في القصة لفتة عجيبة وهي اهتمام الإسلام بقضايا المرأة وعنايته بمشاكلها، حتى في المشكلات الشخصية الخاصة، فضلاً عن المشكلات العامة التي تهم كل النساء. فهل سمع هذا المدعون الذين يدّعون أن الإسلام ظلم المرأة أو حرمها من حقوقها؟ هل سمعوا بهذه القصة وهذه الآيات العظيمة التي أنزلها الله في شأن المجادلة...
الحمدُ للهِ الذي أنزلَ على عبده آياتٍ بيناتٍ، وفصلها سورًا وآيات، مِنْها آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ، هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، وصلى اللهُ وسلمَ على نبيِّ الْمَكْرُمَاتِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن تبعهم بإحسان حتى المماتِ.
أما بعد:
عباد الله: حديثنا اليوم عن قصة لطيفة ذكرها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العظيم؛ قصة عجيبة أنزل الله في شأنها سورة كاملة تتلى إلى يوم القيامة، مع أن صاحب القصة لم يكن رجلاً ولا نبياً ولا رسولاً، وإنما هي امرأة عجوز.
إنها المجادلة التي حكى الله قصتها في سورة (المجادلة) والتي يقول الله في مطلعها: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ... ) [المجادلة : 1]. أتعلمون ما سبب نزول هذه السورة؟.
اسمعوا إلى صاحبة القصة لتحكي لنا قصتها وشأنها، تقول خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ -رضي الله عنها-: "وَاللَّهِ فِيَّ وَفِي أَوْسِ بْنِ صَامِتٍ أَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- صَدْرَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ، قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَهُ وَكَانَ شَيْخاً كَبِيراً قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ وَضَجِرَ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ يَوْماً فَرَاجَعْتُهُ بِشَيْءٍ فَغَضِبَ فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ؛ فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي، قَالَتْ: فَقُلْتُ: كَلا؛ وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ لا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ، قَالَتْ: فَوَاثَبَنِي، وَامْتَنَعْتُ مِنْهُ، فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي، قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابَهَا.
ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ مَا لَقِيتُ مِنْهُ، فَجَعَلْتُ أَشْكُو إِلَيْهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَلْقَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ، قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: يَا خُوَيْلَةُ! ابْنُ عَمِّكِ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَاتَّقِي اللَّهَ فِيهِ، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ فِيَّ الْقُرْآنُ فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ لِي: يَا خُوَيْلَةُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المجادلة: 4].[أحمد (26)].
إن هذه القصة نزلت في شأن امرأة عادية من نساء المسلمين، حصلت لديها مشكلة أسرية خاصة، أحست فيها أنها قد ظلمت ولم ينصفها أحد في مظلمتها، فلجأت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تشكو إليه من ظلم زوجها وتعسفه عليها.
تخيلوا -ياعباد الله- أن الله -جل وعلا- ينزّل من السماء سورة كاملة من أجل شكوى امرأة في قضية خاصة، إن هذا له دلالات كثيرة ويحمل معاني أصيلة منها:
رفض الظلم جملة وتفصيلاً أياً كان مصدره، ومهما كان فاعله، حتى لو كان في أمر بسيط وموضوع شخصي.
كما أنها تدل على أهمية الاسراع في حل المشكلات قبل أن تستفحل، وسرعة القضاء على الإشكاليات قبل أن تتأصل، ولهذا نزل جبريل من السماء في نفس اللحظات التي جاءت المرأة تشكو فيها.
كما أن في القصة لفتة عجيبة وهي اهتمام الإسلام بقضايا المرأة وعنايته بمشاكلها، حتى في المشكلات الشخصية الخاصة، فضلاً عن المشكلات العامة التي تهم كل النساء.
فهل سمع هذا المدعون الذين يدّعون أن الإسلام ظلم المرأة أو حرمها من حقوقها؟ هل سمعوا بهذه القصة وهذه الآيات العظيمة التي أنزلها الله في شأن المجادلة، ليعلموا من هو الظالم الحقيقي للمرأة؟ ومن هو المنصف لها؟.
كما أن في القصة إرشادا مهما في كيفية التصرف عند حلول المشاكل، وكيف يكون المرء على قدر من المسؤولية في استيعابه للخلاف، ولو كان خلافاً عائلياً عادياً؟، وكيف يدير الأزمات العائلية إدارة حكيمة، خاصة إذا كان الخصم سيئ الطباع صعب العشرة، كما هو سلوك وطباع زوجها المذكور.
تدبر أحداث تلك الواقعة، والملابسات الداخلية التي حدثت بين زوجين داخل بيتهما، وقارن بين سلوك زوجها وسلوكها الراقي الورع الذي استوعب أخطاء الزوج، من أجل عدم الوقوع فيما يغضب الله -سبحانه وتعالى-.
وتذكر كيف فقهت أن طاعة الزوج لها حدود؛ وهي الطاعة في غير معصية الله -عز وجل-,
ثم سرعة تصرفها وحكمتها في وجوب الإسراع في حل تلك المشكلة العائلية، من أجل المحافظة على كيان الأسرة، وهذا ما يشعرنا بالمستوى الإيماني العظيم الذي تحمله من الأخلاق والورع، الذي ربيت عليه هذه المرأة في هذا المجتمع الرباني الفريد.
فالهدف العظيم الذي يرنو إليه أي زوجين؛ هو حماية كيان الأسرة، فلذلك فإنها حمت كيان أسرتها من التصدع، ولكنها حمته بشرع الله وحكمه، ولم تسول لها نفسها أن تحمي كيان أسرتها وتحافظ عليه على حساب طاعة الله -عز وجل-.
فلا يستوي بناء قام على طاعة الله مع بناء قام على معصيته: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [التوبة: 109].
لقد حملت خولة -رضي الله عنها- شكواها إلى الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-, فلم تذهب لغيره -صلى الله عليه وسلم-، حتى وإن كانت عائشة -رضوان الله عليها- تدبر كيف أن خولة -رضي الله عنها- أتت إلى بيتها، وانفردت به -صلى الله عليه وسلم- ولم تشرك أحداً في حل قضيتها حتى لا تتسع دائرة المشكلة وتبقى في إطار حدودها الضيقة.
تقول أم المؤمنين عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ؛ لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) [المجادلة: 1] إِلَى آخِرِ الآيَةِ" [أحمد (23064) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [سبأ : 1].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأصلي وأسلم على حبيبنا وشفيعنا وقدوتنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: ومن دلالات هذه القصة أهمية الالتزام بالانضباط التنظيمي, واستشعار روح الانتماء داخل الأمة، ووجوب تقويته بين أفراد الأمة، حتى يعي كل فرد من أفرادها أن له قيادة يحتكم لها، ومرجعية يعود إليها.
ومن اللفتات العظيمة الموجودة في القصة قدرتها -رضي الله عنها- على تقديم المشكلة بأسلوب راقي وعرض جميل، وقد جاءت بعض الروايات أنها بدأت شكواها بقولها: " يَارَسُولَ اللَّهِ أَكَلَ شَبَابِي وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي, حَتَّى إِذَا كَبِرَتْ سِنِّي وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ" [ابن ماجة (2053)].
إن هذا الكلام له وقعٌ مؤثر على النفوس بما يحمله من ألفاظ قوية متناسقة ومرتبة، ومافيه من أنات وهموم تدل على شدة تألمها وقوة عنائها مما تلاقيه من ظلم زوجها ومعاناتها منه.
ومع ذلك وفي نفس الوقت فقد كانت شجاعة في قول الحقيقة، وعرض القضية بأسلوب صريح وكلام مباشر، ولم تخفِ أمرها أو تغلف كلامها بأي أغلفة خارجية، مع أن قضيتها خاصة.
بل ذكر أهل السير من شجاعتها شيء عجيب؛ فقد مر بها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في خلافته والناس معه على حمار، فاستوقفته طويلاً ووعظته، وقالت: "يا عمر! قد كنت تدعى عُمَيْراً، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر! فإنه من أيقن بالموت خاف الفَوْت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب. وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟. فقال: واللهِ! لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟" [تفسير القرطبي (17/269)].
فأين رجالنا قبل نسائنا من هذه الشجاعة، ومن إسماع كلمة الحق وقولها؟ وأين نحن من الصدع بالحق وقوله لأهله وإيصاله لهم, ولو كان في ذلك مرارة على النفوس وصعوبة عليها؟.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال -عز من قائل كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهمَّ فَقِّهْنَا بالدينِ، وارزقْنَا تدبرَ القرآنِ والعملَ بِهِ يَاربَّ العَالمينَ, اللهم إنا عبيدك بنو عبادك أبناء إمائك، نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، اللهم علمنا منه ما جهلنا وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا تلاوته أناء الليل وأطراف النار على الوجه الذي يرضيك عنا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي