معاشر المسلمين: وعلى عظيم أجر النصيحة، وسهولة أمرها، لمن سهلها الله عليه، إلا أن الشيطان ثقلها على كثير من الناس، فحرموا أنفسهم أجرا، وحرموا غيرهم خيرا، مع أن وسائل النصح متنوعة ومتيسرة؛ فتارة تكون النصيحة بالمكاتبة، وتارة تكون بالمشافهة، وتارة بالفعل؛ ك...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ...
أما بعد:
فمعاشر المسلمين: لما كان الإسلام يسعى إلى كل خير، وينهى عن كل شر، يحث على جلب المصالح، والترغيب فيها، ويحث على درء المفاسد، والترهيب منها، أمر بالاجتماع، ونهى عن الافتراق، أمر المسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير، ومن لازم ذلك أن يكره لأخيه ما يكره لنفسه من الشر.
معاشر المسلمين: ولما كان المجتمع المسلم يتفاوت أفراده في تحصيل الخير، ودرء الشر، لما يعتريهم من فتن الشهوات والشبهات، كان من المصالح التي حث عليها الإسلام، ورغب فيها، بل علق براءة الذمة بأدائها، لمن كان قادراً عليها: ذلك -معاشر المسلمين- ما يتعلق بأمر النصيحة، فالنصيحة من الدين لها المكانة الرفيعة، والرتبة الشريفة، ومما يؤكد عظيم شأنها، وجليل أمرها؛ قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"[أخرجه مسلم].
وفي رواية أبي داود: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة".
فسمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الدين بالنصيحة، وهذا ما يسميه العلماء بإطلاق الكل على الجزء، تعظيما لذلك الجزء؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة".
ففي الحج رمي، وطواف، وسعي، وغير ذلك، لكنه خص عرفة باسم الحج، لعظيم شأن الوقوف بعرفة.
وهكذا ما يتعلق بالنصيحة، بل قال بعض العلماء في تخريج كون الدين هو النصيحة؛ لأن الدين أمر ونهي، وهذا هو النصح كله؛ فالنصح يحث على الخير وبقاءه، وينهى عن الشر في قبل ابتدائه، وفي أثنائه، وبعد فراغه، ولذا سميت الأبرة ب"المنصحة" لأنها ترتق ما تفتق من الثياب، وترقع ما يحدث من الشقوق، وكذا النصيحة تغلق أبواب الشرور، وتبرأ بها الذمم، وتحصل بها الأجور.
معاشر المسلمين: ومن شرف النصيحة، وعظيم مكانتها أيضا: أن الله -تعالى- وصف أنبياءه؛ بأنهم نصحة، فعن نوح -عليه السلام-: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ) [الأعراف: 62].
وعن هود -عليه السلام-: (وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) [الأعراف: 68].
وعن صالح -عليه السلام-: (وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) [الأعراف: 79].
وعن شعيب -عليه السلام-: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) [الأعراف: 93].
وأما ما كان من شأن نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فكثير جدا، بل بلغ من كمال نصحه وشفقته صلى الله عليه وسلم: أن حياته كلها نصح للناس، في حضره وسفره، وفي صحته ومرضه، مع جميع طبقات الناس، صغيرهم وكبيرهم، مسلمهم وكافرهم؛ تارة بالشدة، وتارة بالين، حسبما يقتيضه المقام، وهذا من كمال حكمته، وعظيم نصيحته صلى الله عليه وسلم، وشواهد ذلك كثيرة مشهورة في دواوين السنة؛ فمن ذلك على سبيل التمثيل: نصحه صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب عند وفاته: "يا عم، قل "لا إله إلا الله" كلمة أحاج لك بها عند الله".
وقوله صلى الله عليه وسلم للغلام اليهودي: "يا غلام أتشهد أني رسول الله".
وكذا نصحه صلى الله عليه لهرقل عظيم الروم: "أسلم تسلم".
وكذا نصحه صلى الله عليه وسلم لأبي ذر، لما عير غلامه: "إنك امرؤ فيك جاهلية".
ونصحه أيضا بتعاهد جيرانه، فقال: "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة".
وكذا نصحه لمعاذ، لما أطال على قومه الصلاة: "أفتان يا معاذ؟ إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والمريض والكبير وذا الحاجة، وذا صلى لوحده فليطل ما شاء".
ونصح معاذاً أيضاً بالمحافظة على الذكر بعد الصلاة، فقال له: "يا معاذ؛ إني أحبك فلا تدع أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك".
ونصح أصحابه عندما أغلظوا القول للذي بال في المسجد، فقال لهم: "دعوه، لا تزرموه، وأريقوا على بوله سجلا أو ذنوبا من ماء".
ولما تكلم رجل في الصلاة جاهلا بحكم الكلام فيها نصحه، قائلا: "إن هذه الصلاة لا ينبغي فيها شيء من كلام الناس، إنما هي تسبيح وتحميد وتهليل".
والمقام يقصر عن غير ذلك، فضلا عن الاستقصاء لذلك كله.
معاشر المسلمين: وعلى عظيم أجر النصيحة، وسهولة أمرها، لمن سهلها الله عليه، إلا أن الشيطان ثقلها على كثير من الناس، فحرموا أنفسهم أجرا، وحرموا غيرهم خيرا، مع أن وسائل النصح متنوعة ومتيسرة؛ فتارة تكون النصيحة بالمكاتبة، وتارة تكون بالمشافهة، وتارة بالفعل؛ كزيارة للمنصوح، أو عيادة له، إن كان مريضا، لكسب قلبه؛ فكم من زيارة لمنصوح، وكم من عيادة لمريض أخذت من وقت الناصح جزءا يسيرا، أثرت في نفس المنصوح كثيرا.
معاشر المسلمين: وإن من أبواب النصيحة التي فرط فيها بعض الناس: ما يتعلق بأمر بعض الجيران، ممن لا يشهدون الصلاة مع الجماعة، أو تهاونوا بأدائها مع الجماعة أحيانا كثيرة؛ فمثل هؤلاء قد تكون هدايتهم في أداء صلاتهم مع الجماعة بعد توفيق الله -تعالى- بنصيحة قولية أو فعلية، وقد حدث كثيرا رجوع أناس عن طريق الغواية إلى طرق الهداية، وسواء قبل المنصوح نصيحتك أو ردها، فأنت مأجور في الحالين، إن قبل ذلك فلك وله، وإن ردها فلك وعليه.
معاشر المسلمين: وإن مما يؤسف له في شأن بعض الجيران، بل هو من التناقض بمكان: أن ترى بعض الجيران إذا أقام وليمة، ودعا جيرانه إليها تفقدهم واحدا واحدا، وسأل عمن تغيب منهم، بل قد يثرب على من تغيب، بل قد يجد في نفسه عليه، وليس هذا بعجيب، إنما العجيب أن ترى صاحب تلك الوليمة، لا يهتم بمن يتهاون بالصلاة من جيرانه، ولم يكلف نفسه بنصحهم، بل والأعجب من ذلك كله أن يكون ذلك الذي تغيب عن دعوته ممن لا يشهد الصلاة مع الجماعة، أو يتهاون بالجماعة، ومع ذلك يلومه عندما تغيب عن دعوته، ولا يلومه عندما تغيب عن أداء فريضته مع الجماعة.
معاشر المصلين: إن حق الجوار عظيم يشهد لذلك، ويقرره ما تكاثر من النصوص في الوحيين: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) [النساء: 36].
في آية الحقوق.
وكذا ما ثبت في السنة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره".
ألا وإن النصيحة للجار؛ من إكرامه، ألا وإن النصيحة للجار؛ من إبعاد الأذى عنه، ألا وإن النصيحة للجار؛ من أعظم القيام بحقوقه.
فيا أيها المصلون: إذا كان من جيرانكم من قصر في أمر من أمور دينه ومسئوليته؛ كعدم شهود جماعة، أو تهاون بها، أو عقوق لوالديه، أو أحدهما، أو إهمال لبيته وأولاده، أو لوث بيته بقنوات ماجنة، وغير ذلك، مما يصلكم علمه، فتعاهدوا جيرانكم بالنصح، فلهم حق عليكم، فكونوا عونا لهم على الشيطان، ولا تكونوا عونا للشيطان عليهم.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
أقول قولي هذا...
الحمد لله ...
معاشر المسلمين: وإذا كانت النصيحة تصلح ما فسد، وتبني ما هدم، فإن مما ينبغي أن يعلم ويحذر: أن بعض الناصحين قد يهدم بنصيحته ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، بل قد يزداد المنصوح إصرارا على معصيته، بل قد يتلوث بغيرها عنادا واستكبارا، بسبب سوء سلوك نصح الناصح في نصحه له.
وإذا كان ذلك كذلك، فليحذر الناصح من أن يسلك مسلكا دون علم بالمنهج النبوي، فإن جهل ذلك، فليسأل أهل العلم.
شاهد المقال: أن بعض الناس قد يسلك في نصحه سبيل التشفي من المنصوح، وبخاصة إذا كان في نفسه شيء عليه، أو يشتد نكيره عليه في أمر لا يستحق الشدة، أو يكون نصحه على مرأى ومسمع من الناس، أو يجعل عرض المنصوح مضغة في لسانه يلفظها في كل مجلس، فإذا بلغ الخبر ذلك المنصوح زاد في بقائه على معصيته، وزاد كرها لذلك الناصح بجهل خصوصا، ولغيره عموما.
معاشر المصلين: أنتم قدوة لمن قصر من جيرانكم ومعارفكم، فالحذر من التلوث بالمعاصي، فإذا رآكم أو سمع عنكم من يراكم قدوة له استمرأ المعصية.
ألا -أيها الناصحون لجيرانكم ومعارفكم-: أخلصوا النية لله -تعالى-، وتذكروا واسألوا عن منهج النبوة في النصيحة، واعلموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يغاير في أسلوبه بين الصغير والكبير، وبين الجاهل والعالم، وبين الرئيس والمرؤوس، ويجمع ذلك كله طلب الخير للجميع، ودرء الشر عن الجميع، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وهذا مصداق قول الله -تعالى-: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128].
جعلنا الله ممن إذا نصح انتصح، وإذا نصح أخلص واتبع.
اللهم أصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا.
اللهم احفظ مجتمعنا وأمننا وأماننا.
اللهم اهد من ضل من شبابنا، واكفهم شر فتن الشبهات والشهوات، وشر دعاة الضلال والهوى.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي