إن الزهد الحقيقي في الدنيا هو ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فهو ليس بتحريم الطيبات، ولا بلبس المرقع من الثياب، ولا بالجلوس في البيوت وانتظار الصدقات، فإن العمل الحلال والكسب الحلال والنفقة الحلال عبادة يتقرب بها العبد إلى الله، بشرط أن تكون الدنيا في الأيدي، ولا تكون في القلوب، وإذا كانت الدنيا في يد العبد لا في قلبه، استوى ..
الحمد لله نحمده حمدًا كثيرًا، ونشكره شكرًا مزيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خضع كل موجود لحكمه وأمره، وأذعن المؤمنون لشرعه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أعلم الخلق بالله تعالى، وأكثرهم إذعانًا وانقيادًا له، وأشدهم خشية وخوفًا منه، ومع ذلك يأمره الله تعالى أن يعلن استسلامه له: (قُلْ إِنِِّّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِيَ البَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ) [غافر:66]، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأسلموا له وجوهكم، وأنيبوا إليه بقلوبكم، وأخلصوا له في أعمالكم.
عباد الله: الزهد في الدنيا درجة رفيعة من درجات المقربين، ومنزلة سامية من منازل الصالحين، قال الله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28]، والأمر للرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أمرٌ لنا، وقال الله: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه:131].
أيها الإخوة: وللزهد تعريفات عدة، من أفضلها أن الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، وترك كل ما يشغل عن الله، وإسقاط الرغبة عن الشيء بالكلية، وسفر القلب من وطن الدنيا، وأخذه في منازل الآخرة بترك الحرام، وترك الفضول من الحلال. وفضول الحلال إن شغَلت العبد عن ربه فالزهد فيها أفضل، وإن لم تشغله عن الله، بل كان شاكراً لله فيها فحاله أفضل.
وكل من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في الدنيا، وكل من باع الآخرة بالدنيا فهو زاهد في الآخرة؛ فالأول رابح، والثاني خاسر، ولكن العادة جارية بإطلاق لفظ الزهد على من زهد في الدنيا.
أيها الإخوة: الزهد انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، وهو ترك راحة الدنيا طلباً لراحة الآخرة وأن يخلو قلبك مما خلت منه يداك، ويعين العبد على ذلك علمه أن الدنيا ظل زائل، وخيال زائر، فهي كما قال تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) [الحديد:20]، وسماها الله (مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20]، ونهى عن الاغترار بها، وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين، وحذرنا مثل مصارعهم وذمَّ من رضي بها واطمأن إليها، ولعلمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجل خطراً، هي دار البقاء.
يضاف إلى ذلك معرفته وإيمانه الحق بأن زهده في الدنيا لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة.
عباد الله: والزهد من صفات المؤمن، ولكن هناك مفهوم خاطئ عن الزهد وهو أن تكون فقيرًا ليس عندك من أمر الدنيا شيء، ولكن في الحقيقة ليس الزهد أن لا تملك شيء ولكن الزهد أن لا يملكك شيء، فالله - عز وجل - يقول في كتابه الحكيم: (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص:77].
عباد الله: إن الزاهد حقاً من أتته الدنيا راغمة صفواً عفواً، وهو قادر على التنعم بها من غير نقصان جاه، ولا فوات حظ للنفس، فتركها خوفاً من أن يأنس بها، فيكون آنساً بغير الله، ومحباً لما سوى الله، أو تركها طمعاً في ثواب الآخرة، فترك التمتع في أطعمة وأشربة الدنيا؛ طمعاً في أطعمة وأشربة الآخرة، فآثر جميع ما وعده الله به في الجنة على ما تيسر له في الدنيا عفواً صفواً، لعلمه بأن ما في الآخرة خير وأبقى، قال -سبحانه-: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه:131].
ويقتصر الزاهد في الدنيا على المهمات، فيأخذ منها بقدر الحاجة وهي: المطعم، والملبس، والمسكن، والمنكح، والمركب، والمال، والأثاث.
فأما المطعم فلا بدَّ للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه، ويستعين به على طاعة ربه، ويأكل في اليوم والليلة في النوع والمقدار والحال كما كان يأكل إمام الزهاد -صلى الله عليه وسلم-.
وأما الملبس فيلبس ما يدفع الحر والبرد، ويستر العورة، ويلبس في النوع والمقدار، كلبسه -صلى الله عليه وسلم-.
وأما المسكن فيسكن بيتاً على قدر حاجته من غير زيادة، ولا زينة، ولا إسراف، وأما أثاث البيت فيكون بقدر حاجته، ولا يأنف من الدون من الأثاث.
والمنكح يقتصر منه على ما لا يشغله عن ربه، وطاعته، وذكره، وعبادته، والزواج من سنن المرسلين.
وأما المركب فيتخذ ما يحتاجه؛ لئلا يضطر إلى سؤال الناس، وليستعين به على طاعة الله، فيركب بقدر حاله كما فعل إمام أهل الزهد -صلى الله عليه وسلم-، والمراكب تختلف فيركب ما تيسر بقدر حاله من دابة أو سيارة. وأما المال والجاه فهو وسيلة إلى ما سبق.
عباد الله: ومن علامات الزهد: أن لا يفرح بموجود، ولا يحزن على مفقود، قال -سبحانه-: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد:23]، وكذلك أن يستوي عنده ذامّه ومادحه، فالأول علامة الزهد في المال، والثاني علامة الزهد في الجاه، وأن يكون أنسه بالله تعالى، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة، إذ لا يخلو القلب عن حلاوة المحبة: إما محبة الدنيا، وإما محبة الله، وهما في القلب كالماء والهواء في الإناء، فإذا دخل الماء خرج الهواء، فلا يجتمعان، وكذلك الأنس بالدنيا وبالله لا يجتمعان، وأن تكون عبادته في الخفاء أقوى منها في العلانية، وأن يستوي عنده التراب والذهب؛ لقوة توكله وزهده، فالعطاء أحب إليه من الأخذ.
ولا تتم رغبة العبد في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
الأول: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، ونقصها وخستها، وألم الكد فيها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والأنكاد.
الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بدّ، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، وما فيها من النعيم المقيم.
فإذا تم للعبد هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه، وكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل، واللذة الحاضرة، إلى الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل. فإذا آثر العبد الفاني الناقص على الباقي الكامل كان ذلك: إما لعدم تبين الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل، وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان، وضعف العقل والبصيرة.
إن إيثار الدنيا على الآخرة؛ إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، وما أكثر ما يكون منهما، وقد قال خالقها عنها: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) [الرعد:26]. وقال -سبحانه-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20].
واعلم -يا عبد الله- أن الزهد في الدنيا أن تنزعها من قلبك وتجعلها في يدك، والذي يصحح هذا الزهد أربعة أمور: علم العبد أن الدنيا فانية، وعلم العبد أن وراء الدنيا داراً أعظم منها وأفضل وهي الآخرة، ومعرفة العبد أن زهده فيها لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، وعلمه أن الذي خلقها ذمها وحذر منها؛ فكيف يتعلق بها؟!، ومن أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهواته، وما يبقى على ما يفنى، وما يحبه الله على ما تحبه النفس.
عباد الله: درجات الزهد المشروع ثلاث الأولى: الزهد في الشبهات بعد ترك المحرمات، وهو ترك ما يشتبه على العبد هل هو حلال أو حرام؟.
الثانية: الزهد في الفضول من الطعام، والشراب، واللباس، والسكن، والمنكح، فيكفيه ما يوصله للآخرة، ويزهد فيما وراء ذلك؛ اغتناماً لتفرغه لعمارة وقته فيما يقرب إلى الله.
الثالثة: الزهد في الزهد، فمن امتلأ قلبه بمحبة الله وتعظيمه لا يرى أن ما تركه لأجله من الدنيا يستحق أن يجعل قرباناً؛ فالدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فيستحي أن يذكره أو يعتد به.
أيها الإخوة: وأقسام الزهد أربعة: زهد فرض على كل مسلم وهو الزهد في الحرام، وزهد مستحب، وهو درجات في الاستحباب بحسب المزهود فيه، وزهد في المكروه، وفضول المباحات، والتفنن في الشهوات. وزهد المشمرين في السير إلى الله، وهو نوعان: أحدهما: الزهد في الدنيا جملة، وليس المراد إخلاء اليد منها وقعوده صفراً منها، وإنما المراد إخراجها من قلبه بالكلية، فلا يلتفت إليها، ولا يدعها تساكن قلبه وإن كانت في يده، الثاني: الزهد في النفس، وهو أصعب الأقسام وأشقها، وأكثر الزاهدين إنما وصلوا إليه ولم يلِجوه.
أيها الإخوة: والزهد بالنفس ذبحها بغير سكين وهو نوعان:
أحدهما: أن تميتها فلا يبقى لها عندك من القدر شيء، فلا تغضب لها، ولا ترضى لها، ولا تنتصر لها، ولا تنتقم لها، فهي أهون عليك من أن تنتصر لها، أو تنتقم لها.
الثاني: أن يبذل نفسه للمحبوب مولاه جملة، بحيث لا يستبقي منها شيئاً، بل يزهد فيها زهد المحب في قدر خسيس من ماله، قد تعلقت رغبة محبوبه به، فهكذا زهد المحب الصادق في نفسه قد خرج عنها وسلمها لربه، وجميع مراتب الزهد السابقة وسائل لهذه المرتبة. وإذا أراد الله بعبد خيراً أزهده في الدنيا، وفقهه في الدين، وبصره بعيوبه.
اللهم ارزقنا الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: ولا شك أن الأنبياء كانوا أزهد الناس، فهم قدوة البشر في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام:90]، ومن طالع حياة سيد الأولين والآخرين علم كيف كان -صلى الله عليه وسلم- يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، وما شبع من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض، وكان لربما ظل اليوم يتلوى لا يجد من الدقل [رديء التمر] ما يملأ بطنه، وفي غزوة الأحزاب ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع، ويمر على أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيتهم النار، طعامهم الأسودان: التمر والماء، يردد دائماً: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة" [البخاري:2961، ومسلم:1804]. ولقد كان فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف [مسلم:2082].
الزهد في حطام الدنيا وعدم الاغترار بها والركون إليها مطلب شرعي؛ لأجل أن تتعلق نفس العبد بالحياة الحقيقية وهي الحياة في الدار الآخرة، إلا أن هذا الخلق الإسلامي الرفيع، قد طالته يد التحريف، ففسر بتفسيرات خاطئة، وطبق تطبيقا سيئا، ودخل منه من ليس من أهله، وأصبح الزهد الإسلامي النقي أشبه ما يكون بحال الرهبانية النصرانية، والتعبد بطقوسٍ ما أنزل الله بها من سلطان، فلذلك وجب الرجوع إلى طريقة السلف في التعامل مع هذا الخُلق، والوقوف على التطبيق الصحيح للزهد الشرعي من خلال أقوالهم وأفعالهم.
عباد الله: إن الزهد الحقيقي في الدنيا هو ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فهو ليس بتحريم الطيبات، ولا بلبس المرقع من الثياب، ولا بالجلوس في البيوت وانتظار الصدقات، فإن العمل الحلال والكسب الحلال والنفقة الحلال عبادة يتقرب بها العبد إلى الله، بشرط أن تكون الدنيا في الأيدي، ولا تكون في القلوب، وإذا كانت الدنيا في يد العبد لا في قلبه، استوى في عينه إقبالها وإدبارها، فلم يفرح بإقبالها، ولم يحزن على إدبارها.
قال ابن القيم في وصف حقيقة الزهد: "وليس المراد -من الزهد- رفضها -أي الدنيا- من الملك، فقد كان سليمان وداود -عليهما السلام- من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء ما لهما. وقد كان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة، وكان علي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير وعثمان -رضي الله عنهم- من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال...".
وعن خباب بن الأرت قال: "هاجرنا مع رسول الله نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير -رضي الله عنه- قتل يوم أحد وترك بردة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه شيئاً من الإذخر. ومنا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدِبُها" [ البخاري:1276، ومسلم:940].
فتأملوا حالنا وما بسط علينا من الدنيا وفتح، كم من أصناف الطعام نأكل؟! وكم يعرض أمامنا من أنواع الفواكه التي تجلب من آخر بلاد الدنيا ومنها ما لا نعرفه؟! وكم من فاخر الثياب نلبس؟! وكم من المراكب الفخمة نركب؟! وكم من القصور المشيَّدة نسكن؟! وكم من الفرش الوثير نرقد عليها؟! وكم من المقاعد الناعمة والأرائك الوثيرة نجلس عليه ونتكئ؟! وكم من الأموال نرصد؟! ثم لننظر فيما قدمنا للآخرة؟.
إن ما بُسط على هؤلاء الصحابة الذين سمعتم الحديث عنهم قليل جداً بالنسبة إلى ما بسط علينا، وما قدموه للآخرة من الأعمال الصالحة ليس عندنا منه إلا أقلَّ من القليل، ومع هذا خافوا أن تكون حسناتهم عجلت لهم، فبكى بعضهم حتى ترك الطعام مع شدة حاجته إليه بعد الصيام، فجمعوا بين إحسان العمل والخوف من الله ومحاسبة النفس، ونحن جمعنا بين الإساءة وعدم الخوف من الله، نأكل من نعم الله ونتمتع بها ونبارزه –سبحانه- بالمعاصي وكأننا لم نسمع قوله -سبحانه-: (فلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام:44].
إن الزهد في الدنيا طريق الصالحين، والتقلل منها زاد العابدين، كما أن الانغماس في متاعها ملهاة وغفلة وانشغال بالفاني عن الباقي، ولما انشغل الغالب الكثير من الناس بالدنيا وقلَّ الزاهدون فيها تزينت لطالبيها حتى أهلكتهم. وصدق ابن مسعود -رضي الله عنه- إذ يقول للتابعين: "أنتم أكثر صلاة وصوماً، وجهاداً من أصحاب محمد، وهم كانوا خيراً منكم"، قالوا: كيف ذلك ؟ قال: "كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب منكم في الآخرة".
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي