أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. حقيقة الفقر ومعانيه   .
  2. دلائل لفظ الفقر شرعًا .
  3. سؤال الناس وأحواله .
  4. الفقير الصابر والغني الشاكر   .
  5. آداب الفقير إلى الله .
  6. الافتقار إلى الله لب العبودية .
  7. آداب الفقير الظاهرة والباطنة .
  8. الحج مظهر عظيم من مظاهر الافتقار. .

اقتباس

الغني بالله هو الغني بلا مال، القوي بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفي بلا عتاد، قد قرت عينه بالله فقرت به كل عين، واستغنى بالله فافتقر إليه الأغنياء والملوك، وهذا الفقير المضطر إلى خالقه في كل طرفة عين إن حركه ربه بطاعة أو نعمة شكرها، وقال هذا من فضل ربي ومنه، فله الحمد...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي شرح صدور الموفقين بألطاف برّه وآلائه، ونوّر بصائرهم بمشاهدة حِكم شرعه وبديع صُنعه ومحكم آياته، وألهمهم كلمة التقوى، وكانوا أحق بها وأهلها، فسبحانه من إلهٍ عظيم، وتبارك من رب واسع كريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أشرف رسله وخير برياته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه في غدوات الدهر وروحاته.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن سعادة الدنيا والآخرة بصلاح القلوب وانشراحها، وزوال همومها وغمومها وأتراحها، فالزموا طاعة الله، وطاعة رسوله، تدركوا هذا المطلوب، واذكروا الله كثيرًا، ألا بذكر الله تطمئن القلوب.

أيها المسلمون: إن الله -سبحانه- هو الغني الذي له ما في السموات وما في الأرض، وغناه تام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، ومن غناه أنه أغنى الخلق كلهم في الدنيا والآخرة.

وإن الغنى كالفقر أمر قدري من أوامر الله يبتلي بهما العباد، والمسلم غني بربه فلا يخاف من الفقر، وكيف يخاف المسلم من الفقر ومولاه له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟!.

أيها الإخوة: قد يُعطى الإنسان أموالاً، وقد يُمنح عقاراً، وقد يُرزق عيالاً، وقد يُوهب جاهاً، وقد ينال منصبًا عظيماً، أو مركزاً كريماً، أو زعامة عريضة، أو رياسة مكينة، قد يحفّ به الخدم، ويحيط به الجند، وتحرسه الجيوش، وترضخ له الناس، وتذل له الرؤوس، وتدين له الشعوب، ولكنه مع ذلك كله فقير إلى الله، محتاج إلى مولاه، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: 15].

لذلك فإن لذة الحياة، ومتعة الدنيا، وحلاوة العمر، وجمال العيش، وروعة الأنس، وراحة النفس هي في شعور الإنسان بفقره إلى الديان، ومتى غرس في القلب هذا الشعور، ونقش في الفؤاد هذا المبدأ فهو بداية الغنى، وانطلاقة الرضا، وإطلالة الهناء، وإشراقة الصفاء، وحضور السرور، وموسم الحبور.

عباد الله: والفقر والغنى ابتلاء من الله لعباده كما قال -سبحانه-: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر: 16 - 20]، فالإكرام ليس بالغنى، والإهانة ليست بالفقر، بل الإكرام أن يكرم الله عبده بطاعته والإيمان به، ومحبته ومعرفته، والإهانة أن يسلبه ذلك.

عباد الله: والفقر عبارة عن فقد ما هو محتاج إليه، وكل موجود سوى الله تعالى فهو فقير إليه بالذات والصفات؛ لأنه محتاج إلى الله في وجوده، وفي بقائه، وفي حركاته وسكناته، وفي سائر حوائجه.

إن حقيقة الفقر أن يصير العبد كله لله، لا يبقى عليه بقية من نفسه وحظه وهواه؛ لأنه إذا كان لنفسه فليس لله، وإذا لم يكن لنفسه فهو لله. فحقيقة الفقر أن لا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء، بحيث تكون كلك لله وبه. والفقر الحقيقي هو دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه.

أيها الإخوة: وحقيقة الافتقار إلى الله تعالى أن يُجرِّد العبد قلبه من كل حظوظها وأهوائها، ويُقبل بكليته على ربه -عز وجل- متذللاً بين يديه، مستسلماً لأمره ونهيه، متعلقاً قلبه بمحبته وطاعته، قال الله تعالى : (قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162 - 163].

وقد ورد لفظ الفقر في القرآن في عدة مواضع منها: قول الله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر: 8]، فوصف الله المهاجرين من مكة إلى المدينة بأنهم كانوا فقراء بلا مال ولا عقار. وقوله -سبحانه-: (للْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [البقرة: 273]، وهذا خواص الفقراء، المحتاجون إليه في جميع أمور الدين والدنيا، فهم الفقراء إليه على الإطلاق.

وفي قوله: (إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) [التوبة: 60]، وهذا فقراء المسلمين عامهم وخاصهم، في قوله -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: 15]، وهذا الفقر العام لأهل الأرض كلهم فقيرهم وغنيهم، ومؤمنهم وكافرهم، والمراد به هنا شيء أخص من هذا كله، وهو تحقيق العبودية لله، والافتقار إلى الله تعالى في كل حال، والاستغناء به عما سواه.

أيها الإخوة: إن فقر العبد إلى ربه بالإضافة إلى أصناف حاجاته لا ينحصر؛ لأن حاجاته لا حصر لها، فالله -عزَّ وجلَّ- غني بالذات، والخلق كلهم فقراء إليه بالذات، وقد نادى الله جميع الناس وأخبرهم بحالهم، ووصفهم بأنهم فقراء إلى الله من جميع الوجوه؛ فقراء في إيجادهم, فلولا خلق الله لهم لم يوجدوا، وفقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، فلولا إعداد الله إياهم بها لما استعدوا لأي عمل كان، وفقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق، والنعم الظاهرة والباطنة, فلولا فضل الله وإحسانه وتيسيره الأمور لما حصل لهم من الأرزاق والنعم شيء.

وفقراء إلى الله في تربيتهم بأنواع التربية وأجناس التدبير، وفقراء إليه في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم, فلولا تعليمه لم يتعلموا، ولولا توفيقه لم يصلحوا، وفقراء إلى ربهم في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد، فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم؛ لاستمرت عليهم المكاره والشدائد، وفقراء إلى ربهم في تألههم له، وحبهم له، وعبادتهم إياه، وإخلاص العبادة له, فلو لم يوفقهم لذلك لهلكوا، وفسدت أرواحهم وقلوبهم وأحوالهم.

فهم الفقراء بالذات إلى ربهم بكل معنى وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أو لم يشعروا، ولكن الموفق منهم الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع إليه -سبحانه- أن يعينه على جميع أموره، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها.

عباد الله: والفقر والغنى ليس مقياسًا لتفاضل العباد وتمايزهم، فإن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى، وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال، والتفضيل عند الله بالتقوى لا بالغنى والفقر كما قال -سبحانه-: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].

إن الله -سبحانه- هو خالق الخلق ورازقهم ومدبرهم، وهو الذي يعلم مستقر هذه الدواب، والمكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها، وجميع حركاتها وسكناتها، وعوارض أحوالها، كل ذلك كتبه الله في اللوح المحفوظ، الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وهذه الخلائق جميعاً قد أحاط بها علم الله، وجرى بها قلمه، ونفذت فيها مشيئته، ووسعها رزقه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود: 6]، فجميع ما يدب على وجه الأرض من آدمي وحيوان، بري أو بحري، وكل طير، وكل حشرة، وكل ذرة، فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم، وهم جميعاً فقراء إليه في إيجادهم وإمدادهم وبقائهم.

فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها، وأحاط علماً بذواتها وصفاتها، ومكانها وزمانها، وقسم أرزاقها، ولتعمل بما أمرها الله ورسوله به من الإيمان بالله، وتوحيده وطاعته، وفعل ما أمرها الله به، واجتناب ما نهى الله عنه (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء: 69، 70].

أما الفقر من المال فالعاقل يرى أن الأموال والأشياء كلها في خزائن الله تعالى، فلا يفرق بين أن تكون بيده أو بيد غيره، وكل رزق في الكون فهو من رزقه، (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) [النمل: 64].

عباد الله: وللفقير إلى الله آداب في باطنه وظاهره,.. وآداب في مخالطته, وآداب في أفعاله, فأما أدب باطنه، فأن لا يكون فيه كراهة لما ابتلاه الله تعالى به من الفقر، فالله أعلم بما يصلح له، وإن كان كارهاً للفقر، فهذا أقل درجاته وهو واجب، وأرفع من هذا أن لا يكون كارهاً للفقر بل يكون راضياً به، وأرفع منه أن يكون طالباً له وفرحاً به، لعلمه بغوائل الغنى، كما قال -سبحانه-: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7],

وأما أدب ظاهره فأن يُظهر التعفف والتجمل، ولا يُظهر الشكوى والفقر، بل يستر فقره ويستر أنه يستره، مستغنياً بربه مفتقراً إليه وحده، فهؤلاء الفقراء الأغنياء: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [البقرة: 273].

وأما في أعماله فإنه لا يتواضع لغني لأجل غناه، فهذه رتبة، وأقل منها أن لا يخالط الأغنياء، ولا يرغب في مجالسهم؛ لأن ذلك من مبادئ الطمع وهو مذموم، وأما أدبه في أفعاله فينبغي له أن لا يفتر بسبب الفقر عن العبادة، ولا يمنع بذل قليل ما يفضل عن حاجته، فإن ذلك جهد المقل، وفضله أكثر مما يبذل عن ظهر غنى.

أيها الإخوة: وسؤال الناس وطلب المال منهم محرم في الأصل، وإنما يباح لضرورة أو حاجة مهمة، عن قبيصة بن المخارق، قال: حملت حمالة، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فسألته فيها، فقال: "أقم حتى تأتينا الصدقة، فإما أن نحملها، وإما أن نعينك فيها"، وقال: "إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لرجل تحمل حمالة قوم، فيسأل فيها حتى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فيسأل فيها حتى يصيب قوامًا من عيش، أو سدادًا من عيش، ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة، فيسأل حتى يصيب قواما من عيش، أو سدادا من عيش، ثم يمسك، وما سوى ذلك من المسائل سحتا، يا قبيصة يأكله صاحبه سحتا " [أحمد (20601) وصححه الألباني].

وإنما حرمه الشرع؛ لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة:

الأول: أنه إظهار لشكوى الله تعالى، إذ السؤال إظهار للفقر، وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه، وهو عين الشكوى لله، (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [يوسف: 86].

وإذا شكوت إلى آدم حاجة *** إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

ولا شك أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله في كل شؤونهم وأحوالهم، وفي كل كبيرة وصغيرة، وفي هذا العصر تعلق الناس بالناس، وشكا الناس إلى الناس، ولا بأس أن يستعان بالناس فيما يقدرون عليه، لكن أن يكون المعتمد عليهم والسؤال إليهم والتعلق بهم فهذا هو الهلاك بعينه، فإن من تعلق بشيء وُكِل إليه.

وكما أن العبد المملوك لو سأل غير سيده لكان سؤاله تشنيعاً على سيده، فكذلك سؤال العباد تشنيع على الله تعالى، فهو محرم لا يحل إلا لضرورة كما تحل الميتة للمضطر.

الثاني: أن فيه إذلال للسائل نفسه لغير الله تعالى، وليس للمؤمن أن يذل نفسه لغير الله، بل عليه أن يذل نفسه لمولاه، فأما الخلق فإنهم عباد أمثاله، فلا ينبغي أن يذل لهم إلا لضرورة، وفي السؤال ذل للسائل، وظلم للمسؤول من الخلق، عن إبراهيم بن أدهم، قال: "مكتوب في بعض كتب الله: من أصبح حزينًا على الدنيا فقد أصبح ساخطًا على الله، ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به أصبح يشكو ربه, وأيما فقير جلس إلى غني فتضعضع له لدنياه ذهب ثلثا دينه، ومن قرأ القرآن فاتخذ آيات الله هزوا أُدخل النار".

الثالث: أن السؤال لا ينفك عن إيذاء المسؤول غالباً؛ لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب نفس، فإن بذل حياء من السائل أو رياء فهو حرام، وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع؛ ففي المنع نقصان جاهه، وفي البذل نقصان ماله، وكلاهما مؤذيان، والسائل هو السبب في الإيذاء، وأذى المسلم محرم.

وقد قيل: إن الفقراء أربعة: فقير لا يسأل، وإن أُعطي لا يأخذ، فهذا بأرفع المنازل. وفقير لا يسأل، وإن أُعطي أخذ، فهذا دونه. وفقير يسأل عند الحاجة، فهذا دونه, وهؤلاء كلهم محمودون. وفقير يسأل من غير حاجة وضرورة، فهذا مذموم، وصاحبه مأزور غير مأجور، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمرًا فليستقل أو ليستكثر" [مسلم (1041)].

أيها الإخوة: وينبغي الحذر من حب الدنيا والشغف بها، فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة، ومقاطعتها إما أن تكون بانزوائها عن العبد، ويسمى ذلك فقراً، وإما بانزواء العبد عنها، ويسمى ذلك زهداً، ولكل واحد منهما درجة في نيل السعادة.

والدنيا كل ما سوى الله تعالى من المال والجاه، والصور والمراتب، وهي اسم لمدة بقاء هذا العالم, أو اسم لما بين السماء والأرض، فعلى الأول تكون الدنيا زماناً، وعلى الثاني تكون مكاناً. ولما كان لها تعلق بالقلب واللسان والجوارح كان حقيقة الفقر تعطيل هذه الثلاثة عن تعلقها بها، وسلبها منها، وتفريغها لطاعة الله، وتحريكها وتشغيلها بامتثال أوامر الله، وحبسها عن محارم الله.

والدنيا ليست محذورة لعينها، بل لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى، والفقر ليس مطلوباً لعينه، بل لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى، وعدم التشاغل به، وكم من غني شغله غناه عن ربه, وعن تنفيذ أوامره؟، وكم من فقير شغله فقره عن ربه، وعن امتثال أوامره؟ وصرفه عن حب الله والأنس به، وإنما الشاغل له حب الدنيا، والدنيا معشوقة الغافلين.

فالمحروم منها مشغول بطلبها, والقادر عليها مشغول بحفظها وجمعها والتمتع بها، وتنميتها والاستكثار منها، والفقير عن الخطر أبعد، وفراق المحبوب شديد، فإذا أحببت الدنيا كرهت لقاء الله تعالى، فيكون قدومك بعد الموت على ما تكرهه، وفراقك لما تحبه، وكل من فارق محبوباً كان أذاه في فراقه بقدر حبه له وأنسه به، فعلى العاقل أن يحب من لا يفارقه وهو الله تعالى، ويزهد في الدنيا التي إن لم تفارقه هي فارقها هو، فهو دائم الخوف والحسرة عليها.

اللهم اجعلنا أفقر عبادك إليك، الواثقين بك، الأغنياء بما عندك، المعتمدين في كل أمورهم عليك.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فما أعظمه ربًّا وملكًا قديرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي أرسله إلى جميع الثقلين بشيرًا ونذيرًا, وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

عباد الله: ينبغي للفقر أن يلزم آداب العبودية؛ فلا يشكو ربه -سبحانه- لخلقه، ولا يتسخط أقدار الله -سبحانه-، وليلزم الفقير الآداب الشرعية في قبول العطاء من الآخرين, فإن جاءه مال بغير سؤال ولا استشراف فينبغي أن يلاحظ فيه ثلاثة أمور: نفس المال, فينبغي أن يكون خالياً عن الشبهات كلها، فإن كان فيه شبهة لم يأخذه.

ويراعي غرض المعطي فلا يخلو إما أن يكون طالباً للمحبة والألفة وهو الهدية، فلا بأس بقبولها إذا لم تكن رشوة، ولم يكن فيها منَّة، وإن كان غرض المعطي الثواب وهو الزكاة والصدقة، فعليه أن ينظر هل هو مستحق لذلك أم لا؟، وإن كان غرض المعطي الشهرة والرياسة والسمعة فينبغي أن يرد عليه قصده الفاسد فلا يأخذه.

وأما غرضه في الأخذ فلينظر: هل هو محتاج إليه أو مستغن عنه؟ فإن كان مستغنياً عنه لم يأخذه، وإن كان محتاجاً إليه وقد سلم من الشبهة والآفات فالأفضل له الأخذ, لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر: "خُذْهُ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسكَ" [البخاري(1473) ومسلم(1045)].

أيها الإخوة: إن الفقر المطلق لازم للعباد من كل وجه، والغنى المطلق ثابت للرب من كل وجه, وينبغي لنا أن نفقه الفقر ومعانيه وحكمه، ونعلم أن الفقر إما أن يكون اضطراريًّا، وهذا فقر عام لا خروج لبَرّ ولا فاجر عنه، أو فقرًا اختياريًّا، وهو نتيجة علمين شريفين: معرفة العبد بربه, ومعرفته بنفسه، ومن حصلت له هاتان المعرفتان أثمرتا له فقراً هو عين غناه، وعنوان سعادته وفلاحه.

وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين, فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق, ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل والظلم، والله -عزَّ وجلَّ- أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئاً، ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئاً، ولا يقدر على عطاء ولا منع، ولا ضر ولا نفع، ولا شيء البتة.

ولما أسبغ الله عليه نعمته، وأفاض عليه رحمته، وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهراً وباطناً، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وأعلمه وأقدره، وصرفه وحركه، ومكنه من استخدام بني جنسه، وسخر له الخيل والإبل، وسلطه على الدواب، وعلى صيد الطيور، وقهر الوحوش، وحفر الآبار، وغرس الأشجار، وتعلية البناء، ويسر له الكسب والتجارة، ورزقه الأموال والأشياء، ظن المسكين أن له نصيباً من الملك والتصريف والتدبير. وادعى لنفسه ملكاً مع الله -سبحانه-، ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [مريم: 67].

ففقر العباد إلى ربهم إما فقر إلى ربوبيته, وهو فقر المخلوقات بأسرها إلى ربها، في إيجادها ومصالحها. وإما فقر إلى ألوهيته, وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين, وهذا هو الفقر النافع، فإن فقر العبد إلى أن يعبد الله وحده لا شريك له ليس له نظير فيقاس به.

عباد الله: إن وجود المال بيد الفقير لا يقدح في فقره، إنما يقدح في فقره رؤيته لملكيته، وإنما هو لسيده وهو كالخازن لسيده (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد: 7]، الذي ينفذ أوامره في ماله، وله خزائن السموات والأرض، (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [المنافقون: 7]، وإذا أصاب المال الذي في يده نائبة أو جائحة رأى أن المالك الحق هو الذي أصاب مال نفسه، فما للعبد والجزع والهلع؟، وإنما تصرف مالك المال في ملكه الذي هو وديعة في يد مملوكه، فله الحكم في ماله وحده: إن شاء أبقاه, وإن شاء أفناه, وإن شاء زاده, وإن شاء نقصه، فلا يتهم مولاه في تصرفه في ملكه, بل يرى تدبيره هو موجب الحكمة.

أيها الإخوة: الغني بالله هو الغني بلا مال، القوي بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفي بلا عتاد، قد قرت عينه بالله فقرت به كل عين، واستغنى بالله فافتقر إليه الأغنياء والملوك، وهذا الفقير المضطر إلى خالقه في كل طرفة عين إن حركه ربه بطاعة أو نعمة شكرها، وقال هذا من فضل ربي ومنه فله الحمد، وإن تحرك بمبادئ معصيته صرخ واستغاث بربه قائلاً: أعوذ بك منك، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.

فإن تم تحريكه بمعصية التجأ إلى ربه التجاء أسير قد أسره عدوه وهو يعلم أنه لا خلاص له ولا يفكه من أسره إلا سيده، أما هو فلا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فهو في أسر العدو ناظر إلى سيده متى يفكه منه؟.

أيها الإخوة: إن من لم يُشْرِب قلبه حقيقة الفقر، ويُشعر نفسه بشدة الحاجة وعظيم الفاقة للواحد الأحد الفرد الصمد الغني الكريم العلي العظيم، فلن يعرف للعبودية طعماً، ولن يجد للسعادة رسماً، وهو عن البصيرة أعمى.

انظر إلى الحج فهو من أروع مناظر الافتقار، وأصدق مظاهر الحاجة، يتخلى الغني عن ثياب الغنى، ويخلع المرء عمامته، ويتجرد من ملابسه، ويقبل في رداء وإزار، كأنه لا يملك شيئاً، ولا يجد مالاً، وينزل من قصوره ويتخلى عن دوره، فيأتي حاسر الرأس، شاحب اللون، خاشع القلب، واجف الفؤاد، يعلن فقره لرب العباد مردداً أعذب كلمات الفاقة، وأصدق عبارات الحاجة، أروع لحون الفقر، معلناً أن الملك لله، والعبودية لله، والحمد لله، والنعمة لله، الغنى لله "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك".

عباد الله: إن لذة الحياة، ومتعة الدنيا، وحلاوة العمر، وجمال العيش، وروعة الأنس، وراحة النفس هي في شعور الإنسان بفقره إلى الديان، ومتى غرس في القلب هذا الشعور، ونقش في الفؤاد هذا المبدأ فهو بداية الغنى، وانطلاقة الرضى، وإطلالة الهناء، وإشراقة الصفاء، وحضور السرور، وموسم الحبور.

كان الحسن البصري يقول: "مسكين ابن آدم، محتوم الأجل، مكتوم الأمل، مستور العلل، يتكلم بلحم، وينظر بشحم، ويسمع بعظم، أسير جوعة، مطيع شبعة، تؤذيه البقة، وتنتنه العرقة، وتقتله الشرقة، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً".

اللهم اجعلنا أفقر خلقك إليك، واجعلنا اللهم أغنى خلقك بك، اللهم اجعلنا أذل خلقك لك، واجعلنا اللهم أعز خلقك بك.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي