خطبة في الاستسقاء 2

محمد بن إبراهيم الشعلان
عناصر الخطبة
  1. نعمة المياه .
  2. أسباب المصائب .
  3. رفع المصائب بالتضرع .
  4. من مظاهر غفلتنا ونتائجها .
  5. الهدي النبوي عند نزول المصائب .
  6. الاستمطار بالاستغفار. .

اقتباس

فإنْ تضرع العباد إلى الله ورجعوا، وأنابوا إليه، واستيقظوا من سباتهم؛ فإن الله قد أراد بهم خيراً، وسيبدل سيئاتهم حسنات، ومحنهم منحاً، وضراءهم سراء، وجدبهم وقحطهم خصباً وخيراً، وسوف ينعم عليهم بنعمة عظيمة أعظم من كل هذه النعم، ألا وهي صلاحُ القلوب، ورضاها، وقناعتُها بما آتاها الله من رزق ومال.

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:59]. أحمده -سبحانه- وأشكره، وهو للحمد أهل، وللشكر جدير، وهو الحق المبين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو القاهر فوق عباده، وهو القادر على أن يبعث عليهم عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم، فهو رب العالمين.

وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله سيد المتوكلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واستغفروه، وتوبوا إليه جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، وأخلصوا له في عبادتكم، وفوضوا أموركم إليه، وتوكلوا عليه، فإنه نعم المولى ونعم النصير، وهو حسب العباد ونعم الوكيل.

عباد الله: إن قلة المياه وغورها، وتأخر الأمطار وإبطاءها، مصيبة من المصائب التي تحل بالعباد وتنزل بهم، بل هي من أعظم المصائب وأشدها؛ لأن الماء به حياة العباد والبلاد والشجر والدواب، قد يصبر الإنسان عن الطعام أياماً عديدة، لكنه لا يستطيع أن يصبر عن الماء إلا أياماً قليلة. قال -عز وجل-: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) [الفرقان:48-49].

انظروا -عباد الله- إلى البلاد التي تصاب بالجدب والقحط والجفاف وقلة المياه وتأخر نزول الأمطار؛ كيف يكون حالها؟ إنها حال بئيسة ومريرة، الدواب يصيبها النفوق والتلف والهلاك، والأشجار يصيبها المرض واليبس والاصفرار، والأرض يعتريها الجفاف، وتختفي فيها الحياة، والناس يبدؤون رحلة البحث عن المياه، فقد يتركون بلادهم ومساكنهم بحثا عن الماء الذي لا غنى لهم عنه، فالجفاف الذي يصيب بعض البلاد يحيل الحياة فيها إلى بؤس وشقاء.

نسأل الله السلامة والعافية، ففقد الماء، أو قلته، أو غوره في الأرض، أو تأخر نزوله من السماء، مصيبة عظيمة، وبلاء كبير.

وقد يكون نزول المصيبة بالعباد، بأسباب المعاصي وأنواع الفساد، كما قال -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30]، وقال -سبحانه وتعالى-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:165]، وقال -عز شانه-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].

وقال العباس -رضي الله عنه-: "إنه لم ينزل بلاء من السماء إلا بذنب، ولم ينكشف إلا بتوبة"، وهذا هو الغالب -عباد الله- في هذا الزمان العصيب، الذي كثرت فيه المعاصي والذنوب، وتلبس أكثر الناس بالسوء والعيوب، وقل فيه الخير، وانتشرت الشرور، وعظمت الكروب، وأصبح الإسلام غريباً في كثير من بلاد المسلمين وعند أكثر الخلق والشعوب.

وخف ميزان الطاعة والعبادة، وثقل ميزان المعصية والإساءة، واستنكرت كثير من السنن والطاعات، واستكين إلى كثير من البدع والمحدثات، وجاهر كثير من العصاة بمعاصيهم، وأخفى كثير من الطائعين طاعاتهم.

ونافح دعاة السوء عن مبادئهم وأفكارهم، وأبلوا في ذلك بلاء شديداً، ولقوا من بعض المسلمين -هداهم الله- عوناً ومساعدة وتسديداً، وضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقي هذا المرفق من المغرضين والمنافقين وأهل السوء، الذين لا يريدون لهذه البلاد الخير والرشاد والأمن والاستقرار، لقي الكيد والمكر والمحاربة باللسان تارة، وبالقلم تارة، وبالعمل تارة.

ودخل السوء والمنكر كثيراً من بيوت المسلمين، عن طريق وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة التي تبث شروراً عظيمة، وفِتنا كثيرة، عبر تلكم القنوات الفضائية، صاحبة الامتياز في نشر الرذيلة والفحشاء، مقابل الكسب المادي الذي يحصله أهلها من المشاهدين والمشتركين، فقلت الغيرة الدينية في قلوب كثير من المسلمين؛ من جراء ذلك الزخم الهائل من وسائل هدم العقيدة  الصحيحة والخلق الكريم.

فلا جرم -عباد الله- أن يبتلي الله -عز وجل- العباد بالمصائب؛ لعلهم يرجعون إليه، وينيبون إليه، ويعودون إلى دينهم عوداً حميداً، ويعضّون عليه بالنواجذ، ويقيمونه في أنفسهم وأهليهم ومجتمعهم، وينافحون عنه بقدر استطاعتهم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قدر استطاعتهم؛ امتثالاً لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

ولعلهم يتضرعون إليه، وينكسرون بين يديه، ويخضعون لجلاله وعظمته وكبريائه، وليعلموا أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا مفر منه إلا إليه.

اسمعوا -عباد الله- إلى قول ربكم -جل وعلا- في هذا، قال -سبحانه وتعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام:42].

نعم -عباد الله-! إن من أعظم الحكم من نزول المصائب على العباد، هي أن يتضرعوا إلى الله، ويستكينوا إليه، ويقوموا بأوامره، ويتركوا نواهيه.

فإنْ تضرع العباد إلى الله ورجعوا، وأنابوا إليه، واستيقظوا من سباتهم؛ فإن الله قد أراد بهم خيراً، وسيبدل سيئاتهم حسنات، ومحنهم منحاً، وضراءهم سراء، وجدبهم وقحطهم خصباً وخيراً، وسوف ينعم عليهم بنعمة عظيمة أعظم من كل هذه النعم، ألا وهي صلاحُ القلوب، ورضاها، وقناعتُها بما آتاها الله من رزق ومال.

وإن استمر العباد في ضلالهم وطغيانهم وغفلتهم، فالمصائب ستنزل بهم مصيبة بعد مصيبة، والبلاء سيحل بهم بلاء يتبعه بلاء، وهم في غفلة ساهون، وإنه يخشى عليهم من قسوة القلوب ومرضها، ويخاف عليهم من أن ينزل بهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون، فيكونوا عبرة لغيرهم، كما كان غيرهم عبرة لهم. قال -تعالى-: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام:43-44]، أي: آيسون من كل خير، والعياذ بالله!.

وإن حال كثير من المسلمين اليوم، مع المصائب والمحن، حال من نسي الذكرى والعبرة، وغفل عن الحكمة، واستمر في غيه وغفلته، فلم يعتبر بها، ولم يتعظ بنزولها، بل قد ازداد بها طغيانا وفساداً والعياذ بالله!.

انظروا إلى البلاد التي أصيبت بالزلازل والفيضانات وسلط الأعداء عليها، هل تضرع أهلها إلى الله، وأنابوا إليه، وتركوا السوء، وأصلحوا من حالهم وشانهم؟ أبداً! بل هم على حالهم.

لم يلجؤوا إلى الله حق اللجوء، فكان جزاؤهم أن سلط عليهم العدو من غيرهم، وابتلوا بالمحن والقلاقل، وأصيبوا بالضعف المادي، حتى صاروا عالة على دول الكفر والضلال، ممثلة في صندوقها الدولي الخبيث.

لم يتخذوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة حسنة في كيفية التعامل مع المصائب والمحن، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- إذا حزبه أمر أو نزل به خطب التجأ إلى الله، وتضرع إليه، واستكان إليه -سبحانه-، وتوجه إليه بالدعاء الصادق.

ففي غزوة بدر، لما رأى -صلى الله عليه وسلم- أن المشركين أكثر عددا وعتاداً من أصحابه، توجه إلى الله بالدعاء، وألح في ذلك، ورفع يديه إلى السماء، ونادى ربه قائلاً: "إن تهلك هذه العصابة -يعني أصحابه- فلن تعبد في الأرض"، وأخذ يناشد ربه حتى سقط الرداء من على منكبيه، فأشفق عليه أبو بكر -رضي الله عنه- ووضع الرداء على كتفيه وقال: "كفاك مناشدتك لربك! فإن الله منجز لك ما وعدك".

وكان -عليه الصلاة والسلام- إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ولما شكا الناس إليه الجدب، خرج متواضعاً متبذلا متخشعاً متضرعاً، ودعا ربه أن يغيث عباده.

هكذا ينبغي أن يكون العباد مع ربهم -عز وجل-: تعظيم وإجلال، وخوف وخشية، وتضرع وتذلل، وتواضع وتبذل.

فلنحذر -عباد الله- من القسوة التي إن أصابت قلوبنا، فلم نتعظ بآية، ولم نتذكر بمصيبة ولنرجع إلى الله ونتوب إليه، مَن كان تاركاً للصلاة أو متساهلاً بها فليحافظ عليها، ومن كان تاركاً للزكاة فليؤدها إلى أهلها، ومن كان تاركاً للصوم فليصم، ومن كان تاركا للحج فليحج إذا كان قادراً عليه، ومن كان قاطعاً لرحمه فليصل رحمه، ومن كان عاقاً لوالديه فليبرهما، ومن كان مسيئاً فليحسن، ومن كانت من النساء مسيئة بترك طاعة أو وقوع في معصية، أو خروج على تعاليم الشريعة، فلتتب إلى الله -عز وجل-، ولتكن امرأة صالحة قانتة طائعة.

وعموماً -عباد الله- لنسْع في صلاح قلوبنا وتزكية نفوسنا، فإن القلوب إذا صلحت والنفوس إذا زكت، صلحت الأجساد، وإذا صلحت الأجساد صلحت المجتمعات، وإذا صلحت المجتمعات صلحت الدول، وحينئذ؛ لينتظر العباد نصر الله -عز وجل- وتأييده، ومعونته وكلاءته وحفظه، وفضله ورزقه...

فاستغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدرارا، أكثروا من الاستغفار والدعاء، وألحوا على ربكم -جل وعلا-، لا تقتصروا على طلب السقيا في هذه الصلاة فقط، بل كل منكم يستغيث ويطلب السقيا من ربه وهو في طريقه أو في وظيفته أو في متجره أو في بستانه، وهو يصلي أو وهو يخطب إن كان خطيباً، فلا تكن الدواب خيراً منكم في ذلك.

أخرج الإمام أحمد مسنده وصححه الحاكم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خرج سليمان -عليه السلام- يستسقي فرأى نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك، فقال: ارجعوا، سقيتم بدعوة غيركم".

عباد الله: إن الله -عز وجل- أمرنا أن ندعوه، ووعدنا أن يستجيب لنا، فالحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا اله إلا الله، يفعل ما يريد.

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغاً إلى حين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم ظللنا سحاباً كثيفاً قصيفا دلوقا صحوكا، تمطرنا منه رذاذا قطقطا سجلاً يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غني عن سقياك فاسقنا، اللهم إنه لم ينزل بلاء من السماء إلا بذنب ولم ينكشف إلا بتوبة، فهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، يا رب العالمين.

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي