من أعظم مبادئ الشريعة الإسلامية، التي تفصح عن حرية إبداء الرأي، والتوجه بالخطاب الناصح لمن تنكب الطريق، وزاغ عن السبيل، أو مال عن السداد، واحتاج إلى رشاد؛ مبدأ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، الذي يتعدى التصحيح الديني إلى أوجه النشاط الإنساني داخل المجتمع المسلم.فهؤلاء..
انتهى بنا المطاف -ونحن نتحدث عن وسطية الإسلام، وما يثيره الغربيون وأتباعهم من شبه حول هذه الوسطية- إلى الرد على زعمهم بأن الإسلام كان سبب تفشي الثالوث المدمر لديار المسلمين: الفقر، والمرض، والتخلف.
وعلمنا: كيف أن السر في ذلك يكمن في طباع بعض المسلمين الذين تنكبوا الطريق، لا في دينهم الذي يحضهم على العلم، والتفكر في آيات الآفاق والأنفس، والذي حقق المسلمون الأوائل في ظله من الرخاء، والعدل، والرحمة، والازدهار في العلم، والاقتصاد، والاجتماع ما لم تعرفه حضارة أوربا إلا بعد قرون من الزمن.
غير أن أحقاد المناوئين لا تنتهي، واتهاماتهم لا تقف عند حد، وتربصاتهم لا يحجزها قيد؛ كما قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)[البقرة: 109].
وكما قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)[النمل: 14].
فتوالت شبههم حتى أوصلوها إلى أزيد من خمسمائة.
نقف -اليوم- على واحدة أخرى مما اعتبروه قاصمة ظهر المسلمين، والنهاية في إقناع المتربصين: بأن وسطية الإسلام زائفة، ومحاسنه مكذوبة، حيث ادعوا أن الإسلام يمنع الحريات، ويكمم الأفواه، ويفرض الرأي الواحد، ويجابه المخالفين، ويرفض المعارضين.
ونحن نقول: إن كنتم تقصدون بعض المسلمين ممن تجاوزوا الحدود الشرعية في هذا الزمان، فصدقت عليهم هذه التهمة؛ فإنهم ليسوا دليلا على أن الدين الإسلامي كذلك، وليسوا مرجعا نحتكم إليه، فلربما عرف تاريخكم أسوأ منهم، ممن مارسوا دكتاتورية الفكر، والعقيدة، والسلوك.
وإن كنتم تحتكمون إلى نصوصنا الشرعية، المؤصلة للعلاقات بين الناس، والضابطة لمعاملة بعضهم لبعض، فدوننا هذه النصوص بفهم من اتخذوا الإسلام منهج حياة، فاحتكموا لمبادئه، وامتثلوا لتوجيهاته، واهتدوا بهديه.
لقد أسس الإسلام لحرية الرأي والتعبير بوضوح، حين أقر الاختلاف المفروض بين الناس، تبعا لاختلاف مشاربهم، وثقافاتهم، واعتقاداتهم، ومواقفهم، بل اعتبر هذا الخلاف إغناء للآراء، وتعدادا للمواقف، لاختيار الوجيه منها، واعتماد الأفضل من بينها، ولذلك قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)[هود: 118 - 119].
قال ابن كثير -رحمه الله-:"قيل: وللرحمة والاختلاف خلقهم، كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)[هود: 118 - 119].
قال: الناس مختلفون على أديان شتى: (إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ).
فمن رحم ربك غير مختلف.
قيل له: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)؟
قال: "خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه".
ومن باب الأمر بالإدلاء بالرأي، قال تعالى: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[البقرة: 283].
ومن هذا الإقرار، أمر المختلفين بالتحاكم إلى الوحيين، ففيهما الحل القاطع لكل نزاع، والدواء الشافي لكل خلاف، قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[النساء: 59].
ومن أعظم مبادئ الشريعة الإسلامية، التي تفصح عن حرية إبداء الرأي، والتوجه بالخطاب الناصح لمن تنكب الطريق، وزاغ عن السبيل، أو مال عن السداد، واحتاج إلى رشاد؛ مبدأ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، الذي يتعدى التصحيح الديني إلى أوجه النشاط الإنساني داخل المجتمع المسلم.
فهؤلاء صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول عنهم أبو سلمة بن عبد الرحمن: "لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منحرفين، ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله، دارت حماليق عينيه كأنه مجنون"[صحيح الأدب المفرد].
ولربما كان ذلك بحضور النبي -صلى الله عليه وسلم- دون أن ينكر عليهم شيئا من ذلك، كما قال جَابِرُ بنُ سَمُرَةَ -رضي الله عنه-:"جَالَسْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ، فَكَانَ أَصْحَابُهُ يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ، وَيَتَذَاكَرُونَ أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَرُبَّمَا تَبَسَّمَ مَعَهُمْ" [صحيح سنن الترمذي].
وكم اجتهد خلفاء المسلمين كي يتعلم الناس، ويصبحوا قادرين على إبداء آرائهم، في مجالسهم، وكتبهم، ودروسهم؟.
فهذا يوسف بن تاشفين -على سبيل المثال- كان أول شيء يفعله عند دخول أية مدينة مغربية أن يبني المساجد لتعليم العلم ومدارسته، قال صاحب "الاستقصا": إن يوسف بن تاشفين، بعد أن دخل مدينة فاس: "أمر ببنيان المساجد في شوارعها وأزقتها، وأيُّ زقاق لم يجد فيه مسجداً عاقب أهله".
فكانت المساجد بمثابة المدارس اليوم.
ولعل يوسف بن تاشفين تنبه إلى إلزامية التعليم منذ ذلك الحين.
وكان يستفيد من العلماء، ويستمع لرأيهم، لا يستبد دونهم برأي، بل كان ينزل عند فتواهم، ويعمل بآرائهم، فقد ذكر صاحب كتاب: "الحلل الموشية" أن يوسف بن تاشفين -رحمه الله- كان: "يفضل الفقهاء، ويعظم العلماء، ويصرف الأمور إليهم، ويأخذ فيها برأيهم، ويقضي على نفسه بفتياهم".
وهذا تحقيق قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-:"الدِّينُ النَّصِيحَةُ"قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: "لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ"[مسلم].
قال الإمام النووي -رحمه الله-:"وأمَّا النصيحة لأئمة المسلمين، فمعاونتهم على الحقِّ، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، ونهيهم عن مخالفته، وتذكيرهم برفق، وإعلامهم بما غفلوا عنه، ولم يبلغهم من حقوق المسلمين".
وكانصلى الله عليه وسلميشجع صاحب الحق أن يبدي رأيه من دون خوف، ما دام قصدُه النصحَ بآدابه، ومبتغاه الحقَّ بضوابطه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"ألا لا يَمْنَعَنَّ رَجُلاً هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ"[صحيح سنن ابن ماجة].
وقد طُبِّقَتْ حرِّيَّة الرأي على طُولِ التاريخ الإسلامي تطبيقًا رائعًا، حتى إن نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- كن يراجعنه، فيبدين رأيهن أمامه، ولا يتحرجن من ذلك.
وهذا عمر بن الخطاب لما أراد أن يحد مقدار الصداق خوفا من التغالي فيه، قامت إليه امرأة، وذكرته بقول الله -تعالى-: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا)[النساء: 20].
فرجع إلى قولها، وقال:" فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب فليفعل".
ومع الاختلاف في ثبوت هذه القصة، يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-:"إن هذه القصة دليل على كمال فضل عمر، ودينه، وتقواه، ورجوعه إلى الحق إذا تبين له".
إن بلاد الغرب الحديثة، التي ترفع شعار الحرية، وتوهم الناس بأن الفرد له أن يقول ما شاء، ويفعل ما شاء، لهي أول من يخرق هذا المبدأ حين يتعارض مع مصالحها الخاصة.
ففي إحدى الولايات الغربية، استشاط حاكمها غضبا من أجل رسم كاريكاتوري في كتاب فكاهي، يسخر من تمثال الحرية المشهور، فصادر الكتاب، ومنع تداوله، وأمر بسحبه من المكتبات، ولم يتحرك أحد منهم حين حاولت الرسومات تشويه صورة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، بل اعتبروا ذلك حريةً في الرأي، واستقلالا في التعبير.
ولما أفصح الباحث البريطاني الدكتور جون بولبي، عن موقفه من إهمال الغربيين لتربية أبنائهم، وبين دور الأم في بناء شخصية الطفل، وأن "مشاكل الطفولة تُعد أخطر من الاضطرابات الدولية، والحروب العرقية، والأمراض القديمة والجديدة".
حتى قال: "إذا نظرنا للأمر ببساطة وهدوء، فسنجد أنَّ جميعَ العباقرة، سواء العلماء العظام، أمِ الكُتَّاب والفنانون الذين غيَّروا وجه البشرية، نشأوا في بيوت تظلُّها الأم برعايتها وحنانها".
أقول: لما أفصح عن ذلك، قامت النساء -بدعم من عدة هيئات- بحملة مضادة، واتهمنه بالعنصرية والتمييز، حتى لقبنه بعدو المرأة الأول، مع أن أبحاثه اليوم -في ظل الوضع المتردي الذي تعرفه الأسرة الغربية- صارت محطة لإعادة النظر في تقويم النظريات التربوية المتعلقة بطرق العناية بالأطفال، وأساليب علاجهم بالمستشفيات، وكيفية التعامل معهم بمؤسسات رعاية الطفولة.
وفي بعض البلاد الغربية، نجد حظرا قويا لحجاب المرأة المسلمة، حتى وإن كانت تحمل جنسية هذه البلاد، وفي بعضها يمنع بناء المساجد ورفع الأذان، وفي بعضها يحرق المصحف الكريم أمام الملإ.
فمن الذي يصادر حرية الرأي، ومن الذي يكمم الأفواه، ويخنق الحريات؟
هربوا من الرق الذي خلقوا له *** فَبُلوا بِرِقِّ النفس والشيطان
لا ترض ما اختاروه هم لنفوسهم *** فقد ارتضوا بالذل والحرمان
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي