حج بيت الله

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. الأوقات ووظائف الطاعات .
  2. الحج مؤتمر عالمي للتعارف .
  3. من أحكام الحج وفقهه .
  4. منافع الحج وبركاته .
  5. فضائل البيت الحرام   .
  6. حِكَم الحج وغاياته. .

اقتباس

لقد أوجب الله حج بيته الحرام على كل مسلم يستطيع الوصول إليه، وافتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت، وعظّم شأنه حتى يدعو النفوس إلى قصده وحجه وإن لم يطلب ذلك منها، فوصفه بخمس صفات: أحدها: كونه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض. الثاني: أنه مبارك، والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه، ولا أكثر خيراً منه، ولا أدوم ولا أنفع للخلائق منه. الثالث: أنه هدى للعالمين...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أكمل لهذه الأمة شرائع الإسلام، وفرض على المستطيع منهم حج بيته الحرام، ورتّب عليه جزيل الفضل والإنعام، فمن حج البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج كيوم ولدته أمه؛ نقيًّا من الذنوب والآثام، وذلك هو الحج المبرور الذي ليس جزاءً إلا الفوز بالجنة دار السلام، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله هو الملك القدوس السلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من صلى، وزكى، وحج، وصام, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام، وسلم تسليمًا.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله، واحمدوا ربكم أن أكمل لكم الدين، وأتم عليكم النعمة، ويسر لكم سبل الخيرات حتى أصبحت في متناول أيديكم من غير كُلفة، فلقد كان الناس فيما مضى يعانون من الوصول إلى البيت أنواع الكلفة والمشقات، يعانون كثرة النفقات المالية والمشقة البدنية، وتحمل الأخطار، أما اليوم -ولله الحمد- فقد أصبح الأمر يسيرًا، ويسر الله بنعمته وفضله ما كان عسيرًا، فأصبحتم تصلون إلى البيت الحرام بكل سهولة, نفقات يسيرة ومراكب مريحة، وأمن وافر وطمأنينة كاملة، وعيش رغد.

فاشكروا الله -أيها المسلمون- على هذه النعمة، واغتنموها، وانتهزوا فرص الخيرات، وابتدروها، وأدوا ما فرض الله عليكم من الحج، وتزودوا من التطوع به، فإن التطوع تكمل به الفريضة.

أيها الإخوة: إن الله تعالى جعل الأوقات والشهور تتكرر على العباد لتقوم وظائف الطاعات، وتنشط النفوس على الخيرات، فكلما مضت مواسم الخير وانتهى شهر الصيام، أعقبه الله بشهور الحج إلى بيته الحرام، وكما أن من صام رمضان وقامه غُفرت له جميع الذنوب والآثام، فمن حج البيت أو اعتمر غفرت ذنوبه فضلاً من الملك العلام ، فما يمضي على المؤمن وقت من الأوقات، إلا ولله عليه وظيفة من وظائف الطاعات، فإذا قام بها ووفاها كان من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات الذين أعدّ الله لهم الخيرات والجنات العاليات، نسأل الله أن يجعلنا منهم بمنّه وفضله.

عباد الله: الحج ركن من أركان الإسلام، وهو مؤتمر المسلمين الجامع على مستوى العالم، الذي يتلاقون فيه مجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام، متجردين من كل سمة إلا سمة الإسلام، عرايا من كل شيء إلا من ثوب غير مخيط يستر العورة، ولا يميز فرداً عن فرد، ولا قبيلة عن قبيلة، ولا جنساً عن جنس. لهم نسب واحد هو الإسلام, ولهم صبغة واحدة هي شعائر الإسلام وشرائعه وأخلاقه, (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) [البقرة: 138].

كانت قريش في الجاهلية تسمي نفسها الحُمس، ويتخذون لأنفسهم امتيازات تفرّقهم عن سائر العرب، ومن ذلك أنهم لا يقفون مع سائر الناس في عرفات، ولا يخرجون من الحرم، ولا يفيضون مع الناس, فجاءهم الأمر من الله ليردهم إلى المساواة التي أرادها الله، وإلى الاندماج الذي يلغي هذه الفوارق المصطنعة بين الناس، والتوبة من تلك الذنوب, كما قال -سبحانه-: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 198، 199].

إن فريضة الحج الفرصة السانحة العالمية لتعارف الإنسان بأخيه الإنسان، واختلاطهم ببعض؛ ذلك لأننا مهما بذلنا من جهد فإننا لن نتمكن من حشد هذا الكمّ الهائل الضخم من شتى دول العالم على اختلاف ثقافاتهم ولغاتهم وتوجهاتهم إلا في أثناء فترة الحج، قال تعالى في محكم كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]، فالعامة والخاصة، والأغنياء والفقراء، والذكور والإناث، والسادة والعبيد، كلهم جميعاً أمام أوامر الله سواء، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، يصلون كلهم جميعاً بلا استثناء، ويصومون معاً، ويمتثلون أوامر الله معاً في جميع شؤون الحياة، ويطيعون الله ورسوله في كل أمر.

لقد كلفهم الإسلام أن يتجردوا في الحج من كل ما يميزهم من الثياب، ليلتقوا في بيت الله إخواناً مكرمين متساوين في الطاعة والعبودية: رب واحد, ودين واحد, وكتاب واحد, ورسول واحد, (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].

وقد جعل الله الكعبة البيت الحرام أول بيت وضعه الله للناس، يتعبدون فيه لربهم فتغفر أوزارهم، وتقال عثراتهم، ويحصل لهم به من الطاعات والقربات ما ينالون به رضى ربهم، والفوز بثوابه، والنجاة من عقابه كما قال -سبحانه-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 96، 97].

ففي حج هذا البيت بركات ومنافع دينية ودنيوية, وفيه هدى للعالمين. والهدى نوعان: هدى في المعرفة, وهدى في العمل. فالهدى في العمل هو ما جعل الله فيه من أنواع التعبدات المختصة به، وأما هدى العلم فبما يحصل لهم بسببه من العلم بالحق، ومعرفة عظمة الرب وجلاله، ومعرفة حكمته وسعة علمه ورحمته، وما مَنّ به على أوليائه وأنبيائه.

عباد الله, يجب الحج على كل مسلم بالغ عاقل حر مستطيع، وهو واجب على الفور في أصح أقوال العلماء، ويحرم على القادر تأخيره، قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97]. وهذا ما أكد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ". [مسلم (1337)].

ويدخل في شرط الاستطاعة: القدرةُ البدنية والمالية، وذلك بأن يملك الزاد والراحلة بعد حاجاته الأصلية، ومن شرط الاستطاعة بالنسبة للمرأة أن يتيسّر لها محرم يحجّ معها، وأن لا تكون معتدّةً لأنها منهية عن الخروج من البيت.

والحج سر من أسرار الله تعالى القوية في استئصال الذنوب، ودفع مسبق لشراء سلعة الله  الغالية، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ" [البخاري (1773) ومسلم(1374)].

إن فريضة الحج وموسمه غنيان بأيام كلها طهر ونقاء، وبركة وصفاء، ولو لم يكن فيه إلا اليوم العظيم؛ يوم المباهاة، يوم الكرم، يوم العطاء، يوم العتق من النار؛ إنه يوم الوقوف بعرفة، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ يَوْمٍ أكْثَرَ مِنْ أنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْداً مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أرَادَ هَؤُلاءِ؟" [مسلم(1348)].

وفي الحج بذلٌ وعَطاء وعَناء إلا إنه في المقابل أجر وثوابٌ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- سئِل النبيُّ: أيُّ العمَلِ أفضَل؟ قال: "إِيمانٌ باللهِ ورَسولِه"، قيل: ثمّ ماذَا؟ قالَ: "الجهادُ في سبيلِ الله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "حجٌّ مبرور" [البخاري(26) ومسلم(85)].

وقد حذرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- من تأخير الحج مع الاستطاعة أشد تحذير، فقد ثبت عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعجلوا إلى الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له" [مسند أحمد (2869) وصححه الألباني]. وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله تعالى يقول: إن عبدًا أصححت له جسمه، ووسعت عليه في معيشته، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليّ لمحروم" [ابن حبان (3703) وصححه الألباني]، فإن كان من لا يحج في كل خمسة أعوام محروماً، فما عسانا نقول لمن لم يحج حتى الآن حج الفريضة، مع تيسر السبل وكثرة الحملات وسهولة السفر وقصر المدة؟!!.

وقد روى البيهقي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كلَّ من كان له جِدَةٌ ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين".

عباد الله: يقول الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 96، 97] لقد أوجب الله حج بيته الحرام على كل مسلم يستطيع الوصول إليه، وافتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت، وعظّم شأنه حتى يدعو النفوس إلى قصده وحجه وإن لم يطلب ذلك منها، فوصفه بخمس صفات: أحدها: كونه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض. الثاني: أنه مبارك، والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه، ولا أكثر خيراً منه، ولا أدوم ولا أنفع للخلائق منه. الثالث: أنه هدى للعالمين في كل ما ينفعهم في الدنيا والآخرة. الرابع: ما فيه من الآيات البينات والعبر العظيمة التي تزيد على أربعين آية. الخامس: حصول الأمن لداخله، فالناس والوحوش والأشجار كلهم في أمان داخله.

وذلك يدل على عناية الله بهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيم لشأنه، والرفعة من قدره وتعظيم من طاف به، ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه لكفى بهذه الإضافة فضلاً وشرفاً كما قال -سبحانه-: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج: 26]، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وساقت نفوسهم حباً له، وشوقاً إلى رؤيته. فهذه المثابة للمحبين له يثوبون إليه، ولا يقضون منه وطراً أبداً، كلما ازدادوا له زيارة ازداد إيمانهم، وحسنت أخلاقهم، وازدادت أعمالهم الصالحة. وكلما تكرر ذلك ازدادوا له حباً وإليه اشتياقاً، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة: 125].

لقد أراده الله مثابة يثوب إليه الناس جميعاً من أقطار الأرض كلها، فلا يروعهم أحد، بل يأمنون فيه على أرواحهم وأموالهم، فهو ذاته أمن وطمأنينة وسلام، ومن أَمَّهُ معظماً لربه فهو آمن، فليؤم الناس هذا البيت الذي يذكر بالله وشرعه وأنبيائه ورسله: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش: 3، 4]، وليقتدوا بأنبياء الله ورسله في عبادتهم لربهم، وإخلاصهم له، وفي دعوتهم إلى الله، وجهادهم في سبيله، وإقامة شريعته، وفي حسن أخلاقهم، وكمال عبوديتهم، فهؤلاء الذين اختارهم الله رسلاً إلى خلقه: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90]، فهم أئمة الدعوة والعبادة، السابقون لها، الموفون حقها، فلذلك اختارهم الله من بين خلقه يبلغون شرعه، ويقتدى بهم في سيرتهم: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء: 73].

وسعادة الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم بالله وعبادته وحده لا شريك له، واجتماع كلمتهم على الحق والهدى، وبعدهم عن الفرقة والخلاف، وهذه من أَجَلِّ نعم الله على العباد, وقد أرسل الله -عزَّ وجلَّ- نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- والعرب في خصام وتنافر، وتقاطع وتدابر، القلوب ملؤها الأضغان والأحقاد، والحروب بينهم متصلة، ونيرانها مشتعلة، يعبدون الأوثان، ويقترفون الآثام، ويظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق.

فأمر الله رسوله أن يجمع بين القلوب، ويسلك بهم طريق التآلف والوئام، ولما كانت هذه الطريق غير كافية لانتظام شمل المسلمين، وتوحيد كلمتهم، وجعلهم كالرجل الواحد في الألفة؛ إذ هم متفرقون في مشارق الأرض ومغاربها، كما أنهم مختلفون من جهة العناصر واللغات، لذا شرع الله لهم الحج ليجتمعوا في صعيد واحد على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وأقطارهم كما قال -سبحانه-: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27].

فإذا اجتمعوا من أماكنهم الشاسعة عند بيته العتيق حصل بينهم التعارف والتآلف تحت راية (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، واجتمعت كلمتهم على الحق والهدى، وتبادلوا في هذا اللقاء العظيم ما فيه مصالحهم الدينية والدنيوية، وعرف بعضهم أحوال بعض. فنشأ من ذلك الزيارات النافعة في الدعوة والتعليم، والصدقات على الفقراء والمحتاجين، والتراحم والتناصر، والتعاون على البر والتقوى تحقيقاً لقوله -سبحانه-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2].

نسأل الله تعالى أن يحملنا إلى بلده الحرام حجاجًا ومعتمرين، وأن يتابع لنا بين الحج والعمرة، إنه جواد كريم.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي رتّب على حج بيته الحرام كل خير جزيل، وجعل قصده من أجل القربات الموصلة إلى ظله الظليل، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الجليل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكمل الخلق في كل خلق جميل، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة: لقد شرع الله العبادات إظهاراً لحق العبودية، ولحق شكر النعمة، وفي الحج إظهار العبودية وشكر النعمة وحسن الطاعة. أما إظهار العبودية فلأن إظهار العبودية هو إظهار التذلل للمعبود، وفي الحج ذلك؛ لأن الحاج في حال إحرامه، وطوافه وسعيه، ووقوفه بعرفات والمزدلفة ومنى، وغير ذلك من مناسك الحج يظهر عبوديته لربه بشعث حاله، وتنقله من مكان إلى مكان تنفيذاً لأوامر مولاه.

وفي حال وقوفه بعرفة بمنزلة عبد عصى مولاه، فوقف بين يديه متضرعاً منكسراً، حامداً له مثنياً عليه، مستغفراً لزلاته، مستقيلاً لعثراته. وفي الطواف بالبيت يلازم المكان المنسوب إلى ربه، بمنزلة عبد معتكف على باب مولاه، لائذ بجنابه. وأما شكر النعمة، فلأن العبادات بعضها بدنية، وبعضها مالية، والحج عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال، فكان فيه شكر النعمتين، وشكر النعمة واجب عقلاً وشرعاً.

أيها الإخوة: والحج مدرسة جامعة لكل خير، يتعود فيها المسلم على الصبر، ويتذكر فيها اليوم الآخر وأهواله، ويستشعر فيه لذة العبودية لله، ويعرف عظمة ربه وجلاله، وخضوع الخلائق بين يديه، وشدة حاجتهم إليه.

والحج موسم كبير لكسب الأجور، حيث تضاعف فيه الحسنات، وتكفر فيه السيئات، يقف فيه الحاج بين يدي ربه مقراً بتوحيده، معترفاً بذنوبه، مقراً بعجزه عن القيام بحق ربه، ممتثلاً لأمر ربه، فيرجع من الحج نقياً من الذنوب كيوم ولدته أمه. قال النبي  -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" [أخرجه البخاري (1521) واللفظ له، ومسلم (1350)].

إن الحج نموذج مصغر ليوم الحشر، لذلك فإن المتلبس بحج أو عمرة يبدأ رحلته بارتداء الأكفان بعد التجرد من المخيط، ويقطع رحلة تشبه البعث من القبور والقيام لرب العالمين، وإن ساحة عرفات تذكّر بأرض المحشر؛ حيث يأتي الناس إليها من كل فج عميق, وهم يتنقلون بين عرفات ومزدلفة ومنى والبيت العتيق للتذكير بعرصات يوم القيامة؛ حيث في الحشر الحساب والميزان والمرور في الظلمات، واجتياز الصراط، والحبس فوق قنطرة بين الجنة والنار لاقتصاص المظالم.

ومن أعظم حِكَم الحجِّ وغاياته التي تظهر للمتأمِّل: تذكُّر الدَّار الآخِرة، فالحاجُّ يغادر أوطانه التي أَلِفَها ونشأ في ربوعها، وكذا الميِّت إذا انقضى أجله غادر هذه الدنيا، والميِّت يجرَّد من ثيابه، وكذا الحاجُّ يتجرَّد من المَخِيط طاعةً لله تعالى، والميِّت يغسَّل بعد وفاته، وكذا الحاجُّ يتنظَّف ويغتسل عند ميقاته، والميِّت يكفَّن في لفائفَ بيضاء هي لباسه في دار البرزخ، والحاج يلبس رداءً وإزارًا أبيضَيْن لمناسكه، وفي صعيد عرفات والمِشْعر الحرام يجتمع الحجيج، وفي يوم القيامة يُبعَث الناس ويُساقون إلى الموقِف: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 6]، إلى غير ذلك من الحِكَم والمقاصد والعِبر التي تَعِظ وتذكِّر.

إن هذا المقصد من مقاصد الحج ليس اجتهادا يستنبط، ولكنه المنصوص عليه في قوله -سبحانه-: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ ومَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [البقرة: 203] فقد طلب من الحجاج -وقد قضوا مناسكهم- أن يتأكدوا من أنهم إلى ربهم يحشرون، وقد خاضوا تجربة تشبهه. ولعل مما يؤيد ذلك أنه كما ينتهي يوم الحشر بعد سَوْق كل فريق إلى مثواه أو مأواه زمرا، ترى الملائكة حافّين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم، وكذا الحج ينتهي بطواف الوداع الذي ينفضُّ الناس بعده مباشرة إلى أوطانهم.

أيها الإخوة: وفي الحج موسم دعوي رابح للدعاة والمصلحين، فالناس فيه مقبلون على الخير وقد تجردوا عن مشاغل الدنيا وملهياتها، ولمشاهد الموسم ومناسكه أثر عجيب على قلب كل حاج، وتمس حاجة الحجاج إلى فقه العلماء وإرشادات الدعاة، ويقصد البيت ويحج إليه فئات كثيرة كان احتكاك الدعاة بهم قليلا في السابق من سياسيين وزعماء وأعيان قد يكون للتأثير عليهم ما بعده، والدعاة أنفسهم يأتون من شتى المناطق بأعداد كبيرة تكفي القيام بأعباء الدعوة في الموسم، فتفويت هذه الفرصة الدعوية من قبل الدعاة تفريط لا مبرر له، وينبغي أن يندموا على ما فاتهم في ذلك، وأن يعدوا عدتهم في هذا العام؛ لتعويض ما مضى.

أيها المسلمون: تابعوا بين الحج والعمرة، ففيهما أجر كبير، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" [البخاري(1521)]، وفيهما مغفرة من الله ورضوان، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أتَى هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أمُّهُ" [مسلم(1350)].

أخي الكريم يا مُريد الجنّة، يا عاشق الحور: لا تخف من الفقر، ولا تقنط من رحمة الله، وتابع بين الحج والعمرة تُكفى همك ويغفر ذنبك، ويوسع الله عليك ويغنيك، وتأمل معي ما صح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكثير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا في الجنة". [الترمذي (810) وصححه الألباني].

فهنيئاً للحجّاج كلّما لبّوا وكبّروا، عن سهل بن سعد الساعدي، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مُلَبٍّ يلبّي، إلا لبّى ما عن يمينه وشماله، من حجر، أو شجر، أو مدر، حتى تنقطع الأرض، من هاهنا وهاهنا"[صحيح الجامع (5770)]. فاحرصوا -أيها الإخوة- على هذه الأجور العظيمة، ولا تفرطوا في مواسم الخير والبر.

نسأل الله التوفيق للخير، والنجاة من الشر، وأن يحملنا إلى بلده الحرام حجاجًا ومعتمرين، وألا يحرمنا من حج بيته، اللهم تابع لنا بين الحج والعمرة، ولا تجعلنا من المحرومين.

اللهم يا حي يا قيوم، يا عظيم المن، يا كريم العطايا، يا واحد يا أحد، يا ذا الجلال والإكرام نسألك صحة في إيمان، وعافية في حسن خُلق، نعوذ بك اللهم من أن نَضِل أو نُضل، أو نَزِل أو نُزل، أو أن نجهل أو يُجهل علينا. اللهم إنا نعوذ بك وبوجهك الكريم من المظالم كلِّها، ومن عمل السوء، ومن قول السوء، ومن عاقبة السوء، اللهم اهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم، وأصلح لنا شأننا كله.

اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي