينّ منك سخطاً ولا اعتراضاً, قف عند ما نهى, وأدِّ ما طلب، فذاك منه لحكمة, وهو الحكيم -سبحانه- الذي له الحكمة البالغة في كل أموره, ولا يُخلق مخلوق ولا يتحرك ساكن ولا يسكن متحرك إلا بحكمة, (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) [التين:8]؟ بلى! ونحن على ذلك من الشاهدين.
ومن معاني الحكيم: من له الحُكم، (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) [يوسف:40]، فإذا عرفت أن الله -تعالى- له الحكمة فيما شرع وفيما خلق وقدَّر حينئذٍ تستسلم ولا تجادل؛ لأن الذي حكم بذلك هو الله.
ومن معاني الحكيم، أي: العليم، الذي وسع كل شيء علما.
اللهم ارزقنا تعظيمك, ويقيناً بحكمتك, ومعرفة أسمائك وصفاتك, اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، اللهم حببّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين.
اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار، وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز.
اللهم آمنّا في الأوطان والدور، وأصلح لنا الأئمة وولاة الأمور، اللهم وفقّهم بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك، واجعلهم من أنصار دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارزقهم بطانة الصلاح وأهل الخير، وأبعد عنهم أهل الزيغ والفساد.
اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي