قصة مواعدة موسى عليه السلام والتيه

مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني

عناصر الخطبة

  1. ملاقاة الله تعالى موسى عليه السلام عند جبل الطور
  2. تلقِّي موسى للألواح وما فيها من رسالة
  3. تحرّك السامري لبث الشرك في قوم موسى في غيبته
  4. ثبات هارون وبقية من بني إسرائيل على التوحيد
  5. عودة موسى عليه السلام إلى قومه
  6. توبة بني إسرائيل
  7. توجه موسى وقومه إلى الأرض المقدسة
  8. رفض بني إسرائيل القتال في سبيل الله وعقابهم بالتيه

الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه واحمدوه واشكروه.

عباد الله: هذه هي الخطبة الخامسة عن موسى -عليه السلام-، فبعد أن أهلك الله -عزَّ وجل- فرعون الطاغية استقر موسى ومن معه بمصر، وهنا احتاجوا إلى منهاج يسيرون عليه، وشرع يركنون إليه، فسأل موسى ربه أن ينزل عليه كتابًا يهتدون به ويحتكمون إليه فيما يؤمرون به وينهون عنه، ولا يتخبطون في الحياة خبط عشواء.

عند ذلك أمره الله -عز وجل- أن يتطهر وأن يصوم ثلاثين يومًا، ثم يأتي إلى طور سيناء حتى يكلمه ربه، فيتلقى أمره في كتاب يكون لهم المرجع والمآب.

اختار موسى من قومه سبعين رجلاً، ثم ذهب للميقات أو الموعد مع ربه، ولكنه تعجّل وسبقهم إلى الطور، فوصل بعد ثلاثين ليلة وقد تأخر عنه المختارون من قومه، حينئذٍ سُئل عن الأمر الذي جعله يستعجل فقال: ﴿هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه:84]، فأمر أن يتم ميقات ربه أربعين ليلة، وكان موسى قد ترك قومه واستخلف عليهم أخاه هارون وزيرًا ليقوم على شؤونهم، ويصلح أمورهم، ويرعى أحوالهم، حتى يعود إليهم يحمل الأمانة الغالية، ويسعد بذلك الشرف الموعود.

سار موسى إلى طور سيناء، فكلمه ربه وناجاه، وقرّبه وأدناه، حتى سرت في نفسه روعة وهزة، أججت في فؤاده نار الشوق إلى رؤية ربه، فسأل ربه أن يراه، وموسى نفسه هو الرسول الذي طالبه قومه فقالوا: أرنا الله جهرة، فأجابه الله -عز وجل- بقوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾  [الأعراف:143].

تلفّت موسى، فإذا الجبل قد دُكَّ وغار في الأرض، فارتاع لهول ذلك الخطب الجلل والأمر العظيم، فخرّ مغشيًا عليه من هول ما رأى، فشمله الله -عز وجل- برحمته ولطفه، فأفاق من صعقته وقام يسبح الله الكبير المتعال.

أخذ موسى الألواح التي فيها ما يحتاج إليه بنو إسرائيل موعظة وتفصيلاً لكل شيء، فقال: يا رب: لقد أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحدًا قبلي، فقال الله -عز وجل- له: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف:144] .

وانتظر بنو إسرائيل أن يعود إليهم موسى بعد ثلاثين يومًا من بدء غيبته، ولكنه -على غير علم منهم- طال غيابه حتى صار أربعين يومًا، فأجالوا الرأي فيما بينهم وقالوا: إن موسى أخلفنا وعده، ونقض عهده وتركنا في جهل مقيم وليل بهيم، وما أجدرنا بمن ينير لنا المسالك ويرشدنا إلى سواء السبيل.

عند ذلك تحركت في نفس السامري -أحد بني إسرائيل- نزوة الشر والفساد، فاغتنمها فرصة وقال لهم: عليكم أن تتخذوا إلهًا، فليس موسى براجع لكم؛ لأنه خرج ينشد إلهكم فضلَّ الطريق وأخلف الميعاد.

والسامري في لغة العرب بمعنى اليهودي، قال الشيطان السامري قولته هذه بعد أن استشف ما في نفوس القوم من خور، فقد مالت نفوسهم من قبل إلى الكفر، وقد مروا بقوم لهم أصنام يعبدونها فقالوا: يا موسى: اجلب لنا آلهة كما لهم آلهة، قال الله تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(140)﴾ [الأعراف138 :140].

البحر هو بحر القلزم -البحر الأحمر حاليًا-، والموقع قرب جبل الطور قرب السويس حاليًا.

نعود إلى السامري الذي اغتنم جهالة القوم وأخذ حُليًّا ثم احتفر حفرة وقذفها فيه، ثم أوقد نارًا وصنع منها عجلاً جسدًا له خوار، فافتتن القوم به، وأظهرت الكافر منهم، وأبانت عمن قوى إيمانه واستيقن ومن ضعف إيمانه فنافق، فُتن بنو إسرائيل بهذا العجل وعبدوه، فتقطعت نفس هارون أسى وحزنًا وقال لهم: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى(91)﴾[طه90 :91].

فأقام هارون مع البقية الثابتين على وفائهم، المتمسكين بإيمانهم، وخشي أن يُحارب الضالّين الخارجين حذرًا من التحزب والتفرق، وخوفًا من الفتنة والثورة.

أوحى الله -عز وجلّ- إلى موسى بقوله: ﴿فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ [طه:85] ، لما وصل موسى إلى قومه بعد أن أتم ميقات ربه سمع على بُعد لغطًا وضجيجًا، عند ذلك أدرك سرّ الأمر وحقيقة الحال، حيث وجد قومه حول العجل يرقصون ويطربون، فتملّكه الغيظ، وثار عليهم، فألقى ما بيده من الألواح، ثم اتَّجه إلى أخيه هارون وأخذ برأسه يجره إليه قائلاً: ما منعك إذ رأيتهم ضلوا؟! ألا تتبع طريقي فيهم فترد شاردهم وتحارب مفسدهم، حتى تنطفئ هذه الفتنة، فازداد هارون همًّا وحسرة، وأقبل على أخيه يسترحمه ويستلينه ويهدئ من حدة نفسه وثورة غضبه وقال: ﴿قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [طه:94].

ثم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، فلا تشمت بي الأعداء، ولا تجعلني من القوم الظالمين، عند ذلك سكت عن موسى الغضب، وأخذ يعالج صالحهم بحسن الرأي والحزم، والتفت إلى منبع الفتنة وداعية الضلال السامري فقال له السامري: ﴿بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ [طه:96].

ثم أقبل موسى على قومه فقال لهم: يا قوم: ألم يعدكم ربكم وعدًا حسنًا، أفطال عليك العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي، قالوا: ما أخلفنا موعدك بملكنا -أي باختيارنا- ولكنا حملنا أوزارًا من زينة القوم، فصوّرها لنا السامري، وأخرج لنا عجلاً جسدًا له خوار، فأضلنا عن الطريق المستقيم، ثم ندموا على فعلهم، واستغفروا ربهم فقالوا: لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين، فقال لهم موسى: يا قوم: إنكم ظلمتم أنفسكم بعبادتكم للعجل فقالوا: أي شيء نصنع؟! فقال: توبوا إلى بارئكم، واسألوه أن يبين لكم طريق التوبة وسبيل الاستغفار.

وقال لهم: اقتلوا أنفسكم، أي أكسروا حدّتها، واكبتوا شهوتها، وطهروها من الشر والإثم، وجرّدوها من كل مشتهى مرغوب، وأقصوها عن كل مرجوٍّ مطلوب حتى يصغر شأن النفس الآثمة، ويحقر أمرها، فهذبوا أنفسهم وأقبلوا على نبيهم، فتاب الله عليهم إنه هو التواب الرحيم.

أما السامري الذي أشاع تلك الضلالة المنكرة فإن موسى دعا عليه وعاقبه الله -عز وجل- بإجابة دعاء موسى، وكان عقابه في الدنيا أن لا يخالط بني إسرائيل ولا يقربوه، فصار وحشيًّا لا يألف ولا يؤلف، ولا يدنو من الناس ولا يمسّ أحدًا منهم، وإن له موعدًا لن يخلفه يوم القيامة يوم يُساق إلى النار ليعذب بما جنت يداه وبئس المصير، أما عمله فقد أحرقه موسى وألقاه في البحر، وبذلك انتهت هذه البدعة الشنعاء. ونكمل في الخطبة الثانية، إن شاء الله.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة خاتم رسله، ونعوذ من البدع وأهلها، ومن الشر والفتن وأهلها، وأقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه واحمدوه واشكروه أن هداكم للإسلام، ومنّ عليكم باتباع خير الأنام، محمد -صلى الله عليه وسلم-.

عباد الله: بعدما أنجى الله -عز وجل- بني إسرائيل من فرعون وقومه الذين ساموه سوء العذاب دهرًا، ثم أهلك فرعون وقومه بالغرق، وجعلهم بعد ذلك أحرارًا بعد أن كانوا عبيدًا أذلاّء، وجعل فيهم عددًا من الأنبياء يرشدونهم وقد كانوا جهلاء ضلالاً، وفجّر لهم الصخر، وأنزل عليهم المن والسلوى، وآتاهم ما لم يؤتِ أحدًا من العالمين، وإتمامًا لنعم الله -عز وجل- عليهم أوحى الله -عز وجل- إلى موسى أن يتجه ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة من بلاد الشام، وهي أرض الميعاد التي وعد الله -عز وجل- إبراهيم الخليل أن يجعلها ملكًا للصالحين من ذريته والقائمين على شريعته.

ولكن بني إسرائيل اعتادوا على ظلم فرعون وقومه وإذلالهم، حتى هانوا على أنفسهم، وحبب إليهم الضعف والاستسلام، فلم يكادوا يسمعون كلمة الغزو أو يكلفون دخول أريحا حتى قالوا لموسى جبنًا وضعفًا: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾[المائدة:22] ، وكأنهم طمعوا أن يخرجوا منها بما ألفوا من المعجزات وخوارق العادات، ثم يدخلوا موفورين لم يقاتل أحد منهم في سبيل الله، شأنهم في ذلك شأن الضعيف العاجز والخائر الجبان، ولكن رجلين كانا ممن طبعهم الله على الإيمان توجها إلى القوم ناصحين ومرشدين فقالوا: ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة:23]، ولكنهم بقوا على خوفهم وجبنهم وقالوا لموسى: ﴿يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة:24] .

وعند ذلك عجز فيهم موسى ولم يجد من ينصره بعد الله -عز وجل- إلا أخاه هارون، فأمامه عدو قوي المراس كثير الجنود، فتوجه إلى الله داعيًا الله -عز وجل-: ﴿رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة:25]، فأوحى الله -عز وجل- إليه أن دعهم يتيهون في هذه البيداء من أرض سيناء، يضربون في جوانبها، ويخبطون في نواصيها، أربعين عامًا، حتى يفنى كبراؤهم، ويهلك رؤساؤهم، ويظهر بعدهم جيل عزيز قوي الجانب صنيع الساحة، حينئذٍ يعودون إلى الغزو ويركبون متن الجهاد؛ قال تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة:26]، والتيه المفازة، ثم بعد هلاكهم دخلها أبناؤهم الذين ولدوا في التيه.

وصلوا وسلموا -عباد الله- على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.  


تم تحميل المحتوى من موقع