الصلاة أول فريضة فرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وآخر ما وصّى به أمته، وآخر ما يذهب من الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون منه الصلاة". فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين، فإذا صارت الصلاة آخر ما يذهب من الإسلام، فكل شيء يذهب آخره، فقد ذهب جميعه. وقدر الإسلام في قلب العبد كـ...
الحمد لله رب العالمين، أمر بإقام الصلاة. والمحافظة عليها، والمداومة عليها مدى الحياة، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له في ربوبيّته وإلهيّته، وما لَهُ من الأسماء والصفات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله كانت قرّة عينه في الصلاة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي المناقب والكرامات، وسلّم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- في السرّ والعلن، وتجنّبوا المعاصي ما ظهر منها وما بطن، وحافظوا على الصلاة، ولازموا الجمع والجماعات، فإن ذلك من أبلغ علامات الإيمان، قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18].
عباد الله: إن للصلاة فضائل ومزايا لا توجد في غيرها من الأعمال، فهي: أول ما فرض الله من الإسلام بعد الشهادتين؛ لأنها فرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة ليلة الإسراء قبل هجرته إلى المدينة، والزكاة والصوم والحج إنما فرض كلاً من هذه الأعمال في المدينة بعد الهجرة.
والصلاة فرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم- في السماء حينما عرج به إليها، وبقية الشرائع فرضت عليه بواسطة جبريل -عليه السلام-، وهو في الأرض، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر نوابه ورسله إلى الناس أن يبدؤوا بالدعوة إلى الصلاة بعد الشهادتين، كما قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة".
والصلاة أول ما يُحاسب عليه العبد من عمله، قال عون بن عبد الله: "إن العبد إذا دخل قبره سُئِل عن صلاته أول شيء سُئِل عنه، فإن جازت له نُظر فيما سوى ذلك من عمله، وإن لم تجز له لم ينظر في شيء من عمله بعد".
ويدل على هذا الحديث الذي في المسند والسنن من رواية أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أول ما يُحاسب به العبد من عمله يحاسب بصلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر".
والصلاة أكثر الفروض ذكراً في القرآن، وأهل النار لما يسألون: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر: 42].
يبدؤون الجواب بقولهم: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)[المدثر: 43].
والصلاة لا يسقط فرضها بحال من الأحوال ما دام عقل العبد ثابتاً، فيصلّيها على حسب حاله، فتجب على المقيم والمسافر، والصحيح والمريض، والآمن والخائف، لكن المعذور يصلي على حسب حاله، ومنتهى قدرته، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب".
والصلاة تجب على الحرّ والعبد، والذكر والأنثى، والغني والفقير.
وقد عظم الله أمر الصلاة في القرآن، وعظّم شرفها، وشرف أهلها، وخصَّها بالذكر بين الطاعات، ووصّى بها وصية خاصة، فمن ذلك: أن الله -تعالى- ذكر أعمال البرّ التي أوجب لأهلها الخلود في الفردوس، وافتتح تلك الأعمال بالصلاة، وختمها بها، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)[المؤمنون: 1- 2] إلى قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [ المؤمنون: 9 - 11].
وقد عاب الله الناس كلهم، ووصفهم بالهلع والجزع والمنع للخير، إلا أهل الصلاة، فإنه استثناهم، فقال عزّ وجلّ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج: 19 - 23].
والصلاة شعار النبيين، وصفة المتقين، قال تعالى عن إبراهيم ولوط ويعقوب وإسحاق: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ) [الأنبياء: 73].
فذكر الخيرات كلها، وأفرد الصلاة بالذكر.
وأخبر عن إسماعيل بقوله تعالى: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) [مريم: 55].
وأخبر عن عيسى أنه قال عن ربه: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) [مريم: 31].
وفي دعاء إبراهيم الخليل له ولذريته: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا) [إبراهيم: 40].
وأمر الله بها كليمه موسى بقوله تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طـه: 14].
ووعد عباده الذين يقيمون الصلاة بالأجر العظيم، فقال سبحانه: (وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف: 170].
وبالصلاة أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته قبل خروجه من الدنيا، وهو في سياق الموت، فقال عليه الصلاة والسلام: "الله الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم".
وذلك في آخر وصية أوصى بها عند موته، كما في الحديث: "وإنها آخر وصية كل نبي لأمته، وآخر عهده إليهم عند خروجه من الدنيا".
وجاء في حديث آخر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان يجود بنفسه، ويقول: الصلاة الصلاة".
فالصلاة أول فريضة فرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وآخر ما وصّى به أمته، وآخر ما يذهب من الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون منه الصلاة".
فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين، فإذا صارت الصلاة آخر ما يذهب من الإسلام، فكل شيء يذهب آخره، فقد ذهب جميعه.
وقدر الإسلام في قلب العبد كقدر الصلاة، فاحذر أن تلقى الله ولا قدر للإسلام عندك.
إذا كنت تتهاون في الصلاة في هذه الحياة، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الصلاة هي عمود الإسلام، فالإسلام لا يقوم إلا على الصلاة، كما أن البيت لا يقوم إلا على عمود يرفعه، فإذا سقط العمود سقط البيت، كذلك إذا سقطت الصلاة سقط الإسلام.
وأخبر عليه الصلاة والسلام: أن الصلاة هي الفارقة بين المسلم والكافر، فقال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمَن تركها فقد كفر".
وقال: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة".
وقد تساهل كثير من الناس اليوم في شأن الصلاة، فبعضهم يتأخر في حضوره إلى المسجد، حتى يفوته بعض الصلاة أو معظمها أو كلها.
وبعضهم يتأخر عن صلاة الجماعة، فيصلّيها وحده.
وترك صلاة الجماعة معصية عظيمة، وخسارة كبيرة، فقد وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- المتخلفين عن صلاة الجماعة بالنفاق، فقال: "أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر".
وهمَّ صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوتهم عليهم بالنار لولا ما فيها من النساء والذرية.
وجاءه رجل أعمى يطلب منه الرخصة ليصلي في بيته؛ لأنه لا يجد قائداً يقوده إلى المسجد، ويخشى من خطر الطريق، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل تسمع النداء؟" قال: نعم، قال: "فأجب، فإني لا أجد لك رخصة".
وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الذين تتثاقل رؤوسهم عن صلاة الفجر بأنه رآهم ترضخ رؤوسهم بالحجارة كلما رضخت عادت كما كانت.
ومن الناس مَن يؤخر الصلاة عن وقتها، فلا يصلّي الفجر إلا إذا استيقظ بعد طلوع الشمس، والله -تعالى- يقول في هؤلاء: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ) [مريم: 59 - 60].
ويقول تعالى فيهم: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)[ الماعون: 4 - 5].
وقد جاء تفسير إضاعة الصلاة والسهو عنها بأن معناهما: تأخيرها عن وقتها لا تركها بالكلية؛ لأن الله سمّاهم مصلّين في قوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ).
وتوعدهم بالويل والغي، وهما كلمة عذاب وهلاك، أو واديان في جهنم.
فاتقوا الله -عباد الله-، وحافظوا على الصلاة في أوقاتها مع الجماعة، ولا تكونوا من الذين ضيّعوا دنياهم وأُخراهم، فكانوا من الخاسرين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) [القيامة: 26 - 35] إلى آخر السورة.
الحمد لله على فضله وإحسانه، جعل الصلاة صلة بين العبد وبين ربه، وكفّارة لذنوبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تمسك بسنّته إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، وحافظوا على هذه الصلوات الخمس كما أمركم الله -تعالى- بقوله: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238].
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "مَن سرَّه أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهنّ، فإن الله قد شرع لنبيّكم سنن الهدى، وإنهنّ من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي المتخلّف في بيته، لتركتم سنّة نبيّكم، ولو تركتم سنّة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يُقام في الصف".
وورد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مَن حافظ على هذه الصلوات الخمس كنّ له نوراً ونجاة يوم القيامة، ومَن لم يحافظ عليهنّ لم يكن له نور ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأُبي بن خلف، تاجر الكفار بمكة.
قال العلماء: والحكمة في كونه يحشر مع هؤلاء؛ لأنه إن اشتغل عن الصلاة بملكه ورئاسته حشر مع فرعون، رأس الملوك الكَفَرة، وإن اشتغل عن الصلاة بوظيفته ووزارته حشر مع هامان وزير فرعون، وإن اشتغل عن الصلاة بماله وملذاته وشهواته حشر مع قارون الذي آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فكفر نعمة الله ولم يقبل النصيحة، فخسف الله به وبداره الأرض، وإن اشتغل عن الصلاة بتجارته وبيعه وشرائه حشر مع أُبيّ بن خلف تاجر الكفّار بمكة.
فاتقوا الله -عباد الله-، وحافظوا على صلواتكم، وداوموا عليها، لتكونوا من الوارثين: (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 11].
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله ... إلخ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي