الولاء والبراء بين أهل التفريط وأهل الجفاء

عبد العزيز بن سعود الصويتي

عناصر الخطبة

  1. أهمية الولاء والبراء
  2. تشويه الصحافة للولاء والبراء
  3. الولاء والبراء نقل وعقل
  4. طائفتان ضلتا في الولاء والبراء

أما بعد: فإن من صريح الإيمان وعراه، ومعاقد التوحيد ومغزاه: الولاء لله والبراء ممن عاداه، فلا يحب المسلم إلا من أحبه الله، ولا يبغض إلا من أبغضه الله، ولا يوالي إلا من والاه الله، ولا يعادي إلا من عاداه الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين﴾ [آل عمران: 118]، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر: "أي عرى الإيمان أوثق؟!"، قال: الله ورسوله أعلم، قال: "المولاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله". رواه الطبراني وحسنه الألباني. 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحب ما أحبه الله، ويبغض ما أبغضه الله".

وقد ضلت طائفة تسنمت الصحافة، وتكلمت بالسخافة، حاولت تشويه صورة الولاء والبراء، والعبث بها، وإطفاء نورها، وترويج ما يضادها بعبارات باهتة وحجج متهافتة. يقولون: لماذا نكره الآخر؟! ولماذا ننشر ثقافة الكراهية وقد تجاوزنا مرحلة العداوة والبغضاء ونحوها من العبارات؟! وتارة يحرفون معنى الولاء والبراء بأن المراد به الولاء للمسالم والبراء من المحارب أيًّا كان دينه، ويبرهن على أن الكافر لا يُبغَض بقوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، وربما ظن بعض الطيبين أن بغض الكافرين على خلاف المعقول، وهذا غير صحيح، بل من المقطوع به أن الشرع لا يخالف العقل، وإنما يوافقه موافقة تامة؛ إذ ديننا دين النقل والعقل معًا وإن خفي ذلك على بعض المنتسبين إليه.

معشر المسلمين: إن محبة الحق وأهل الحق -وهم المؤمنون- وبغض الباطل وأهل الباطل -وهم الكافرون- من الأشياء البديهية في الإسلام التي يتفق عليها العقلاء، ولبيان هذا الأمر وتوضيحه أحب أن أسأل كل عاقل هذه التساؤلات وهي: هل تكره الجاحد الذي يقابل النعمة والفضل بالجحود ويقابل الإحسان بالنكران؟! وهل تكره الظالم الذي يضع الشكر والعرفان في غير موضعه ويصرفه إلى غير مسديه؟! وفي المقابل: هل تحب الشاكر الذي يعزو الفضل لأهله والنعمة لمسديها؟!

والجواب عن تلك التساؤلات لا يحتاج إلى جهد؛ لأن الجواب معروف بداهة، وهو أن الناس جميعًا سيقولون: إننا نكره الجاحد والظالم. وإذا تقرر هذا فاعلموا أن هذه حقيقة بغض الكافر؛ إذ إن لفظ الكفر في لغة العرب بمعنى الجحود، وذلك أن الكافر جحد فضل الله عليه ونعمه المتتالية، فلم يصرف العبادة له ولم يشكره مع أنه -وسائر الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم- يقرون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق المدبر، ومع هذا لا يعبدونه ولا يشكرونه، فأي جحود بعد هذا الجحود؟! وأي لؤم بعد هذا اللؤم؟!

ولم يكتفوا بذلك بل صرفوا العبادة إلى غيره، وعبدوا سواه، وشكروا المخلوق وتركوا الخالق -جل في علاه-، وهذا أعظم الظلم وأقبحه؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]، وقال: ﴿وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 254]، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [آل عمران: 118]؛ ولهذا أجمع المسلمون على بغض الكافرين وكرههم لما يتصفون به من الجحود والظلم والنكران تجاه الخالق -جل وعلا- الذي هو أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾ [البقرة: 165]، وقال: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54]، وهؤلاء قابلوا جميله وفضله ونواله بصفتي الكفر والظلم: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: 34].

معشر المسلمين: إن بغض الباطل وأهله من الأمور التي اتفق عليها العقلاء، والكفر بالله تعالى من أعظم الباطل عندنا، والكافر والظالم والفاجر أوصاف مكروهة يلحق العار من اتصف بها، ولا يعني هذا أن الكافر المعين والظالم المعين والفاجر المعين لا يحب من جهة أخرى؛ إذ قد يحب الفاجر المعين إذا كان مسلمًا لما معه من الإيمان، ويبغض لما معه من الفجور، كما أن الكافر المعين الأصلُ بغضُه لكن قد يحب من جهة البنوة أو الأبوة أو جهة العلاقة الزوجية ونحو ذلك؛ إذ لا يمتنع أن تحبهم لقرابتهم وتبغضهم لكفرهم، قال تعالى عن نبيه تجاه عمه: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: 56]، أي: أحببته، أو أحببت هدايته، وتخصيص عمه بالذكر يدل على أنه يحبه من جهة قرابته، لكن عند التعارض يجب أن يقدَّم المؤمن البعيد على الكافر القريب؛ لأن صلة الحق بالحق أقرب من صلة النسب؛ ولهذا قال -سبحانه وتعالى- لنوح حينما نادى ابنه: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ) [هود: 46]، ومدح موقف إبراهيم من أبيه بقوله: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوب: 114].

وهكذا يتبرأ الحق من الباطل وهما ضدان، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟! فإن موادة الحق تستلزم بغض الباطل والعكس صحيح: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ [المجادلة: 22].

وفي المقابل: لما كان المسلمون هم أهل العدل والحق والإيمان وجبت محبتهم ومودتهم وموالاتهم كما قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71]. وأما عصاة المسلمين فالأصل مودتهم ومحبتهم لما معهم من أصل الإيمان، ولكن يبغضون بقدر معصيتهم وفجورهم جزاءً وفاقًا.

والمقصود أن المؤمن ينبغي أن تكون محبته لله ولرسوله وللمؤمنين، وبغضه للطاغوت والشيطان والكافرين، سواء أكانوا ساسة أم اقتصاديين أم لاعبين أم ممثلين، ولا ينبغي التساهل في هذا؛ لأن الإعجاب قد يجر إلى حبهم ومودتهم، كما لا يجوز الكذب عليهم أو ظلمهم كما لا يخفى على كل مسلم.

عائذًا بالله من الشيطان الرجيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ(145)﴾ [النساء: 144، 145].

بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فقد كثر الخلط في هذه الأزمان لكثرة الجهل والهوى، والتفريط في طلب العلم والهدى، حيث أخطأت في مفهوم الولاء والبراء طائفتان:

فطائفة غلت وتشددت وظنت أنه يلزم من بغض الكافرين إساءة المعاملة معهم وظلمهم وغير ذلك.

وقابلتها طائفة أخرى تساهلت وفرطت، وظنت أن الأمر بحسن الخلق مع الكافرين يستلزم محبتهم ومودتهم.

ولا ريب أنه يجب بغضهم كبغضنا للباطل الذي يحملونه، كما أننا مأمورون بحسن الخلق مع الكفار غير المحاربين وبرهم والإقساط إليهم، وكل هذا لا يتنافى مع بغضنا لهم كما قال تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، وقال سبحانه: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34]، ووجه ذلك أن المسلم يعامل الناس بأخلاقه التي أمره الله أن يتحلى بها لا بأخلاقهم، وقريب من هذا ما رواه الشيخان عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ فَقَالَ: "ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ"، فَلَمَّا دَخَلَ أَلاَنَ لَهُ الْكَلاَمَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: قُلْتَ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي الْقَوْلِ! فَقَالَ: "أَيْ عَائِشَةُ: إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ".

غير أنه بالموازنة بين الطائفتين نجد أن خطأ الطائفة المتساهلة المفرّطة أعظم من خطأ الطائفة المتشددة في هذا؛ وذلك أن خطأها وقع في التفريط في الحق وإظهار الباطل والخلط بينهما، وخطأ الطائفة الثانية وقع في الشدة على الباطل ومجاوزة المشروع. والحاصل أن كلا طرفي قصد الأمور ذميم.

معشر المسلمين: إنه ينبغي للمسلم أن يذل لإخوانه المسلمين، وهذا من حسن الخلق وطيب المعشر؛ لأن منزلتهما واحدة ومنصبهما واحد وعرشهما الذي يتربعان عليه -وهو الإسلام- واحد، وإن كان قد يجري بينهما تفاوت من جهة أخرى يطول بسطها، لكنه لا ينبغي لمن تشرف بالإسلام وتربّع على عرشه أن يذل نفسه لكافر مهما بلغ؛ لأنه دون المسلم في المنصب والمنزلة، وقد جرت عادة الناس أنهم لا يستسيغون ذل الأعلى والشريف لمن هو دونه بأن يجلسه في مكانه أو يبتعد عنه، بينما يستسيغون منه أن يذل لمن هو مثله أو أرفع منه، وهكذا الإسلام مع الكفر؛ فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، كما قال تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 54]، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تبدؤوهم بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه"، ومعناه عند شراح الحديث: أنك إذا لقيت الكافر في طريق مصادفة فلا تبعد عنه، بل دعه هو الذي يتنحى عنه، وليس معناه أن تدفعه أو تسيء معاملته.

ومن نافلة القول في الولاء للحق والمؤمنين أن نوالي بلد التوحيد، بلد الحرمين، مهبط الوحي، ومأرز الإيمان، فنكون جسدًا واحدًا مع ولاة أمرنا العلماء والأمراء، لا نسمح باستغلال المتربصين، ولا عبث العابثين، ولا إفساد المفسدين.

وأسأل الله أن يديم على هذه البلاد أمنها، ويحفظها من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وشر الكافرين…  


تم تحميل المحتوى من موقع