أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم، وطرائقهم، فهم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا على الهدى المستقيم، ورب الكعبة. ووصفهم...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ومن تبعهم واكتفى، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله -عز وجل-، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، واجعلوا من هذه الدنيا مضمارا للتنافس في الخيرات، وكسب أعلى الدرجات، فوالله لن ينفع الإنسان بعد قدومه على ربه -عز وجل-؛ إلا ما قدم في هذه الدنيا من الأعمال الصالحات، والقربات النافعات.
جعلني الله وإياكم ممن استثمروا حياتهم، وأوقاتهم وأعمارهم في كل ما يقربهم من الله -عز وجل-، ويكسبهم محبته ورضاه، إن ربي رحيم ودود.
أيها الإخوة المسلمون: كان الحديث في الجمعة الماضية عن مكانة صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم-، عن مكانتهم في الدين، وفضلهم وسابقتهم، وواجب المسلمين تجاههم، بالترضي، والترحم عليهم، والكف عما شجر بينهم، وإغضاء الطرف عن مساوئهم، وإمساك اللسان عن الحديث في مثالبهم.
واليوم نواصل الحديث، لنذكر بعض الصور المشرقة، والأمثلة الرائعة، من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لنعرف كيف استحقوا هذه المكانة العالية، والدرجة الرفيعة في الخيرية والأفضلية، بالنسبة لمجموع الأمة وآحادها.
أخرج أبو نعيم عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات؛ أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم كانوا على الهدى المستقيم" ورب الكعبة.
ووصفهم علي -رضي الله عنه- بقوله: "والله لقد رأيت أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فما أرَ اليوم شيئا يشبههم، لقد كانوا يصبحون صفرا شعثا غبرا، بين أعينهم كأمثال ركب المعز، قد باتوا لله سجدا وقياما، يتلون كتاب الله -عز وجل-، ويراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا وذكروا الله -عز وجل-؛ مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم، حتى تبل ثيابهم، والله ! فكأن القوم باتوا غافلين".
ولم يكونوا كذلك -رضي الله عنهم-، بل باتوا سجدا لله ركعا وقياما، هكذا وصف أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إخوانهم من الصحابة، وكتب السيرة مليئة بأخبار القوم، وحسن صفاتهم، وجميل فعالهم، ولا يملك المطلع عليها إلا أن يقول: صدق الله -عز وجل- إذ يقول: (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام: 124].
حقا لقد اختارهم عز وجل لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
ومن الجوانب المضيئة في حياة الصحابة -رضوان الله عليهم-: صبرهم ومصابرتهم في الله -عز وجل-، وتحملهم الأذى، ومكابدتهم الجراح والأمراض، كل ذلك ابتغاءً منهم لمرضاة الله، وطلبا لثوابه، ونصرة لدينه، ولنبيهم محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وإليكم هذه الصور العظيمة التي تتدفق بالمعاني السامية، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "لما اجتمع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً في أول الإسلام ألح أبو بكر على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الظهور، فقال الرسول: "يا أبا بكر إنّا قليل" فلم يزل يلح حتى ظهر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وتفرّق المسلمون في نواحي المسجد الحرام، كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر بين الناس خطيباً ورسول الله جالس، وكان رضي الله عنه أول خطيب دعا إلى الله -عزّ وجل- والى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوهم ضربا شديدا، ووُطىءَ أبو بكر، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفين، وأثّر على وجه أبي بكر حتى لا يعرف أنفه من وجهه، وجاء بنو تيم جماعة أبوبكر -رضي الله عنه- يتعادون، فأجلوا المشركين عن أبي بكر، وحملوا أبا بكر في ثوب، حتى أدخلوه، ولا يشكون في موته، ورجعت بنو تيم فدخلوا المسجد، فقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبه، ورجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافه وبنو تيم يكلمون أبا بكر -رضى الله عنه- حتى أجابهم فتكلم آخر النهار: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنالوه بألسنتهم، ثم وكلوا به أمه أم الخير، فما زالت به، قال: والله! لا أذوق طعاماً حتى أنظر ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم بعث بها إلى أخت عمر بن الخطاب.
فجاءت أم جميل، ودنت من أبي بكر، وقالت: "إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجوا أن ينتقم الله منهم" فقال: "ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" قالت: هذه أمك تسمع، ولم تكن أمه أسلمت بعد، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صحيح، فقال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله علي ألا أذوق طعاما، أو شرابا، أو آتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فلما هدأ الناس خرجتا به يتكأ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رقة شديدة، فقال أبوبكر -رضي الله عنه-: "يا رسول الله ليس بي بأس".
وليست هذه القصة في الصبر، ليست بالوحيدة، ولا الفريدة في حياة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد أخرج الإمام أحمد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وبلال وخباب وصهيب وعمار وسمية أم عمار".
فأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس.
فأما بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان عليه قومه، فأخذوه، فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: "أحد أحد".
ومر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ب"ياسر وعمار وأم عمار" وهم يؤذون في الله -تعالى-، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة".
وطعن أبو جهل سمية في قبلها، فماتت ومات ياسر في العذاب!.
وعند ابن سعد -رحمه الله- عن الشعبي قال: "دخل خباب بن الأرت -رضي الله عنه- على عمر بن الخطاب، فأجلسه على متكئه، وقال: ما على الأرض أحد أحق بهذا المجلس من هذا إلا رجل واحد، قال له خباب: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: بلال، فقال خباب: ما هو بأحق مني؛ إن بلالاً كان له في المشركين من يمنعه الله به، ولم يكن لي أحد يمنعني، فلقد رأيتني يومًا أخذوني فأوقدوا لي نارًا، ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجله على صدري، فما اتّقيت الأرض إلا بظهري، قال: ثم كشف عن ظهره رضي الله عنه، فإذا هو قد برص من النار.
وأما صبرهم، ومصابرتهم -رضوان الله عليهم- في الجهاد نشرا لدين الله -عز وجل- لشيء عظيم جدا، عن أبي السائب -رضي الله عنه-: "أن رجلا من بني عبد الأشهل، قال: شهدت أحدا أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخروج في طلب العدو، قال لي أخي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ووالله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكنت أيسر جرحا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون".
وأخرج البخاري -رحمه الله- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "غاب عني أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، انكشف المسلمون، فقال: "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء- يعني أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين-" .
ثم تقدم رضي الله عنه فاستقبله سعد بن معاذ فسأله إلى أين؟ قال: يا سعد إني لأجد ريح الجنة دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله أن أصنع ما صنع، قال أنس -رضي الله عنه- فوجدنا به بعد أن قتل بضع وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة بالرمح، أو رمية بسهم، ووجدناه وقد قتل، وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، فقال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه، وفي أشباهه: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الأحزاب:23].
هذه -أيها الإخوة المسلمون-: صور يسيرة جدا جدا من مئات الصور التي تشهد بما كان عليه الصحابة الأبرار -رضوان الله عليهم-، من صبر ومصابرة، وتضحية وثبات، على هذا الدين، استحقوا بذلك كله أن ينالوا رضا الله -عز وجل-، وأن يكونوا خير هذه الأمة.
فنسأل الله -عز وجل- أن يجزيهم أحسن الجزاء، وأن يجمعنا بهم في دار النعيم، مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الأحزاب:23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن اتبع هداه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أما بعد:
عباد الله: فاتقوا الله، واجتهدوا في طاعة ربكم -عز وجل-، وأكثروا -رحمكم الله- من محاسبة النفوس، على تقصيرها وتفريطها في جنب الله، ولازموا الاستغفار في جميع الأوقات، فإنه من أعظم الأسباب لحياة القلوب، ومحو الذنوب.
أيها الإخوة في الله: مهما تحدث المتحدثون، وكتب الكاتبون عن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ورضوان الله عليهم-، فلن يوفوهم حقهم، ولن يقدروهم قدرهم؛ أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ، أبر الأمة قلوبا، وأطيبها نفوسا، وأصدقهم ثباتا، وأقواهم إيمانا -رضي الله عنهم وأرضاهم، وأنزل البلاء على أعدائهم وشانئيهم-.
أيها الإخوة في الله: لئن كانت هذه الصور التي ذكرت تمثل جانبا من الجوانب التي كان عليها أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في بداية هذا الدين، مع قلة الأنصار والأعوان، وقلة ذات اليد، ومع كثرة الأذى، والبأساء والضراء، التي مستهم، ونالتهم، فإن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تغيرهم الدنيا بعد أن فٌتحت عليهم، بل كانوا شديدي الخوف والبكاء، يشكرون الله -عز وجل- على النعماء والسراء، كما شكروه وصبروا في حال البأساء والضراء.
لما فتح المسلمون المدائن، وجيء بكنوز كسرى، وغنائم القادسية، إلى عمر، وكانت كنوزا وغنائم عظيمة، جعل أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه وأرضاه- يتصفحها، وينظر إليها، وهو يبكي، ومعه عبد الرحمن بن عوف، فقال له عبدالرحمن: ما يبكيك يا أمير المؤمنين، فوالله إن هذا ليوم شكر، ويوم سرور، ويوم فرح؟ فقال عمر -رضي الله عنه-: "أجل، ولكن لم يؤتى هذا قوم قط إلا أورثهم العداوة والبغضاء".
ولما ألقى سوار كسرى بن هرمز إلى سراقة بن جعشم، قال: "الحمد لله سواري كسرى بن هرمز في يد سراقة بن مالك بن جعشم، أعرابي من بني مدلج" ثم قال رضي الله عنه: "اللهم إني قد علمت أن رسولك -صلى الله عليه وسلم- كان يحب أن يصيب مالاً، فينفقه في سبيلك، وعلى عبادك، وزويت ذلك عنه نظرا منك له واختيارا" ثم قال: "اللهم إني قد علمت أن أبابكر كان يحب أن يصيب مالاً، فينفقه في سبيلك، وعلى عبادك، فزويت ذلك عنه، نظرا منك له، واختيارا، اللهم إني أعوذ بك أن يكون هذا مكراً منك بعمر، ثم تلا: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون:55 - 56].
وأخرج البخاري -رحمه الله- عن سعد بن إبراهيم عن أبيه: أن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أتي بطعام، وكان صائما، فقال: "قتل مصعب ابن عمير وهو خير مني، كفن في بردة، إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وأراه، قال: وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي، حتى ترك الطعام -رضي الله عنه-".
وروى أبو نعيم في الحلية عن طارق بن شهاب قال: "عاد خباب نفر من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرض موته، فقالوا: أبشر يا أبا عبد الله إخوانك تقدم عليهم غدا، قال: فبكى، وقال: أما إنه ليس بي جزع، ولكنكم ذكرتموني أقواما، وسميتم لي إخوانا، وإني أولئك قد مضوا بأجورهم كلهم، وإني أخاف أن يكون ثواب ما تذكرون من تلك الأعمال، ما أوتينا بعدهم.
ولما حضرت سلمان الفارسي الوفاة، زاره سعد بن أبي وقاص، فبكى سلمان، فقال له سعد: ما بيكيك يا أبا عبد الله، توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنك راض، وترد عليه الحوض؟ قال: فقال سلمان: أما إني ما أبكي جزعا من الموت، ولا حرصا على الدنيا، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إلينا، فقال: لتكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب، وحولي هذه الاسأود، وإنما حوله اجانة أو جفنة، أو مطهرة" أي وعاء صغير -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
هؤلاء -أيها الإخوة في الله-: هم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- هم القدوة، هم الأسوة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه حياتهم في أول أمرهم، وفي آخر أمرهم، هذه حياتهم في فقرهم وغناهم، لم يغيروا ولم يبدلوا، ولم يحرفوا ولم ينقضوا، بل ظلوا على العهد والبيعة التي أعطوها لقائدهم ورسولهم محمد -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم إنا قد أحببنا صحابة رسولك -صلى الله عليهم وسلم ورضي الله عنهم-.
ونرجوا أن نكون قد حفظنا فيهم وصية نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، فترضينا عنهم، وواليناهم، وبالخير ذكرناهم، وعادينا من عاداهم، ولم نتخذهم غرضا، وأمسكنا ألسنتنا عن سبهم، وشتمهم، وعن الخوض فيما جرى بينهم.
اللهم زدهم رضا يا ارحم الرحمين، جزاء ما ناصروا دينك، وخدموا شريعتك، ونقلوا للأمة ميراث نبيك.
اللهم أنزلهم خير المنازل، وبوئهم في الجنة ما تقر به أعينهم.
أسأل الله أن يجعلنا من عباده المتقين، الموعودين بجزيل الهبات، وعظيم الثمرات: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف: 100].
هذا، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشرا".
اللهم صل وسلم وبارك ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي