ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها

منصور محمد الصقعوب
عناصر الخطبة
  1. آية حقيقة بأن تُتلى وتُتأمل .
  2. بكاء الشيخ الشنقيطي عند تفسير آية .
  3. هذا خلق الله في الكمال والإصلاح .
  4. إفساد البشر في الأرض بعد إصلاحها .
  5. من أظهر مظاهر الإفساد في الأرض، وصور من الإفساد فيها .
  6. تحريم حادث القديح وتجريم فاعليه ومؤيديه .
  7. خطورة فكر الغلو .
  8. ضرورة محاربة فكر الغلو. .

اقتباس

بدأ الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- درسه في المسجد النبوي بعد صلاة المغرب في التفسير بالحمد والثناء، ثم أمر القارئ أن يقرأ الآية المرادَ تفسيرها، فقرأ قول الله تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) [الأعراف: 56]، فجعل الشيخ يبكي بكاء مُرّاً, وجلس يبكي ما بين المغرب والعشاء حتى أذن المؤذن لصلاة العشاء, وهو يردد: "الأرض أصلحها الله، فأفسدها الناس!!" -رحمه الله تعالى- هي آية, ولربما قرأناها كثيراً فما تأملنا فيها, ولعمري إنها لآية حقيقة بأن تتلى وتتأمل, وجديرة بأن ترسم في الصدور وتُتدبر, فدعونا اليوم نقف معها...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه...

أما بعد:

بدأ الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- درسه في المسجد النبوي بعد صلاة المغرب في التفسير بالحمد والثناء، ثم أمر القارئ أن يقرأ الآية المرادَ تفسيرها، فقرأ قول الله تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) [الأعراف: 56]، فجعل الشيخ يبكي بكاء مُرّاً, وجلس يبكي ما بين المغرب والعشاء حتى أذن المؤذن لصلاة العشاء, وهو يردد: "الأرض أصلحها الله، فأفسدها الناس!!" -رحمه الله تعالى-.

هي آية, ولربما قرأناها كثيراً فما تأملنا فيها, ولعمري إنها لآية حقيقة بأن تتلى وتتأمل, وجديرة بأن ترسم في الصدور وتُتدبر, فدعونا اليوم نقف معها.

حينما أوجد الله الأرض أحسن صنعها وأبدع خلقها, وأصلحها بكل أنواع الصلاح, كلُ ناظر للأرض يرى كيف أبدع المولى –سبحانه- خلقه, بلا خلل, لن ترى في السماء عوجًا ولا أمتًا, ولن ترى في الخلق كله اضطراباً ولا كدراً.

وحين سوّى الأرض والسماء, وأبدع في الخلق والبناء, أصلح الأرض بالوحي, فبعث للعباد الرسل, كي يعبِّدوا العباد لرب العباد, وكلما أغوى الشيطان بني الإنسان, كلما أرسل الله للأرض من يصلحها, فكان الرسل يدعون الناس للتوحيد, ولعبادة رب العبيد, ونبذ كل إفساد.

ولا يزال الشيطان يسعى في الناس كي يكدّروا إصلاح أرضهم, ويفسدوا صلاح بقاعهم, ولا يزال أتباع الرسل يسعون جاهدين للإصلاح, فيبقى الأمر سجالاً بين أتباع الشيطان, وأولياء الرحمن, أولئك قوم يبغون الفساد والإفساد, وهؤلاء يسعون للصلاح والإصلاح.

يحل الفساد في الأرض -يا كرام- بالشرك بالله, فحين يُعبد غير الله, ويُدعى, وبه يُحلف, وإليه يُتوجه, وعليه يُتوكل, حين يتوجه الخلق لعبادة غير الخالق, فذاك من أجلى صور الإفساد, ومن أظهر مظاهر الإفساد فيها, وهل ثمة فساد في الأرض أشد من فساد الدين؟!

قال ابن القيم: "وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله، وإقامة معبودٍ غيرِه، ومطاعٍ متبعٍ غير رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هو أعظم الفساد، ولا صلاح لها ولا لأهلها، إلا أن يكون الله وحده هو المعبود، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلاّ، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته، فلا سمع ولا طاعة، فإن الله أصلح الأرض برسوله ودينه، وبالأمر بتوحيده، ونهى عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله".

تفسد الأرض -يا مسلمون- بالبدعة, التي تكون على خلاف شرع الله, وعلى خلاف ما سنة رسول الله, فدين الإسلام كامل لا يحتاج لمستدرِك عليه, ولا لمبتكرٍ عبادةً لم يأمر بها الله ورسوله, وكل ناظرٍ لمجتمعات المسلمين يعلم كم هي البدع التي تُسنّ وتحتذى على خلاف ما ورد عن المصطفى, يزعم صاحبها قربة وهي تزيده من الله بعداً, بدعٌ في الأقوال, وبدع في الأفعال, بدعٌ في تعظيم أزمان, أو أماكن, أو أعمال لم تعظم في الشرع, وقد قال عليه السلام وقرر أن "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ".

عباد الله: يحل الفساد في الأرض بصنيع المنافقين الذين يفسدون في الأرض بقولهم وفعلهم, ويدّعون الإصلاح, فتراهم يبغون الناس السوء, ويؤزون المسلمين للمنكر, يسعون بكل جهدهم وطاقتهم كي يفسدوا الخلق, ويوطّنوا الناس على المنكر, وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.

هم المفسدون؛ إذ يدعون إلى نبذ شرع الله, والتحاكم إلى قوانين البشر, وأنظمة الشرق والغرب.

هم المفسدون؛ إذ يُشيعون الفحش, ويسعون لطمس كل أنوار الرسالة, وتشويه صورة الدين وأهله.

هم المفسدون؛ إذ يودون لو انجرف المجتمع عن الفضيلة, ولحق بركب الكفار في أخلاقه وأحواله.

هم المفسدون؛ إذ يتهمون المسلمين بالسفه, وبساطة العقول, وسطحية التفكير, وأن عقولهم متحجرة, (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَّ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 13].

هم المفسدون؛ إذ يخادعون الله والذين آمنوا, ويكيدون لأهل الإسلام, ويتواصلون مع أعداء الدين, لأجل القضاء على مظاهر الدين, ومراكز إشعاع الرسالة والإصلاح في المجتمع, (وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ) [البقرة: 14], يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.

معشر الكرام: يحل الفساد في الأرض حين تشيع فيها المعاصي والمنكرات, حين يُجاهَرُ بها فلا تُنكر, وحين يتتابع الناس على فعلها ولا تُغيّر, وحين تقع في الأرض فلا تتمعر القلوب نكيراً لها, وكم من خيرٍ تُمنع منه الأرض, ويُحرم منه الطيور والبهائم, وشرٍّ يحل بالعباد والبلاد, بسبب شيوع المعاصي, ووقوعها, وإذا كان هودٌ عدّ بخس الموازين, والتطفيف في الكيل, إفساداً في الأرض فقال: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) [الأعراف: 56]، فما لظن بما هو أشد وأشنع من المعاصي؟!

معشر الكرام: يحل الفساد في الأرض حين تفتح على الناس أبواب شرور يتتابعون بعدها على المنكر, ويكون على المتسبب فيها من الإثم والوزر الذي يتجدد عليه بانتشارها، ويتوالى تراكمُه في صحيفة أعماله إبَّان حياته، وبعد وفاته إلى أن يَبْعثَ الله مَن في القبور؛ ما لو علمه كثير من المحرّضين إلى الشر والمغذِّين للانحراف، لآثروا الموت في مهدهم على أن يقعوا في هُوَّة الذنوب والتبعات.

واعتبر بقوم فتحوا شروراً على الناس, كمثل ابن ملجم قاتل علي –رضي الله عنه-, والجعد بن درهم، والجهم بن صفوان اللذَين أدخلا الضلال إلى بلاد المسلمين في أصلٍ عظيم من الدين وهو الاعتقاد.

وكالمأمون؛ الذي أنشأ دار الحكمة، والتي ترجم من خلالها كتب فلاسفة اليونان، وناضل عن القول بخلق القرآن، وامتحن الناس في أرواحهم وعقائدهم، حتى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الله لا يُغْفِل عمل المأمون حينما أدخل علم الكلام، ونصر القول بخلق القرآن، وامتحن الناس فيه".

فاللهم اكفنا شر الفساد والإفساد، واجعلنا مفاتيح خير.

الخطبة الثانية:

معشر المسلمين: وتفسد الأرض بإشاعة القتل وسفك الدماء التي لا تحلّ, ومن هنا فلقد سمع الجميع عن حادثة تفجير مسجدٍ في إحدى قرى المملكة, راح نتيجته أقوام وأصيب آخرون, والذي ندين الله به أن هذا إفسادٌ في الأرض.

وإننا وإن كنا على خلاف واسع بين الرافضة, وإن كنا نبغضهم وندين لله بذلك, وإن كنا نعلن في كل يوم أن مَن سبَّ الصحابة ولعن عائشة, وخوَّن الأمين, ودعا الحسين, أنه عدو لنا, إلا أننا نمتثل قول ربنا (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ–أي: بغضهم – عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8]، فالعدل أن التعدي على الآمنين منهم لا يجوز, فكيف إذا كان في دور العبادة, والمساجد, فبيوت الله مكان الأمان, ومقر الأمن, وقد قال –صلى الله عليه وسلم- "وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

أجل أيها الكرام, "فحين يستنكر أَهلُ السُّنَّةِ مِثلَ هَذِهِ الأَعمَالِ ويستنكرون أَن يُعتَدَى عَلَى مُعَاهَدٍ يَعِيشُ في بَلَدِهِم، وَيعَدُّون هَذَا دِينًا يَدِينُونَ اللهَ بِهِ، فَإِنَّهُ لا يَعني بِحَالٍ أَنَّهُم يُوَالُونَ الكُفَّارَ وَالمُشرِكِينَ، أَو يُصَحِّحُون عَقَائِدَ أَهلِ الضَّلالِ أيًّا كَانُوا، أَو يُوَافِقُون أَصحَابَ الأَهوَاءِ عَلَى بِدَعِهِم، أَو يُجَامِلُونَ بِذَلِكَ أَحَدًا، لا وَاللهِ وَكَلاَّ، فَالحَقُّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ، وَصِرَاطُ اللهِ وَاحِدٌ لا يَتَعَدَّدُ".

وإلا فلا تخفى سوابق الرافضة وجرائمهم, لكن هذا لا يلزم منه أن يعتدى على عامتهم, بلا تفريق بين كبير وصغير, ولا مكان عبادة ولا غيره, وإذا كان النبي –عليه الصلاة والسلام- يوصي أصحابه عند المعارك بتجنب الأطفال والشيوخ ودور العبادة, فما الظن بمن بقي عندك بعقد أمان, لم ينقضه هو بذاته إلى الآن؟!

وبعيداً عن حدث الأسبوع أقول: لقد نالنا قبلُ من أصحاب الغلو ما نال, وسُفِكَتْ دماء مسلمةٌ في ساحات الجهاد, وفي هذه البلاد بحججٍ واهية, من قِبل قومٍ كثيرٌ منهم باع نفسه لله, وبحث عن نصرة الدين, ولكن حسن النوايا لا يكفي, والاجتهاد ليس هذا مجاله, ودماء المسلمين وأمنهم ليست محل اجتهاد.

وإني لأقول: بأن محاربة فكر الغلو - أيّاً كان، إن في أرض الشام, أو في هذه البلاد- لا تقلّ أهمية عن محاربة فكر الانحلال، بل أهم, فإن الذي يكفّرك ويكفّر كل من يعدّه في صف الكفار والظلمة, ويجرّم من لا يرى البيعة لدولته, ولا يسمع لقول عالم ناصح, ويتمادى به الأمر إلى أن يكفر جلّ المجتمع؛ فلا تظنَّ أنك بمنأى عن سهامه, والمصيبة الكبرى حين يكون فئام من شبابنا الذين يبحثون عن نصرة الدين هم وقودٌ لهذه الفتن.

والله إن القلب ليعتصر ألماً حين ترى من ودّع الدنيا وبحث عن نصرة الدين، ثم تراه يوجه سهامه لإخوانه المسلمين؛ إن في الشام, أو في هذه البلاد في بعض الأحيان, فالأمر خطير جد خطير.

أيها المسلمون: إنه لظلم أيما ظلم, وسطحية وقصور فهم أن يأتي من يلبس على الناس ليقول لهم: بأن من يذمّ الغلو فهو ضد الجهاد, ومن يلبّس على بعض الشباب ليقول لهم بأن ما يقوله فلان مجبرٌ عليه ولا يعتقده, لا والله, بل إننا في هذا الأمر وغيره لا نقول إلا ما ندين الله به, ونرى أن الجهاد حقٌ, وموجود, ولكنه حين يوجه إلى نحور الكفار, وهب أنك رأيت هؤلاء في الشام وغيرها كفارٌ فقتلتهم فهل في هذا الأمر جمع كلمة, أم أن فيه تفريقاً لصف المسلمين, وقتلاً لقومٍ يراهم غيرك مسلمون بل مجاهدون, وقد ترك النبي -عليه الصلاة والسلام- قتل من يستحقون القتل من المنافقين الذي عارضوا دينه، وجادلوه في شرعه، واتهموه في أمانته وعرضه، وقد حلت دماؤهم بذلك، فتركهم معللا تركهم بقوله –صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ"، فكيف بمن لهم سابقة في الجهاد وساحاته, وبمن لم تجزم بكفره؟!

والواقع يشهد بأن أكثر مستفيد من هذه الأحداث هم أعداء الإسلام من الرافضة واليهود والنصارى, الذين غاية مناهم تفرُّق بلاد السنة واحترابهم, وتوجيه سهام بعضهم لبعض, وهم لهذا يعملون وفي سبيله يخططون.

وبعدُ، فما أحوجنا إلى جمع الكلمة, وتوحيد صف أهل السنة, ومحاربة كل غلو وتطرف, وكل فجور وتهتك, وما أحوج المربين إلى توعية الشباب بهذه الأخطار, ونحن على يقين بأن مناهجنا, وحلقات تحفيظ القرآن ومراكز الدعوة لدينا أنها خير معين على صفاء المنهج, وسلامة المعتقد, بهذا نعتقد وإن شرق المنافقون, وإن زايد المزايدون.

اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بظن, واكفنا شر الأشرار


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي