يوسف في القصر، قد أغلقت امرأة العزيز دونه الأبواب، وهي تناديه وتدعوه، لفعل الفاحشة، وأقبلت إليه في عجل، فابتعد يوسف، فتابعته بسرعة، ففر، فصارت تلاحقه في زوايا الحجرة الفسيحة، فقصد يوسف الباب مسرعا، لعله يتمكن من فتحه قبل أن تصل إليه، هو يريد أن يفتح الباب، وهي تريد أن...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
بلغنا في سردنا لقصة نبي الله يوسف -عليه السلام- إلى رؤيته برهان ربه الذي منعه من الوقوع في الفاحشة، إذ أغلقت امرأة العزيز دونه أبواب القصر كلها: (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف:23- 24].
(مَعَاذَ اللّهِ) مراقبة لله، واعتصاما به.
(إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) زوجك سيدي الذي أكرمني، وأحسن رعايتي، ووثق بي، وأمنني على أهله وبيته، والله لا أخونه أبداً.
(مَعَاذَ اللّهِ) أمانة وشهامة.
(إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) علم شريف وإيمان بخسران من تعدى على حدود الله: (إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).
مواعظ يقدمها يوسف لامرأة العزيز، وهي مقبلة عليه، لعلها تنتهي عن عزمها، ولكن لا فائدة، إغواء الشيطان أعمى بصيرتها، وشهوتها غطت على عقلها، لكن يوسف ثبت، والذي ثبته هو الله ربه، فالله -تعالى- يثبت عباده الصالحين في أحلك المواقف، إذا هم صدقوا في طلب تثبيته: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)[يوسف:24].
ولا يمكن لرجل اختاره الله –تعالى- نبيا أن ليقع فيما يقع فيه العصاة، فالله أعلم حيث يجعل رسالته.
لا كما يزعم اليهود فيما حرفوه من قصص العهد القديم، حيث شنعوا في افتراءاتهم على أنبياء الله، وألصقوا بهم أرذل الأخلاق -والعياذ بالله-.
نعود إلى المشهد.
يوسف في القصر، قد أغلقت امرأة العزيز دونه الأبواب، وهي تناديه وتدعوه، لفعل الفاحشة، وأقبلت إليه في عجل، فابتعد يوسف، فتابعته بسرعة، ففر، فصارت تلاحقه في زوايا الحجرة الفسيحة، فقصد يوسف الباب مسرعا، لعله يتمكن من فتحه قبل أن تصل إليه، هو يريد أن يفتح الباب، وهي تريد أن تغلق الباب، فركضت خلفه، قال تعالى: (وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ).
استبقا كلاهما، استطاعت أن تصل إليه من خلفه، فجذبته من خلفه بأعلى القميص من طوقه، فانشق إلى أسفل.
(وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ) القد، هو القطع والشق، وأكثر استعماله فيما كان طولا، وكانت ثم المفاجأة، زوجها قائم عند الباب، يراهما بهذا المنظر: (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ).
وبسرعة وسوء مكر، بادرت إلى الشكوى كذبا، واصطناع الخوف من هجوم يوسف عليها، ومراودته هو إياها، لتبرأ ساحتها، وتظهر حفظها لعرض زوجها: (قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[يوسف:25].
هكذا حددت عقوبة أقل من القتل، يسجن، أو عذاب أليم، فهي امرأة ما زالت تعشق فتاها، فتشير بعقاب مأمون، يمكن أن يناسب شناعة الفعل، وفي الوقت ذاته يستبقى الفتى، دون أن يغيب عن حياتها.
فرد يوسف تهمها وافترائها: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي) ولا شك أن العزيز يعرف أخلاق يوسف، وصدقه وأمانته، ولكنه أمام ادعاءان، وكلاهما مضاد للآخر، فمن الصادق منهما؟!
ويسوق الله الفرج ليوسف مرة أخرى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ)[يوسف:26 - 27].
من كان هذا الشاهد؟ لا يهم، المهم أنه فرد من أهلها، صاحب رأي رشيد، وقول سديد، ومع أنه من أهلها إلا أن كلامه ليس فيه محاباة لها، وفي هذا دليل صفاء نيته، وعدل رأيه.
وهكذا، وفق يوسف بهذه الشخصية -بفضل الله تعالى-، لقد لفت الشاهد انتباه العزيز إلى قرائن التهمة، وعلامات الواقعة، والعقل السليم يميز بين الصحيح والخطأ، وبين الصدق والافتراء، من خلال قوة القرائن، ووضوح العلامات والدلائل.
قميص يوسف، إن كان قد مزق من الأمام، دل ذلك على أنه كان يهجم عليها، ويريدها، وهي تدفعه، وإن كان قميصه قد مزق من الخلف، فكيف يكون هو الذي يراودها، كما يزعم، وقميصه قد مزق من الخلف! وهو الحاصل.
فدل ذلك على أنه كان يريد الهروب، وهي التي كانت تطارده، قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)[يوسف:28].
الكيد، مكر وحيلة، وهو يطلق على التدبير الخفي بفعل شيء في صورة غير المقصودة، للتوصل إلى المقصود.
وسواء أقر القرآن إثبات الكيد العظيم للنساء بإيراده مقالة العزيز، أم أنه أوردها كحكاية قول فحسب، فإن لغالب النساء طرق معروفة للحصول على ما يردنه، بحكم طبيعتهن الأنثوية ، ولذلك صح في البخاري من حديث أبي سعيد قوله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن".
والكيد، أمر مشترك يفعله النساء والرجال على حد سواء، قال تعالى: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا)[الطارق:15].
إلا إن للنساء ميزة الأنوثة التي تمسح على الكيد القبول.
(إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)[يوسف:28 - 29].
هكذا بكل برود: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ).
لم يشتت غضبا، لم يطلق، لم يعاقبها على فعلتها أبداً، بل لم يحل بينها وبين فتاها، فيضع لذلك التدابير اللازمة، ترك الأمور على ما هي عليه، اكتفى بتلك الكلمات الباردة فقط، ولذلك لم تستغفر لذنبها حق الاستغفار كما أمرها، ولم تكف، بل استمرت في مراودتها ليوسف، وهنا تبدوا لنا صورة من صور بعض الطبقات المخملية هي هكذا في الجاهلية قبل آلاف السنين، وكأنها هي ذاتها اليوم شاخصة إلا من رحم الله.
رخاوة في مواجهة الفضائح الأخلاقية، وجل اهتمام تلك الطبقة هو كتمان فضائحها عن المجتمع، هذا هو المهم، قال صاحب المنار: استدل الكرخي بقول هذا الوزير الكبير لزوجه على أنه كان قليل الغيرة، وهو رأي ابن تميمة حيث قال: "إن زوج المرأة كان قليل الغيرة أو عديمها، وكان يحب امرأته ويطيعها".
وفي قوله: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ) قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الأصنام إلا أنهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب، ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له في ذلك، ولهذا قال لها بعلها وعذرها من بعض الوجوه؛ لأنها رأت ما لا صبر لها على مثله".
قال ليوسف: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) أي لا تذكره لأحد واكتمه، ولا تتحدث به أبداً: (أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) هذا هو المهم المحافظة على الظواهر.
تمضي الأمور هكذا، ولكن للقصور جدران، وفي القصور خدم وحشم، وما يجري في القصور لا يمكن أن يظل مستورا، وبخاصة في الوسط المترف، ذلك المجتمع الذي ليس لنسائه هم إلا الحديث عما يجري في محيطهن، وإلا تداول هذه الفضائح، ولوكها على الألسن في المجالس والسهرات والزيارات.
وهكذا انتشر الخبر، وأصبح مادة الحديث عن النسوة المترفات، قال تعالى: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)[يوسف:30].
سبحان الله العظيم! تذكرت في هذه اللحظة قوله تعالى في بداية السورة: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) الله -تعالى- يقص على نبيه ما جرى من أحداث مضت عليها مئات السنين، فيحضرها جل وعلا بالوصف أمامه، كأنها رأي العين، وبأسلوب عجيب معجز، يقص عليه الأحداث مشهدا وراء مشهد، حتى ما يجري في خفاء الخفاء.
فالله -سبحانه- كان وما يزال سميعا بصيرا، عليما خبيرا -جل وعلا-، لا يحده زمان ولا مكان؛ لأنه هو الذي خلق الزمان والمكان -جل في علا-: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)[سبأ:3].
يسمع الأقوال، ويبصر الأفعال، لا يخفى عنه مثقال ذرة في واسع الأكوان، ولا دبيب نملة في غابر الأزمان، إلا يعلمها ويسمعها ويبصرها، بل ويعلم ما تكنه الصدور، وما تحدو إليه العزائم: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق: 12].
النسوة اللاتي يتناجين في تلك المدينة، بحديث فيما بينهن، تحت سقف واحد، وبين جدران صماء، قد أغلقن عليهن الباب، وقصرن الكلام على ذلك المجلس الخاص، لكن الله –تعالى- معهن بعلمه يسمع ويبصر من حيث لا يدرون.
ويعلن الله -تعالى- نجوى أولئك النسوة لجميع المؤمنين، حتى لنا نحن على مر العصور: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)[يوسف:30].
لم يسموها باسمها قالوا: (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) بل ذكروها بوصفها زوجة العزيز، لقبيح فعلها، لكونها متزوجة، وليست عزباء، فصدور الفاحشة من ذات الزوج أقبح من صدورها مما لا زوج لها.
(قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا) دخل حبه في شغافها في باطن قلبها.
(إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ).
ولعل كلامهن هذا لن تصدقه أفعالهن، هذا فيما سيكون منهن بعد مكر امرأة العزيز بهن.
ويا الله! كم من مظهر للإنكار لا لله، وإنما بسبب الحسد، أو الرياء، أو إظهار الغيرة المصطنعة، فقال تعالى: (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) [يوسف: 31].
لما سمعت امرأة العزيز بكلام النسوة، ولومهن إياها على حبها، وعشقها ليوسف، ومراودتها عن نفسه، أقامت لهن مؤدبة في قصرها، ودبرت أمر لتكشف لهن عن عذرها في ذلك، وندرك من هذا أنها كان تعرفهن، وأنهن كن من نساء الطبقات الراقية، واللاواتي يدعين إلى المآدب في القصور، وهن اللواتي يؤخذن بهذه الوسائل الناعمة المظهر: (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) أي مجلسا فيه مفارش، ومخاد، وطعام، ويبدو أن من عادتهم كن يأكلن، وهن متكئات على الوسائد.
فأعدت لهن هذا المتكأ، وأتت كل واحدة منهن سكينا، تستعمله في قص الفاكهة، وأكل الطعام، وبينهن منشغلات بتقطيع اللحم، أو تقشير الفاكهة، قالت ليوسف: (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ).
وكانت المفاجأة: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ)[يوسف:31].
بهتن لطلعته، ودهشن وجرحنا أيديهن بالسكاكين لا بقصد، بل بفعل المفاجأة.
(وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ) وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة بروعة صنع الله -تعالى- وخلقه: (مَا هَذَا بَشَرًا) أي لم نر في حسن صورته من البشر أحدا، إن هذا الجمال غير معهود في البشر.
(مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)[يوسف: 31- 32].
هذا هو فتاي الذي تكلمتن عني وعنه، كما بهركن بهرني، وكما أدهشكن أدهشني، أتلومونني فيه الآن؟!
(وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ) تحرز من إغرائي، وامتنع عن دعوتي، بقوة وصلف، ثم تظهر سيطرتها عليه أمامهن في تبجح المرأة من ذلك الوسط الآمر الناهي، بل لا ترى بأسا من الجهر بنزواتها الأنثوية، جاهرة مكشوفة أمام النساء: (وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ)[يوسف:32].
سأهدده إما أن تستجيب لأمري، وإما أمنع عنك كل نعيم أنت فيه، وكل كرامة تحفك في أرجاء القصر، فأدخلنك السجن، لتصبح ذليلا، صاغرا، فاختر أيهما شئت!.
إخواني الكرام : أي شاب يصبر على هذا الامتحان؟ وأي قلب يثبت أمام هذا البلاء؟!
إنه قلب المؤمن إذا اتصل بالله بصدق، حتى صار حب الله في قلبه ألذ وأسمى من كل لذة، وأصبح رضوان الله -تعالى- فوق كل عذاب، بل يصبح العذاب في رضوان الله أحب إلى نفسه من التلذذ بالمعصية.
ولكن بدون تثبيت الله لا يقوم ثبات، وبدون عون الله لا يصمد إنسان، فالإغراء عاصف بغرائز الشاب، فإنه لم يعد يقاوم سعي امرأة العزيز وحدها فحسب، بل سعي جميع صاحبتها كل واحدة منهن بطريقتها، وأسلوبها في إغرائه، يتولين على ذلك الشاب واحدة تلو الأخرى، كيف يصبر؟ كيف يملك نفسه؟ كيف يمنعها من غرائزها الجارفة؟
وهنا، وفي مثل تلك المحن العسيرة يفر يوسف الصديق إلى حبه الأول والأخير، يفر إلى ربه ومولاه، مناجيا إياه بكل حرقة واضطرار، مستنجدا به جل وعلا، مبديا عجزه وضعفه، وأنه لا حول له ولا قوة إلا به وحده -سبحانه وتعالى-: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ)[يوسف:33].
وإذا رأى الله -تعالى- من عبده صدق اللجوء، يأتي الجواب سريعا، وتفتح له الرحمات: (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[يوسف:34].
ونكمل في مقام آخر -إن شاء الله-.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (1)
قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (2)
قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (3)
قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (5)
قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (6)
قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (7)
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي