أهل الإيمان بين شهري شعبان ورمضان

فؤاد بن يوسف أبو سعيد
عناصر الخطبة
  1. حرص أهل الإيمان على إدراك نفحات الله .
  2. صيام أهل الإيمان في النصف الأول من شهر شعبان .
  3. عدم صيام أهل الإيمان بعد انتصاف شهر شعبان ويوم الشك .
  4. ذكريات أهل الإيمان بتحويل القبلة .
  5. ابتعاد أهل الإيمان عن الأخلاق الذميمة .
  6. اجتناب أهل الإيمان للذنوب .
  7. صفاء وسلامة قلوب أهل الإيمان أمراض القلوب .
  8. إخلاص أهل الإيمان .

اقتباس

إن أهل الإيمان لهم نفحات في دهرهم، يتقربون فيها إلى ربهم، ويتعرضون فيها لما يجلب لهم رضا الله -سبحانه وتعالى-، ففي شهر شعبان حدثت أحداثٌ وحوادث، ووقعت وقائع، وجرت أمور على مرِّ السنين والأعوام. إنهم يعرفون حقيقة شهر شعبان، ف....

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70 - 71].

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

عباد الله: أقبل شهر شعبان، ليوصلنا إلى شهر رمضان، فما هو حال أهل الإيمان في شهر شعبان؟

هؤلاء أهل الإيمان، لهم نفحات يتعرضون بها، ويتعرضون فيها في دهرهم إلى ربهم.

إن أهل الإيمان لهم نفحات في دهرهم، يتقربون فيها إلى ربهم، ويتعرضون فيها لما يجلب لهم رضا الله -سبحانه وتعالى-، ففي شهر شعبان حدثت أحداثٌ وحوادث، ووقعت وقائع، وجرت أمور على مرِّ السنين والأعوام.

إنهم يعرفون حقيقة شهر شعبان، فشعبان شهرٌ يسبق رمضان.

إن من استطاع من أهل الإيمان: الصيام فيه صام، اتباعا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي قال له أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ -رضي الله تعالى عنه-: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ -فهو يصوم في كل الأشهر، لكنه يصوم في شهر شعبان أكثر- قَالَ: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"[سنن النسائي (2357)، مسند أحمد، ط الرسالة، (ج36/ ص85) ح (21753) الصحيحة (1898)].

وفي رواية عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: "كان يصوم شعبان كلَّه، وكان يصوم شعبان إلا قليلا"[متفق عليه].

يعني كأنه يصوم شهر شعبان كله، إلا قليلا منه، والرواية هنا: تثبت أنه وكأنه لم يتم شهرا، إلا شهر رمضان قط.

أهل الإيمان يعلمون: أنَّ صيامهم هذا ما هو إلاَّ لاستقبالِ شهرِ الصيامِ والحسناتِ والخيرات، بالصيامِ والأعمالِ الصالحات، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ -أي في بقية الأيام، والشهور- حَتَّى نَقُولَ: لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ"[مسلم (1156)].

أهل الإيمان: إن قصَّروا في الصيام في أوائل شعبان، فلا يصومون بعد انتصافه، لنهي رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ، فَلا تَصُومُوا"[سنن أبي داود (2337)].

قال المناوي: "... وعند النسائي: "فكفُّوا عن الصيام" [وجدته في معجم ابن المقرئ، (ص: 60، رقم 96)].

وعند ابن ماجة (1651)]: "إذا كان النصف من شعبان فلا صومَ، حتى يجيء رمضان".

وعند ابن حبان ( 3589): "فأفطروا حتى يجيء رمضان".

وفي رواية له (3591): "لا صوم بعد نصف شعبان حتى يجيء رمضان".

ولابن عدي: "إذا انتصف شعبان فأفطروا" [المعجم الأوسط (2/ 264، رقم 1936)، مصنف عبد الرزاق الصنعاني (4/ 161، رقم 7325)].

وللبيهقي (4/ 352، رقم 7961): "إذا مضى النصف من شعبان فأمسكوا حتى يدخل رمضان" [مسند أحمد، ط الرسالة (15/ 441، رقم 9707)].

وعند الترمذي (738): "إِذَا بَقِيَ نِصْفٌ مِنْ شَعْبَانَ فَلا تَصُومُوا".

كل هذه الروايات تبين لمن أراد الصيام، فعليه الصيام من أول شهر شعبان، وقبل النصف، فإذا انتصف ولم يكن للإنسان عادة أن يصوم، فلا صوم فيه إلا لمن اعتاد على ذلك.

فمن كان منهم له عادة أن يصومَ اثنين وخميس، أو من سَرَرِ الشهر وختامِه، أو ابتدأ صوما من قبل انتصاف شعبان، فكل ذلك لا يمنعهم من الصوم بعد انتصاف هذا الشهر.

أمَّا يومُ الشكِّ؛ هو أن تشك؛ هل هذا اليوم هو من رمضانَ أو من شعبانَ، فهم من أبعد الناس عن صيامه، فيصومه الإنسان؛ إذا كان من شعبان يكون تطوع، وإذا كان من رمضان؛ ها نحن صمناه، فأهل الإيمان أبعد عن صيامه، فهم لا يريدون معصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عَنْ صِلَةَ، قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ عَمَّارٍ -رضي الله تعالى عنه- فَأُتِيَ بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ -أي في الثلاثين من شعبان، ومصلية أي مشوية-، فَقَالَ: "كُلُوا" فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ، قَالَ: "إِنِّي صَائِمٌ" فَقَالَ عَمَّارٌ: "مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ  -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"[رواه النسائي (2188) وأبو داود (2334)، والترمذي (686) وقال: "حديث حسن" وابن ماجة (1645)].

شهر شعبان! يذكر أهل الإيمان بأولى القبلتين، وتحويلِ قبلة الصلاة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، فقد كان بيتُ المقدسِ قبلةَ المسلمين، لبضعةَ عشرَ شهرا، وكان صلى الله عليه وسلم يجولُ ببصره إلى السماء، ويحِبُّ أن تكونَ قبلةُ الصلاة إلى البيتِ الحرام، وينتظرُ الأمرَ من السماء بالتوجه إلى المسجد الحرام في الصلاة، فنزل قول الله -جل جلاله-: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)[البقرة: 144].

قال ابن كثير: "وفي شعبان من هذه السنة -أي السنة الثانية من الهجرة- حُوِّلَت القبلةُ من بيت المقدس إلى الكعبة، وذلك على رأس ستةَ عَشَرَ شهراً من مَقْدَمِه المدينة"

وقيل: سبعةَ عشرَ شهراً.

وهما في الصحيحين.

وكان أَوَّلَ من صلَّى إليها -إلى القبلة، إلى المسجد الحرام- أبو سعيد بنُ المعلَّى، وصاحبٌ له، كما رواه النسائي قالا: "وذلك أنَّا سمعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطُبُ الناسَ ويتلو عليهم تحويل القبلة، فقلت لصاحبي -هكذا يسارعون إلى الخيرات أهل الإيمان- "تعالَ نصلي ركعتين -أي في المسجد الحرام- فنكونَ أوَّلَ من صلى إليها، فتوارينا وصلينا إليها".

ثم نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى بالناس الظهر يومئذ" [الفصول في السيرة، ص: 127)].

إنهم أهل الإيمان، يسارعون إلى أفعال الخير ليكونوا من السابقين.

إن أهل الإيمان من أبعد الناس عن الأخلاق الذميمة، والصفات القبيحة، والآداب السيئة، دائما وأبدا، وفي مواسم الخير على وجه الخصوص، فلا شرك عندهم أكبر، لا يشركون بالله، ولا أصغر، ولا مشاحنة عندهم، ولا ابتداع عندهم؛ لأنهم يبحثون عن عفو الله وغفرانه، وصفحه ورضوانه، وذلك أن ليلة النصف من هذا الشهر، شهر شعبان لها شأن عظيم؛ حيثُ أخبر صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ؛ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ"[ابن ماجة (1390)].

وأَكَّدَ ذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مبينا المحرومين من المغفرة- بقوله الآخر: "يَطْلُعُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْهِلُ الْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدْعُوهُ" [المعجم الكبير للطبراني (22/ 223، رقم 590)، انظر: صحيح الجامع (831)، الصحيحة (1144)].

أهل الأحقاد يتركهم، حتى يتركوا الأحقاد، ويرفعوها من قلوبهم.

فـ"المشرك: هو كلُّ من أشرك مع الله شيئا في ذاته -تعالى- أو في صفاته أو في عبادته.

والمشاحن: قال ابن الأثير: هو المعادي.

والشحناء: العداوة، والتشاحن تفاعل منه.

وقال الأوزاعي: "أراد بالمشاحن ها هنا؛ صاحب البدعة، المفارق لجماعة الأمة"[السلسلة الصحيحة (4/86) (1563)].

"ويتعين على -أهل الإيمان-: أن يجتنبوا الذنوب التي تمنع من المغفرة، وقبول الدعاء -عامة-، وفي تلك الليلة -ونحوها خاصة- وقد روي أنها -الذنوب التي تمنع من المغفرة-: "الشرك وقتل النفس والزنا".

وهذه الثلاثةُ أعظمُ الذنوب عند الله، كما في حديث ابن مسعود المتفق على صحته؛ أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أيُّ الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك".

فأنزل الله -تعالى- ذلك: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا* إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) [الفرقان: 68 - 71].

-أهل الإيمان من أبعد الناس عن- الذنوب المانعة من المغفرة -ومنها-: الشحناء! وهي حقد المسلم على أخيه، بغضا له لهوى نفسه؛ لأن ذلك يمنع أيضا من المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة، كما في صحيح مسلم (2565) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا".

وقد فسَّر الأوزاعيُّ هذه الشحناءَ المانعةَ؛ بالذي في قلبه شحناء لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا ريب أن هذه الشحناءَ أعظمُ جرما من مشاحنة الأقران بعضهم بعضا.

وعن الأوزاعي أنه قال: "المشاحن كلُّ صاحب بدعة فارق عليها الأمة".

وكذا قال ابن ثوبان: "المشاحنُ هو التاركُ لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، الطاعنُ على أمته، السافكُ دماءهم".

وهذه الشحناء؛ أعني شحناءَ البدعة؛ توجب الطعن على جماعة المسلمين، واستحلالِ دمائهم وأموالهم وأعراضهم، كبدع الخوارج والروافض، ونحوهم.

-فهنيئا لأهلِ الإيمان الذين صُدُورُهم سليمةٌ- من أنواع الشحناء كلِّها، وأفضلِها السلامةُ من شحناء -اتصف- أهل الأهواء والبدع، التي تقتضي الطعنَ على سلف الأمَّة، وبغضَهم والحقدَ عليهم، واعتقادَ تكفيرِهم أو تبديعِهم وتضليلِهم، ثم يلي ذلك سلامةُ القلب من الشحناء لعمومِ المسلمين، وإرادةُ الخير لهم، ونصيحتُهم، وأن يحبَّ لهم ما يحبُّ لنفسه، -هكذا هم أهل الإيمان- وقد وصفهم الله -تعالى- بأنهم: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر: 10].

وفي سنن ابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَي النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ" قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ؛ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟! قَالَ: "هُوَ التَّقِىُّ النَّقِي، لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ بَغْىَ، وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ".

-وهم يحبون أن يكونوا كذلك-.

قال بعض السلف: "أفضلُ الأعمال سلامةُ الصدور، وسخاوةُ النفوس، والنصحُ للأمة".

وبهذه الخصال بلغ من بلغ، لا بكثرة الاجتهاد في الصوم والصلاة.

إخواني: اجتنبوا الذنوبَ التي تَحرِم العبدَ مغفرةَ مولاه الغفار، في مواسم الرحمة، والتوبة، والاستغفار.

أما الشرك، فقد قال الله -تعالى-: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)[المائدة: 72].

وأما القتل؛ فـ"لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ"[سنن الترمذي (1398)].

وأما الزنا؛ فحذارِ حذارِ من التعرض لسخط الجبار، الخلق كلُّهم عبيد الله وإماؤه، والله يغار: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ؛ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِي، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"[صحيح البخاري (5221)].

فمن أجل ذلك حرم الفواحش، وأمر بغض الأبصار.

وأما الشحناء؛ فأهل الإيمان ليسوا من أهلها.

فيا من أضمر لأخيه السوء، وقصد له الإضرار: لا تنس قول الله -جل في علاه-: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)[إبراهيم: 42].

يكفيك حرمانُ المغفرة في أوقات مغفرة الأوزار.

خابَ عبدٌ بارَزَ المـَوْلَى بأسبابِ المعاصي

ويحَه ممَّا جناهُ لم يخفْ يومَ القصاصِ

يومٌ فيهِ ترعُدُ الأقدام من شيبِ النواصي

لي ذنوبٌ في ازديادِ وحياةٌ في انتقاص

فمتى أعملُ ما أعلمُ لي فيهِ خلاصي؟!

[انتهى بتصرف من "لطائف المعارف" لابن رجب الحنبلي].

"فيا أيها الْغَافِلُ! تَنَبَّهْ لِرَحِيلِكَ وَمَسْرَاكَ، وَاحْذَرْ أَنْ تُسْتَلَبَ عَلَى مُوَافَقَةِ هَوَاكَ، انْتَقِلْ إِلَى الصَّلاحِ قَبْلَ أَنْ تُنْقَلَ، وَحَاسِبْ نَفْسَكَ عَلَى مَا تَقُولُ وَتَفْعَلُ، وَلا تَغْفُلْ عَنِ التَّدَارُكِ؛ اللَّهَ اللَّهَ لا تَفْعَلْ"[التبصرة، لابن الجوزي (2/ 48)].

توبوا إلى الله، وأستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى من اهتدى بهداه إلى يوم الدين.

وبعد:

إنهم أهل الإيمان ديدنهم: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) [إبراهيم: 38].

ناداهم ربهم فاستجابوا، وأخبر أنه يعلم أفعالهم فأيقنوا وعملوا: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[البقرة: 270 - 271].

إنهم علموا فعملوا، علموا أنَّ إخفاءَ العباداتِ أحرى وأجدرُ في قبولها، فأخفوها، لقد "اشتَهَر بعضُ الصالحين بكثرةِ الصيام، فكان يجتهدُ في إظهارِ فطرِه للناس -وهذا في غير رمضان-، حتى كان يقومُ يومَ الجمعةِ والناسُ مجتمعون في مسجد الجامع، فيأخذُ إبريقا فيضع بُلْبُلَتَه في فيه ويمصُّه، ولا يزدردُ منه شيئًا، ويبقى ساعة كذلك، ينظر الناسُ إليه فيظنون أنه يشرب الماء، وما دخل إلى حلقه منه شيء.

كم سترَ الصادقون أحوالهم، وريحُ الصدق يَنِمُّ عليهم، ريحُ الصيام أطيبُ من ريح المسك، تستنشقه قلوبُ المؤمنين وإن خفي، وكلما طالت عليه المدة؛ ازدادت قوة ريحه"[لطائف المعارف، ص: 132)].

ألا وصلّوا وسلّموا على من أُمرتم بالصلاة والسلام عليه، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].

اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وآله وأصحابه وأزواجه وأتباعه، اللهم ارض عّنا معهم، وارزقنا حبَّهم، واجمعنا بهم في جنتك.

اللهم لا تؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90].

عبد الله: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي