أن العزيمة تتطلب من الإنسان أن يرقى بنفسه من الحال الذي هو عليه إلى الحال الأكمل، ويكون دائماً عازماً على الرشد وطالباً للترقي وباحثاً عن الكمال، وعازماً على أن يزداد طاعة لله -عز وجل-، واستجابة لأمر الله -تبارك وتعالى- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-. هذه هي العزيمة فأين وصلت عزائمنا؟ وما هو ..
الحمد لله الذي شرح الصدور بالإسلام، وطمأن القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، له الحمد -سبحانه وتعالى- أن وفقنا بالإسلام إلى الطاعة، وهدانا بالإيمان إلى الاستقامة، وأمدنا من اليقين بالقوة، ووفقنا بالإسلام إلى العزيمة الصادقة والهمة العالية.
له الحمد -سبحانه وتعالى- على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، نحمده -جل وعلا- كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، عَلَم الهدى، ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وعلى صحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد:
عباد الله: حديثنا اليوم عن العزيمة وأهمية العزم في حياة المسلم؛ لأننا بأمس الحاجة إلى التذكير بهذا الموضوع الهام الذي هو المحرك الرئيسي لكل تحركاتنا وتصرفاتنا.
إن العزم هو أن تقصد فعل الشيء، وتنوي المضي فيه، والشروع في تحقيقه، ولهذا سمي عزماً؛ لأن صاحبه قد عقد النية في قلبه على فعل هذا الشيء، ويقال ليس لفلان عزيمة، أي أنه متردد في أمره ولم يعزم عليه. إننا نريد أن نقف مع هذا الموضوع الهام عدة وقفات:
الوقفة الأولى: لكل إنسان على وجه هذه الأرض عزم يعزمه ونية ينوي فعلها ويهدف إلى تحقيقها، فيجب علينا أن نحرص كل الحرص على أن نجعل عزمنا دائماً في الخير، ولنبتعد كل البعد عن العزم على فعل الشرور، أو مجرد النية على فعل الشر وإقامة المنكر, فإن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ" [البخاري:1، ومسلم:1907، واللفظ له].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ر-ضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا، كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، لَمْ تُكْتَبْ، وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ" [البخاري:6491، مسلم:130]. فاعزم على التوبة وبادر إليها، واعزم على فعل الخيرات وسابق نحوها، واعزم على ترك المعاصي والبعد عنها، واعزم على الصعود نحو المعالي ونافس فيها، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26].
إن الذي يريد فعلاً أن يستيقظ لصلاة الفجر وعنده عزم على ذلك فإنه سيستيقظ، ومن عزم على صيام بعض الأيام المستحبة فسيصومها، ومن عزم على الخروج في سبيل الله سيخرج، ومن عزم على ترك الدخان سيتركه، ومن عزم على فعل أي خير والبعد عن أي شر فإنه سيفعل.
فالأهم والمهم هو العزم يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) [التوبة:46]، أي لو أرادوا فعلاً الخروج وعزموا عليه لتجهزوا له وتأهبوا لذلك واستعدوا، ولكن أنفسهم أصلاً لا تريد الخروج، وليس لديها عزم ورغبة فيه فلذلك لم تستعد له؛ لأنها غير عازمة عليه.
الوقفة الثانية: ينبغي على الرجل أن يكون حازماً في أمره، ماضياً في عزمه غير متردد فيه؛ فإن التردد والحيرة ليس من شيم الرجال وأخلاقهم، ومادام المسلم لا ينوي إلا خيراً ولا يعزم على فعل شر فإنه لا ينبغي له التردد والتحير.
يقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه العظيم مخاطباً رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159]. أي إذا عزمت على أمر من الأمور بعد الاستشارة فيه، فتوكل على الله في تنفيذه، واعتمد على حول الله وقوته في تطبيقه ولا تتردد في ذلك، وتبرأ من حولك وقوتك ووكل الأمر إليه -سبحانه-، فإن الله يحب المتوكلين عليه، المعتمدين عليه الملتجئين إليه.
بل حتى في الطلاق مع أنه مكروه ومن أبغض الحلال إلى الله، إلا أن الإنسان إذا أضطر إليه وأغلقت كل الأبواب في وجهه فعليه أن يُنفذ عزمه ويمضي في أمره، يقول -سبحانه-: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:226-227].
فإياكم والتردد والحيرة والتناقض والاضطراب، وتوكلوا على الله، وامضوا فيما عزمتم على فعله وتنفيذه ولا تترددوا، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، وَلاَ يَقُولَنَّ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي فَإِنَّهُ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ" [البخاري:6338]. هكذا يعلمنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- العزيمة، ويربينا على العزم وعدم التردد في كل شيء ومنه الدعاء، فإذا دعوت الله فلتجزم في سؤالك، ولتجتهد فيه، ولتلح على الله به ولا تعلقه بالمشيئة، وادع الله بعزم وحزم وجزم وجد.
الوقفة الثالثة: علينا جميعاً أن نسأل الله الإعانة على أن يحقق عزائمنا ويسدد خطانا، ونسأل الله التوفيق في ذلك، فإننا إن لم يعنا الله على تحقيق عزائمنا فلن نتوفق لشيء، ولن نصل إلى هدف.
لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو الله أن يعينه على المضي في عزمه، ويطلب منه -سبحانه- التوفيق والسداد على ذلك، فكان يَقُولُ فِي صَلاَتِهِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ وَالْعَزِيمَةِ عَلَى الرُّشْدِ وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا وَلِسَانًا صَادِقًا وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ" [النسائي:1312].
ومعنى أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ وَالْعَزِيمَةِ عَلَى الرُّشْدِ أَيْ عَقْد الْقَلْبِ عَلَى إِمْضَاءِ الْأَمْرِ، والرشد أي الصلاح، والفلاح، والصواب، والاستقامة على طريق الحق، والمراد بذلك لزوم طريق الرشد ودوامها والاستقامة عليها، ولذلك جاء في رواية الترمذي قال: "أسألك عزيمة الرشد"، يعني الجد في أمر الرشد بحيث ينجز كل ما هو رشد من أموره ويحسن التصرف فيها.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى" [مسلم:870]. والله -تبارك وتعالى- يقول: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أيها المسلمون: وقفنا بعض الوقفات مع موضوع العزيمة، ونكمل بعض الوقفات في هذا الموضوع ومنها:
أن العزيمة تتطلب من الإنسان أن يرقى بنفسه من الحال الذي هو عليه إلى الحال الأكمل، ويكون دائماً عازماً على الرشد وطالباً للترقي وباحثاً عن الكمال، وعازماً على أن يزداد طاعة لله -عز وجل-، واستجابة لأمر الله -تبارك وتعالى- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
هذه هي العزيمة فأين وصلت عزائمنا؟ وما هو مستوى عزمنا؟ أفي رقي وتقدم أم في سفول وانحدار؟ يقول الشاعر:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارم
الوقفة الخامسة: ينبغي علينا أن تقترن عزائمنا بالتوكل الوثيق على مَن بيده ملكوت كل شيء؛ حتى تكون أمورنا ناجحة موفقة، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159].
إن العزم المنفعل والتفاعل غير المنضبط سيضر في النهاية صاحبه، وكم رأينا من شخص عنده عزم قوي وإرادة جباره, لكنه عشوائي في تصرفاته غير متوكل على الله في أعماله, فكانت نهايته الضعف والتقهقر والتراجع، فالأناة الأناة، ولابد مع العزم من التوكل على الله.
الوقفة السادسة: كلنا يعترينا الضعف، وتكل عزائمنا، وتمل أنفسنا، وقد يجد الإنسان في نفسه فترة من الفترات عزيمة متقدة وهمة عالية، وتمر عليه أوقات أخرى تجده فيها قد اعتراه التراخي والضعف والفتور.
هذه طبيعة النفس البشرية، ولكن ينبغي للإنسان العاقل اللبيب أن يجدد نيته ويشد عزمه، ويبعث فيه نفسه التغيير والإصلاح ما استطاع، يقول مُجَاهِد -رحمه الله-: "دَخَلْتُ أَنَا وَيَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَوْلَاةً لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: إِنَّهَا تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَكِنِّي أَنَا أَنَامُ وَأُصَلِّي، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، فَمَنْ اقْتَدَى بِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً ثُمَّ فَتْرَةً، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى بِدْعَةٍ فَقَدْ ضَلَّ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ فَقَدْ اهْتَدَى" [أحمد:23474].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي