ومن أعظم ثمار الإيمان بالقدر أنه يبعث في القلوب الشجاعة على مواجهة الشدائد، ويقوّي فيها العزائم، فيثبت صاحبه في ساحات الجهاد، ولا يخاف الموت؛ لأنه موقن أن الآجال محدّدة لا تتقدم ولا تتأخر لحظةً واحدة، والداعي إلى الله يصدع بدعوته، ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين، ويفضح ما هم فيه من كفر وظلم، ولا يخاف في الله لومة لائم، وإذا كان الأمر هكذا فكيف يبقى في نفس المؤمن الداعية ذرّة من خوف...
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، أعطى كل شيء من الخلق ما ينفعه، وهداه لما خُلق له وهو الحكيم الخبير. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له في كل مخلوق حكمة باهرة، وآية ظاهرة، وبرهان قاطع يدل على أنه رب كل شيء ومليكه، وأنه المنفرد بكل كمال دون خلقه، وأنه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فعظّموه حق تعظيمه، واطلبوا مراضيه، واحذروا مساخطه، واعلموا أن الله -سبحانه- هو رب كل شيء ومليكه، وله فيما خلقه ويخلقه حكمة بالغة، ونعمة سابغة، ورحمة عامة وخاصة، سبحانه لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، يفعل ما يشاء لا لمجرد قدرته وقهره، بل لكمال علمه وقدرته، وحكمته ورحمته، ومن حكمته ما أطلع عليه بعض خلقه عليه، ومنها ما استأثر -سبحانه- بعلمه، فالله -سبحانه- خالق الذوات، وخالق صفاتها، وخالق أفعالها، لا يخرج شيء من المخلوقات عن سلطانه طرفة عين.
أيها المؤمنون: إن شعور المؤمن بأنه يسير مع قدر الله، في طاعة الله، لتحقيق مراد الله، ويفعل ما يحبه الله، مع علمه بأن الله خلق هذا الكون، وقدَّر ما يجري فيه من الحركات والسكنات، والحسنات والسيئات، وإيمانه بأن الأمور كلها بيد الله، حلوها ومرها، خيرها وشرها، ذلك كله يسكب في روحه وقلبه الطمأنينة والسلام، والأمن والاستقرار، والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق، ولا سخط على العقبات والمشاق، بلا قنوط من عون الله ومدده، وبلا خوف من ضلال القصد، أو ضياع الجزاء: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].
إن الله -سبحانه- تفرد بالخلق والأمر وحده، فالخلق قضاؤه وقدره وفعله، والأمر شرعه ودينه، فهو الذي خلق وشرع وأمر، وأحكامه جارية على خلقه قدرًا وشرعًا، ولا خروج لأحد عن حكمه الكوني القدري، الذي لا بد من وقوعه وحدوثه.
إن الله -سبحانه- أحسن كل شيء خَلَقَه، فكل خلق الله وجميع أمره حسن جميل، وهو -سبحانه- محمود عليه، وله الحمد على كل حال، وإن كان في بعضها شرّ بالنسبة إلى بعض الناس، والمؤمن مأمور أن يصبر على المصائب، ويطيع الأوامر، ويستغفر من الذنوب والمعايب، فالقدر ليس فيه حجة لابن آدم ولا عذر في فعل ما يشاء، بل القدر نؤمن به ولا نحتج به، ولو كان القدر حجةً وعذرًا لم يكن إبليس ملومًا ولا معاقبًا، فإن ذلك قد كُتب عليه وأُلزم به، قال -سبحانه-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن: 11].
والله -عزَّ وجلَّ- له الحجة البالغة على جميع خلقه؛ أنزل عليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل، وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول، التي يعرفون بها ربهم، وما شرعه لهم، ومع هذا فلو شاء -سبحانه- لهدى الخلق أجمعين إلى اتباع شريعته، كما خلقهم أجمعين، وكما فطر جميع الكائنات على معرفته وعبادته، لكنه -سبحانه- يَمُنّ على من يشاء، فيهديه فضلاً منه وإحسانًا، ويحرم من يشاء؛ لأن المتفضل له أن يتفضل، وله ألا يتفضل، فترك تفضله على من لا يستحقه عدلٌ منه وقسطٌ، وله في ذلك حكمة بالغة، قال -سبحانه-: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام: 149].
عباد الله: تفكروا في هذا الكون العظيم، فإن من يتأمل فيه يقف فيه على الدقة البالغة والتقدير العظيم لرب العالمين؛ فلا يقع فيه حادث إلا وهو مقرّر قبل خلقه، محسوب زمان وقوعه، ومكان حدوثه، وحجم ذلك الحدث، لا مكان فيه للمصادفة، ولا شيء فيه يحدث جزافًا.
فقبل خلق الأرض، وقبل خلق الأنفس، كان في علم الله الشامل الكامل الدقيق كل حدث سيظهر للخلائق في وقته المقدور: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد: 22، 23]. وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السموات وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَـى المَاءِ" [مسلم (2653)].
فالله بكل شيء عليم، وفي علم الله لا شيء ماضٍ، ولا شيء حاضر، ولا شيء قادم، فتلك الفواصل الزمنية إنما هي معالم لنا نحن أبناء الفناء، نرى بها حدود الأشياء، فنحن لا ندرك الأشياء بغير حدود تميزها، من الزمان والمكان والأحجام، أما الله -سبحانه- فهو كامل الذات والصفات، وهو الحق الذي يطلع جملةً على هذا الوجود بلا حدود ولا قيود، ولا يندّ عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].
إن هذا الكون وما يقع فيه من أحداث وأطوار منذ نشأته إلى نهايته، كائنٌ في علم الله جملة، ومعرفة القلب بهذه المقادير التي قدّرها الله يورث فيه الطمأنينة، ويبعث فيه السكون عند استقبال الأحداث خيرها وشرها؛ فلا تجزع الجزع الذي تطير به شعاعًا، وتذهب معه حسرات عند الضراء، ولا تفرح الفرح الذي تستطار به، وتفقد الاتزان عند السراء، فكل شيء لا يكون إلا بأمر الله ومشيئته؛ (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد: 23]، فلا تأسى على فائت أسًى يؤلمك ويزلزلك، ولا تفرح بحاصل فرحًا يستخفك ويذهلك، ولكن امضِ مع قدر الله في طواعيةٍ ورضا، رضا العارف المدرك أن ما هو كائن هو الذي ينبغي أن يكون، وهذه درجة عالية قد لا يستطيعها ولا يصل إليها إلا القليلون من البشر.
ولن يجد أحد طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ما كان لا بد أن يكون، وأن من يتوكل على الله في أمر دينه ودنياه ويفعل ما أمره الله به، فهو حسبه وكافيه؛ لأنه الغني القوي العزيز، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخير طلبه إلى الوقت المناسب له، فأمرُ الله لا بد من نفوذه، ولكنْ له وقت مقدر لا يتعداه ولا يقصر عنه: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 3]. وعَنْ صُهَيْبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ" [مسلم 2999]، فالمسلم يدور بين الصبر والشكر، يصبر على البلايا ويشكر ربه على العطايا.
أيها المسلمون: والإيمان بالقدر على درجتين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر، وطاعة ومعصية، قبل خلقهم وإيجادهم، وميَّز أهل الجنة منهم، وأهل النار منهم، وأعد لهم الثواب والعقاب قبل خلقهم، وكتب ذلك عنده، قال تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [يس: 12]، وفي حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَتَادَةَ السُّلَمِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ أَخَذَ الْخَلْقَ مِنْ ظَهْرِهِ، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي"، قَالَ: فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ فَعَلَى مَاذَا نَعْمَلُ؟ قَالَ: "عَلَى مَوَاقِعِ الْقَدَرِ" [أحمد (17660)، وصححه الألباني]. فأعمال العباد تجري على ما سبق في علم الله وكتابته، قال -سبحانه-: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49].
والدرجة الثانية: الإيمان بأن الله خلق أفعال العباد كلها من الإيمان والكفر، والطاعات والمعاصي، وشاءها منهم مع كراهيته لها، وكراهية مرتكبيها، قال -سبحانه-: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس: 7، 8].
المؤمن يصبر على المصائب، ويستغفر من الذنوب والمعايب، والجاهل الظالم يحتج بالقدر على ذنوبه وسيئاته، بينما لا يَعذُرُ بالقدر مَن أساء إليه، ولا يستشهد بالقدر عندما تحصل له نعمة، والواجب على العبد إذا عمل حسنة أن يعلم أنها نعمة من الله، هو يسَّرها له وتفضل بها عليه، فلا يُعجَب بها، فهي محض عطاء الله، وإذا عمل سيئة، استغفر الله، وتاب منها، وإذا أصابته مصيبة سماوية أو بفعل العباد علم أنها مقدرة مقضية عليه لا بد من وقوعها، وللعبد منفعة في حصولها، وكل ما خلق الله حق، وله -سبحانه- في كل مخلوق حكمة يحبها ويرضاها.
كما أن العبد مأمور منهي، مثاب معاقب، والله جعله حيًا مريدًا، قادرًا فاعلاً، يصوم ويصلي، ويزكي ويحج، ويؤمن ويكفر، ويقتل ويسرق، ويطيع ويعصي، باختياره ومشيئته، والله خالق ذات العبد وصفاته وأفعاله، فله مشيئة، والله خالق مشيئته، وله قدرة، والله خالق قدرته، والعبد الحي يؤمر وينهى، ويحمد ويذم على أفعاله الاختيارية، وهو الفاعل لهذه الأفعال والمتصف بها، وله عليها قدرة، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد كسبًا، وهي مفعولة للرب كغيرها، وجزاؤه في الدنيا والآخرة ليس على ما علمه الله وكتبه، بل بما عملته جوارحه وأحصته ملائكته، قال تعالى: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32]، ومثله دخول النار، قال الله: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [الأحقاف: 34].
وكل ما يفعله الله ويقضيه ويقدّره على خلقه فيه مصالح وحكم؛ فما يفعله -سبحانه- من المعروف والإحسان دالّ على رحمته، وما يفعله من البطش والانتقام دالّ على غضبه، وما يفعله من اللطف والإكرام دالّ على محبته، وما يفعله من الإهانة والخذلان دالّ على بغضه ومقته، وما يفعله بمخلوقاته من النقص ثم الكمال، والحياة بعد الموت، دال على وقوع المعاد.
إن خلق الله لا يبدّله أحد، فما جبل الله الناس عليه من الفطرة لا يبدّل، قال -سبحانه-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم: 30]، وما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه، ولكن ذلك لا يقتضي أن تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس ممتنع في حق العبد، أو أنه غير مقدور له، بمعنى أنه مجبور لا يقدر على تبديله، لا بل العبد قادر على فعل ما أمره الله به من الإيمان، وعلى ترك ما نهاه عنه من الكفر، وعلى أن يبدل سيئاته بالحسنات، وحسناته بالسيئات، قال -سبحانه-: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النمل: 11].
وهذا التبديل كله بقضاء الله وقدره، وهذا بخلاف ما فُطروا عليه حين الولادة، فإن ذلك خلق الله الذي لا يقدر على تبديله غيرُه، وهو -سبحانه- لا يبدّله، بخلاف تبديل الكفر بالإيمان، والإيمان بالكفر، فإنه يبدله كثيرًا، والعبد قادر على تبديله بإعانة الرب له على ذلك، قال -سبحانه-: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان: 70].
وفي تبديل العباد يقول الله -سبحانه-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) [إبراهيم: 28، 29]، وما ورد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أو يُنَصِّرَانهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟"، ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم: 30] [البخاري (1359) ومسلم (2658)].
أيها المؤمنون: إن الله -تبارك وتعالى- خلق الإنسان وخلق صفاته وأفعاله، ويسَّر بعضهم لليسرى، ويسَّر غيرهم للعسرى، وذلك بحسب ما يعمله العبد من الطاعات والمعاصي، قال -سبحانه-: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) [الليل: 5 - 7]. يوفق المحسنين لليسرى، فيمُنّ عليهم بالإيمان والطاعة، والإخلاص والتوبة، والحمد والشكر، فيحسن إلى الناس بماله وينفعهم ببدنه، فالنفس المطيعة هي النافعة المحسنة التي طبعها الإحسان لنفسها ولغيرها، فهي بمنزلة العين التي يشرب الناس منها، ويسقون زروعهم ودوابهم، فهي ميسرة لذلك، وهكذا الإنسان المبارك ميسر للنفع؛ حيث حل، فجزاء هذا أن ييسره الله لليسرى كما كانت نفسه ميسرة للعطاء.
ومن التيسير لليسرى أن يرزق الله العبد التقوى، فيجتنب ما نهى الله عنه، وهذا من أعظم أسباب التيسير، فالمتقي ميسرة عليه أمور دينه ودنياه وآخرته، وفاقد التقوى وإن تيسرت عليه بعض أمور دنياه، تعسر عليه من أمور آخرته بحسب ما تركه من التقوى، ولو اتقى الله لكان تيسيرها عليه أتم، ولو قُدر أن أمور دنياه لم تتيسر له، فقد يسر الله له من الدنيا ما هو أنفع له مما ناله بغير التقوى، فإن طيب العيش، ونعيم القلب، ولذة الروح، وفرحها وابتهاجها من أعظم نعيم الدنيا، وهو أجلّ من نعيم أرباب الدنيا بالشهوات واللذات: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق: 4]، ومن التيسير لليسرى ما أعد الله لأهل كرامته من الثواب العظيم في الجنة.
اللهم اجعلنا من الراضين بقضائك وقدرك، وجنبنا مواطن الضلال، وارزقنا إيمانًا صادقًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الحمد لله رب العالمين الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بعثه بالدين والهدى وكلمة التقوى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا في الآخرة والأولى.
أما بعد: فاتقوا الله وأخلصوا له العمل، واعبدوه وحده لا شريك له، واحذروا التسخط على أقداره، وعدم الرضا بقضائه، فهذه مفاتيح شرور عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية.
أيها الناس: إن النفس البشرية مجهزة بعدة قوى, قوة البذل والإعطاء، وقوة الكفّ والامتناع وهي التقوى، وقوة الإدراك والفهم. فهذه القوى الثلاث عليها مدار صلاح النفس وسعادتها، وبفسادها يكون فسادها وشقاوتها، وأكمل الناس من كملت له هذه القوى الثلاث، ودخول النقص بحسب نقصانها، فمن كملت له هذه القوى يسَّره الله لكل يسرى، فيجري الخير على يديه، وييسر الخير على قلبه ولسانه، ويديه وجوارحه، فتصير خصال الخير ميسرة عليه، منقادة لا تستعصي عليه؛ لأنه مهيأ لها، ميسر لفعلها: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 7- 10].
أما التيسير للعسرى فيكون بأسبابٍ يفعلها العبد، فمن عطل قوة الإدراك والإعطاء عن فعل ما أمر به، واستغنى بترك تقوى ربه، ففعل ما نهى الله عنه، وكذّب بالحسنى فعطّل قوة العلم والتصديق بالإيمان فجزاؤه أن ييسّره الله للعسرى، فيحول بينه وبين الإيمان بالله ورسوله، فيعسر عليه أن يفعل خيرًا، ويتيسر له فعل الشر الذي يؤدي به إلى العذاب، نسأل الله الهداية والتوفيق.
عباد الله: إن من استغنى عن ربه، فاستكبر عن طاعته، وفعل ما يغضبه، فإنه سيعذبه في الدنيا والآخرة، ويلقى العسر والشدة في الدنيا والآخرة، عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ، إِلا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، أفَلا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ السَّعَادَةِ، فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ وَأمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقَاوَةِ"، ثُمَّ قَرَأ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) [الليل: 5 - 7]" [البخاري (4949) ومسلم (2647)].
واعلموا -أيها الإخوة- أن الله -عزَّ وجلَّ- هو الذي يسر للعبد أسباب الخير والشر، وخلق خلقه قسمين: أهل سعادة فيسرهم لليسرى، وأهل شقاوة يسرهم للعسرى، واستعمل كلاً منهما في الأسباب التي خُلقوا لغاياتها، ولا يصلحون لسواها، وحكمته الباهرة تأبى أن يضع عقوبته في موضع لا تصلح له، كما يأبى أن يضع كرامته وثوابه في محل لا يصلح لهما ولا يليق بهما.
والقدر السابق مِن الله على عباده لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، فالعبد إنما ينال ما قُدّر له بالسبب الذي أُقدر عليه، ومُكَّن منه، وهُيئ له، فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب، وكلما زاد اجتهادًا في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه، ومن قدَّر الله أن يرزقه الولد لم ينل ذلك إلا بالنكاح، ومن قدَّر الله له أن يكون أعلم أهل زمانه فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابه، وهكذا في المال والصحة، وكل شؤون الحياة.
وإن من عطل العمل وأعرض عن السبب، اتكالاً على القدر السابق، فهو بمنزلة من عطل الأكل والشرب، اتكالاً على ما قُدّر له، وهل يفعل هذا عاقل؟ وقد فطر الله -تبارك وتعالى- الإنسان والحيوان على الحرص على الأسباب التي بها صالح معاشهم ومصالحهم الدنيوية، فهكذا الأسباب التي بها مصالحهم الأخروية، فهو -سبحانه- رب الدنيا والآخرة، وهو الحكيم بما أقامه من الأسباب في المعاش والمعاد، ويسَّر كلاً من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة.
وإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها من الإيمان والأعمال الصالحة، كان أشد اجتهادًا في فعلها من القيام بها في أسباب معاشه ومصالح دنياه، وإذا علم العبد أن سلوك هذا الطريق يفضي به إلى رياض مونقة، ومساكن طيبة، ولذة ونعيم لا يشوبه نكد ولا تعب، كان حرصه على سلوكها بحسب علمه بما يفضي إليه.
لقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمة في القدر إلى أمرين هما سبب السعادة: الإيمان بالأقدار، فإنه نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره، وتحجز عن شره، وذلك نظام الشرع، فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" [مسلم 2664].
فتدبروا وصية رسول الله للعبد بأن يحرص على ما ينفعه في دينه ودنياه، ثم أوصاه بالاستعانة بالله مع الأخذ بالأسباب، ثم وجَّهه إلى ترك الاعتراض على الأقدار، وعدم فتح باب الشيطان على نفسه، طالما أنه قام يما يجب عليه، وأخَذ بالأسباب الشرعية، فمهما كانت النتائج لا يعترض العبد ولا يتسخط، وهذا لا يفعله إلا المؤمنون حقًّا.
ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر - أيها المؤمنون - أنه طريق الخلاص من الشرك، فالمؤمن بالقدر يُقرّ بأن هذا الكون وما فيه صادر عن إله واحد، ومعبود واحد، ومن لم يؤمن هذا الإيمان فإنه يتخذ من دون الله آلهة وأربابًا.
ومنها أنه يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعدّدة، فهو دائم الاستعانة بالله، يعتمد على الله، ويتوكل عليه مع فعل الأسباب، وهو يغرس أيضًا في نفس المؤمن الانكسار والاعتراف لله تعالى حين يقع منه الذنب، ومن ثَم يطلب من الله العفو والمغفرة.
ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر أنه يُفضي إلى الاستقامة على منهجٍ سواء في السّراء والضرّاء، فلا تبطر العبد النعمة، ولا تقنطه المصيبة، فهو يعلم أن كل ما أصابه من نعم وحسنات فمن الله لا بذكائه وحسن تدبيره، وإذا أصابه الضراء والبلاء علم أن هذا بتقدير الله ابتلاءً منه، فلا يجزع ولا ييأس، بل يحتسب ويصبر، فيسكب هذا الإيمان في قلب المؤمن الرضا والطمأنينة.
كما أن الرضا بأقدار الله يعرِّف الإنسانَ قدرَ نفسه، فلا يتكبّر ولا يبطر، ولا يتعالى أبدًا؛ لأنه عاجز عن معرفة المقدور، ومستقبل ما هو حادث، ومن ثمّ يقرّ الإنسان بعجزه وحاجته إلى ربه تعالى دائمًا، وهذا من أسرار خفاء المقدور.
أيها المسلمون: إن الإيمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سببًا في استقامة المسلم، وخاصة في معاملته للآخرين، فحين يقصِّر في حقّه أحدٌ أو يسيء إليه، أو يردّ إحسانه بالإساءة، أو ينال من عرضه بغير حق تجده يعفو ويصفح؛ لأنه يعلم أن ذلك مقدّر، وهذا إنما يحسن إذا كان في حقّ نفسه، أمّا في حقّ الله فلا يجوز العفو ولا التعلل بالقدر؛ لأن القدر إنما يُحتَج به في المصائب لا في المعايب.
ومن أعظم ثمار الإيمان بالقدر أنه يبعث في القلوب الشجاعة على مواجهة الشدائد، ويقوّي فيها العزائم، فيثبت صاحبه في ساحات الجهاد، ولا يخاف الموت؛ لأنه موقن أن الآجال محدّدة لا تتقدم ولا تتأخر لحظةً واحدة، والداعي إلى الله يصدع بدعوته، ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين، ويفضح ما هم فيه من كفر وظلم، ولا يخاف في الله لومة لائم، وإذا كان الأمر هكذا فكيف يبقى في نفس المؤمن الداعية ذرّة من خوف وهو يؤمن بقضاء الله وقدره؟! فما قُدّر سيكون، وما لم يقدر لن يكون، وهذا كله مرجعه إلى الله، والعباد لا يملكون من ذلك شيئًا.
أيها المؤمنون: ينبغي أن يكون المؤمن بالقدر دائمًا على حذرٍ من أن يأتيه ما يُضله، كما يخشى أن يُختم له بخاتمة سيئة، وهذا لا يدفعه إلى التكاسل والخمول، بل يدفعه إلى المجاهدة الدائبة للاستقامة، والإكثار من الصالحات، ومجانبة المعاصي والموبقات، كما يبقى قلب العبد معلقًا بخالقه، يدعوه ويرجوه ويستعينه، ويسأله الثبات على الحقّ كما يسأله الرشد والسداد.
ومن ثمار الإيمان بالقدر كذلك أنه يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات، وتزرع الأحقاد بين المؤمنين، فالمؤمن يسعى لعمل الخير، ويحب للناس ما يحبّ لنفسه، فإن وصل إلى ما يصبو إليه، حمد الله وشكره على نعمه، وإن لم يصل إلى شيء من ذلك صبر ولم يجزع، ولم يحقد على غيره ممن نال من الفضل ما لم ينله؛ لأن الله هو الذي يقسم الأرزاق، فيعطي ويمنع، وكل ذلك ابتلاء وامتحان منه –سبحانه وتعالى- لخلقه.
عباد الله: أحبوا ربكم لما يغذوكم به من نعمه، وارضوا بقضائه وقدره، واعلموا أن كل ما يقدره الله على عباده فهو خير لهم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، زدنا ولا تنقصنا، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، واجعل أوسع أرزاقنا عند ضعفنا وكبر سننا، اللهم لا تحوجنا إلا إليك، ولا تذلنا إلا بين يديك، وصب علينا الرزق صبًّا، ولا تجعل معيشتنا كدًّا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي