إنه جندٌ وفيّ، وقريبٌ رضيٌّ من جنودِ إبليس، وبطانتِه الأقربين، فمن كان على جندِ التزيين والتبديل عصيّا؛ لربما كان لداعي التسويف طيّعا. وهل التسويفُ إلا أمانيُّ غرور، وطولُ أملٍ، يلهي ويُنسي، ويُقعِدُ عن العمل، ويصدُّ عن سبيل النجاح؟! إنه شجرةٌ تنبُتُ في...
إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغرِّ الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: اتقوا اللهَ -رحمكم الله- ولا تلهينّكم الحياةُ الدنيا بزخارفِها، ولا تنشغلوا عن معالي الأمور بسفاسفِها.
اتقوا اللهَ وأجملوا في الطلب، والتزموا كريمَ الخلقِ، وساميَ الأدب.
من أجْلِ إحسانِ العملِ خُلِقْتُمْ، وعلى ذلكم يوم الحشر حسابُكم، فالبرُّ ليس بالإيضاع، والفلاحُ ليس بمطلقِ الإسراع، وإنما بكريمِ الإحسان، وإصلاحِ العملِ وإخلاصِه للصمدِ المنان.
شجرةٌ خبيثٌ منبتُها، ما لها في الأرضِ الطيبة من قرار، إبليسُ وأعوانُه غُرَّاسُها، وجنودُه حُرَّاسُها، ومخدوعوه أحْلاسُها، ثُمَّ هي لا تُثمِرُ إلا الخيبةَ والندامة.
إنها بلا امتراءٍ شجرةُ التسويف، والتأخيرِ، وطولِ الأمل، التي تُرَى في كل وجه، يرعاها فئام، ويحيط بأوهامها أقوام.
التسويف، الذي كُتِبَ على ابن آدمَ حظُّه منه، فمستقلٌّ ومستكثر، وموبقٌ نفسَه فيه أو معتقُها.
التسويف، الذي هو المسؤولُ الأولُ عن الإخفاقات، والقصور عن المعالي والكمالات، من اتخذه وليّا دامت حسراتُه، وعظمت تبعاته، إنه السجنُ المؤصدُ دون الرقيّ، وروضُ أمانيِّ المغرورِ الشقيّ.
إنه جندٌ وفيّ، وقريبٌ رضيٌّ من جنودِ إبليس، وبطانتِه الأقربين، فمن كان على جندِ التزيين والتبديل عصيّا؛ لربما كان لداعي التسويف طيّعا.
وهل التسويفُ إلا أمانيُّ غرور، وطولُ أملٍ، يلهي ويُنسي، ويُقعِدُ عن العمل، ويصدُّ عن سبيل النجاح؟!
إنه شجرةٌ تنبُتُ في أصل نفوسٍ مهِينة، مرتَعُ عزمِها روضُ أمانيِّها، ومن كان مرتعُ عزمه وهمومه روضَ الأمانيّ لم يزلْ مهزولًا ثمِلا، قد اكتفى من الإنجاز بالتمني، وظلَّ في أحلام يقظةٍ ليس لِمَدَدِها انقطاع، لا يبرحُ عاكفا في كهفِ التسويف حتى تنْصَبَ عليه أعلامُ الخَسَار.
ولقد ذكر ابنُ قتيبة -رحمه الله- في عيونِ أخباره: أن رجلًا كان معه عسلٌ وسمْنٌ في جرّة، ففكّر يوما، فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري خمسَ أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، ويبلغ النتاج في سنين مائتَين، وأبتاع بكل أربعٍ بقرةً، وأصيبُ بذرًا فأزرع، وينمو المال في يدي، فأتخذ المساكين والعبيد والإماء والأهل، ويولد لي ابنٌ فأسميه كذا، وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربت بعصايَ رأسه.
وكانت في يده عصا، فرفعها حاكيًا للضرب، فأصابت الجرة فانكسرت، وانصبَّ العسل والسمن: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى)[النجم: 24-25].
إن المخدوعين بعريضِ الأمانيّ، ومطل التسويف، إنما هم كحال من يرى في منامه ظفَرًا، ونيلَ مطلوب، وهو به فرِحٌ مغتبط، فبينما هو كذلك إذِ استيقظ؛ فإذا يدُه والحصير!.
أيها المؤمنون: أعظمُ التسويف: نسيانُ الله -تعالى– الداعُّ إلى نسيان النفس وما يحْييها، وما يصلحها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 18-19].
أعيذكم بالله من حال المسارعين في المعاصي، المسوّفين المبطِّئين بالتوبة، يقولُ أحدهم: "إذا صمتُ أو حججْتُ تبت، وإذا جاء موسمُ كذا وكذا أنبت".
ثم هو لا يتوب ولا يذّكّر، يضعُ كلَّ حينٍ قاعدةَ الإنابة لنفسه؛ ولكن على شفا جُرُفٍ هار.
وأعيذُكم بالله من قلوبٍ خائفة راجية؛ ولكن ليس من الله ولا إياه، قلوبٍ تظن بالله غير الحق ظنَّ الجاهليّة، ثمّ هي بالإصلاح تسوِّف، وتتمنَّى على اللهِ الأمانيّ.
أعيذكم بالله ممن استوحشوا من المساجد، وخرّبوا سبلها، ثم هم في لجج التسويف غارقون: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ)[المطففين: 4].
معاذَ الله ممن قومٍ بخلوا بمال اللهِ الذي آتاهم، وجعلوا لمنع ما فرَضَ الله عليهم ألفَ تعِلَّة، واتخذوا لبخس الفقراءِ حقَّهم ألفَ حيلة، وإذا قيل لهم: اتقوا الله؛ قال أوسطُهم: سيغفَرُ لنا، وسيصلِحُ اللهُ حالَنا.
وممّن أخروا قضاءَ الواجبِ عليهم من الصيام بلا عذرٍ شرعيّ سنينَ عَدَدا، ومن حال المؤخرين لفريضة الحجّ لأعوام كثيرة، حتى لربما ناهزَ بعضهم الثلاثين والأربعين دونما تأديتها، متذرعين بحجج داحضة، يعلمون ذلك حقا في قرارة أنفسهم.
ومن شرِّ التسويف: التسويفُ في ردِّ المظالم والحقوق، وسيّدُ المسارعين إلى الخيرات صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ..." الحديث [رواه البخاري].
وكم همُ القاطعون لما أمَرَ اللهُ به أن يوصَل، المقيمون على مستنقعات الأخلاقِ المرذولة، يجدون من حسرة اللوم، وتأنيب الضمير أعظمَ من لذةٍ كانوا يبتغونها، أو عزةٍ مزعومة يطلبونها، وما منعهم من تغيير الحال؛ إلا خُدَعُ الشياطينِ بالتسويفِ في الغدوِّ والآصال.
وقولوا مثلَ ذلكم بل أعظمَ منه ولا حرج في والدٍ ووالدةٍ، ومرَبٍّ ومربية، يرون مَنْ تحتَ أيديهم قد أوشكَ الشيطانُ صيدَهم بحباله، يطَّلِعون منهم على الهفوات أو خطواتها، وعلى ما يَريبُهم؛ فلا يبادرون بإشارة ولا عبارة، ولا يقوِّمون، ولا ينصَحون، ولا يستنصِحون، بالتواني راضون، وبالسراب مكتفون.
وما شأن الأمة بأحسنَ حالا من شأن الأفراد، فلقد دبَّ فيها دبيبُ التخاذل، وسرى في جسدها داءُ التواكل، فأثمر تسويفًا مخدِّرا للطاقات والعقولِ والهمم؛ لتكونَ عالةً على الأجنبيِّ عنها في كافة مجالات الحياة.
ألا ما أبغضَ التسويفَ عند أولي الأبصار! وما أبخسَ صفقةَ الذين لا يتزحزحون عنه! وما أخسرَ تجارةَ المنقادين لخُدَعِه، وما أغبن المصفَّدين بأغلاله! ومفاتيحُ تلكم القيود في قلوبهم وفي أيمانهم.
أفٍّ لهم؛ هدموا براحِ أكفِّهم بيتًا سَنِيًّا عليًّا دونما عَمَدِ
ألا إنهم ليسوا على شيء، ولا إلى شيء، يجلّي حالَهم الإمامُ أبو حامدٍ الغزاليُّ -رحمه الله- بقوله: "وعن هذا هلك المسوِّفون؛ لأنهم يظنون الفرقَ بين المتماثلين، ولا يظنون أن الأيام متشابهةٌ في أن تركَ الشهوات فيها أبدا شاق، وما مثالُ المسوِّف إلا مثالُ من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة، فقال: أأخرها سنة، ثم أعود إليها، وهو يعلمُ أن الشجرةَ كلما بقيت ازداد رسوخها، وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه؛ فلا حماقةَ في الدنيا أعظمُ من حماقته"[إحياء علوم الدين (4/58)].
اللهم إنا نعوذ بك أن نكون غافلين، أو أن نكتبَ في ديوان المغرورين، ونعوذ بك من أملٍ ينسي ويُلهي، يا أرحمَ الراحمين.
الحمد لله العزيزِ الفتّاح، فالقِ الحبِّ والنوى والإصباح، وصلى الله وسلّم على خيرِ رسولٍ وأكرمِ هادٍ إلى طريقِ الفلاح، نبيِّنا محمدِ بنِ عبدالله، وعلى آله وصحبه الذين نصروه وآثروه على النفس والولد والماء القراح، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الخسار والنجاح.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: للتسويف مطلٌ يُحِلُّ التحذيرَ منه، ويوجبُ النأيَ عنه، كيف وقد قطعَ أعمارَ أغمار؟! ونادى على أناسٍ -ولاتَ حينَ استعتابٍ- بالخسار؟!
تبارك الله العزيزُ المقتدرْ يا صاحبَ التسويفِ ماذا تنتظِرْ؟!
يا قليلَ المُقامِ في هذه الدنيا إلامَ يغرُّك التسويفُ؟!
تأمّل كيف يضرب لنا المثل من أوتيَ جوامعَ الكلم صلى الله عليه وسلم؛ تحذيرا من التسويف، وإيضاحًا لعاقبته؛ إذْ يقول صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمَهُ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مُهْلَتِهِمْ، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ"[متفق عليه].
ألا إنَّ من زرعَ "سوفَ" لم يجنِ إلا حنظلَ "ليت".
وحينها يَصْدُقُ عليه قولُ الأول:
ولستُ بمدركٍ ما فات مني بـ "سوفَ" ولا بـ"ليتَ" ولا لوَ انِّي
يا معشرَ المسوِّفين: أظنَنْتم أنكم في الدنيا خالدون؟! وفي روض أمانيِّكم باقون؟! ألم تستيقنوا أن ما مضى فات، والمؤمَّلَ غيب، وأن ليس لكم إلا الساعةُ التي أنتم فيها؛ فبادروها.
وكنْ صارمًا كالسيف فالمقت في "عسى" *** وإياك "مهلًا" فهي أخطرُ عِلَّةِ
ولْيكن شعارُك ودثارُك:
ولا أُأَخِّرُ شغلَ اليومِ عن كسلٍ *** إلى غدٍ إنَّ يومَ العاجزين غدُ
هذا، وصلوا وسلموا على من أمركم ربكم في محكم كتابه بالصلاة والسلامِ عليه.
اللهمَّ صلِّ وسلم على النبيّ الأميِّ الهاشميّ القرشي محمدِ بنِ عبدِالله، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، وأوردنا حوضَه، وأنِلْنا شفاعته، يا رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي