كيف حال الجريمة اليوم في الدول التي تسمى بالمتقدمة، التي تريد أن تصدر لنا حضارتها وثقافتها؟ إننا نجد أن أزيد من ثلاثين دولة الأولى في جريمة القتل عالميا، هي من الدول غير الإسلامية، ونجد أول دولة عربية تأتي في المرتبة التاسعة والثلاثين، فكيف نتهم شرع المسلمين بالتجاوز، وأعلى مراتب الظلم والاعتداء في المجتمعات التي تدعي الالتزام بحقوق الإنسان، ومناصرة الحريات؟وبحسب إحدى الدراسات، فإن المعدل العالمي لجرائم القتل وحدها، يبلغ...
بعد أن عرفنا معاني الوسطية في الإسلام، ودورها في تميز التشريع الإسلامي، وصلاحيته للسيادة في كل زمان ومكان، وقفنا في الجمعة الماضية عند القسم الأول من الشبه التي زرعها مناوئو هذه الوسطية العادلة، الباحثون عن سبل تشويه صورة الإسلام في أعين أتباعه قبل أعدائه، وحددنا هذه الشبه في تناولهم نصوصاً شرعية، حاولوا من خلالها زرع التشكيك في نفوس الشباب، وإيهامهم أن علماء المسلمين يفهمون من هذه النصوص غير المقصود منها؛ مثل قوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)[الكافرون: 6].
وقوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[الكهف: 29].
حيث أباحوا لكل فرد حق اختيار دينه، وإمكانية الارتداد عن الدين حتى وإن كان دين الإسلام.
ومثل قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة: 185].
وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج: 78].
فيترخصون في ارتكاب المعاصي، وامتطاء المنكرات تحت ذريعة التيسير، ورفع الحرج، متذرعين بقاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات".
ومثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما النساء شقائق الرجال" [صحيح أبي داود].
الذي يجعلونه ذريعة للمطالبة بالمساواة التامة بين الرجال والنساء، ولو كانت هذه المساواة على حساب نصوص شرعية أخرى قطعية مصرحة بالمقصود.
وسنعرج اليوم -إن شاء الله تعالى- على إحدى الشبه الخطيرة، التي أرادوا بها الإمعان في اتهام الإسلام بالعنف، والخشونة، والقسوة، فقالوا:إن دين الإسلام يغلظ العقوبة على مرتكبي الجرائم، فتحكم على القاتل بالقتل، وعلى السارق بقطع يده، وعلى شارب الخمر بالجلد، وعلى الزاني المحصن بالرجم، وغير المحصن بالجلد.
وهذا في نظرهم مناف لقواعد المدنية الحديثة، التي تراعي حقوق الإنسان، وتحفظ كرامته.
فانظر كيف يطلبون الحقوق والكرامة لمن أهدر حقوق الغير، واعتسف على كرامة الغير، ولم يعر للأخلاق اعتبارًا، ولا للمجتمع حرمة، لم يحترم صغيرًا، ولم يوقر كبيرًا، بل ديدنه ترويع الآمنين، وهتك أعراض أمهات وأخوات وبنات المسلمين، ونهب ممتلكات الآمنين، وقطع الطريق على السالكين، وتلطيخ سمعة الطيبين.
فكيف لنا بربك أن نسوي بين من قال فيهم الله -تعالى-: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص: 83].
وبين من عناهم الله -تعالى- بقوله: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)[البقرة: 205].
هل يمكن أن نسوي في الحرمة بين النقيضين، بين المتقين وبين المعتدين؟ (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)[ص: 28].
كيف حال الجريمة اليوم في الدول التي تسمى بالمتقدمة، التي تريد أن تصدر لنا حضارتها وثقافتها؟
إننا نجد أن أزيد من ثلاثين دولة الأولى في جريمة القتل عالميا، هي من الدول غير الإسلامية، ونجد أول دولة عربية تأتي في المرتبة التاسعة والثلاثين، فكيف نتهم شرع المسلمين بالتجاوز، وأعلى مراتب الظلم والاعتداء في المجتمعات التي تدعي الالتزام بحقوق الإنسان، ومناصرة الحريات؟.
وبحسب إحدى الدراسات، فإن المعدل العالمي لجرائم القتل وحدها، يبلغ قرابة 7 جرائم لكل 100 ألف شخص، 36% منها وقعت في أفريقيا، و31% في الأمريكيتين، و27% في آسيا، و5% في أوروبا.
وفي إحدى هذه الدول الغربية المتقدمة جدا، نجد وزارة العدل فيها تنشر تقريرا يفيد أن200 ألف طفل يُخطفون سنويًّا عن طريق الأقارب، و 58 ألف طفل يخطفون سنويًّا عن طريق أغراب، 40% منهم يتم قتلهم، مع إحصاء 32 ألف حالة انتحار في السنة.
ثم يعيبون على ديننا أنه وضع حدودا تزجر الجاني، وتردع من يفكر في الجريمة!.
قال تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)[المائدة: 32].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "لزوال الدنيا جميعًا، أهون على الله من دم يسفك بغير حق"[صحيح الترغيب].
بل مجرد حمل السلاح بغير حقه محرم في شرع الله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من حمل علينا السلاح، فليس منا" [متفق عليه].
لا تكن تأخذُ الأمور بعنف *** من يعاني الأمور بالعنف خابا
أما جريمة الزنا التي يستعظمون عقوبتها في الإسلام، فإن التساهل في مكافحتها جعل إحدى الدول الغربية الموسومة بالعظمى، يبلغ معدلها فيها 55% بالنسبة للفئة العمرية دون 18 سنة، ويرتفع في المدن إلى 80%، وفي القرى إلى 33%، مع تسجيل 350 ألف حالة حمل بدون زواج كل سنة، وإحصاء 23% من العائلات بأم وبلا أب.
ويرتفع المعدل في المدن إلى 34%، كما نشرت وزارة العدل في ذلك البلد سنة 1994م تقريرًا سجل عشرة آلاف حالة اغتصاب نساء بالإكراه، منهن 3800 تحت 12 سنة.
ومن أخطر الاعترافات في هذا البلد المتقدم جدا: أن 20% من هؤلاء الفتيات اغتصبن بواسطة آبائهن، و26% اغتصبن من قِبَل أقاربَ لهن، و51% منهن اغتصبن بواسطة معارفِ وأصدقاءِ العائلة، و4% فقط من طرف مجهولين.
وفي أوربا، يتم الاحتفال بالمواليد غير الشرعيين، الذين بلغوا في أحد البلدان هناك إلى أزيد من 60%، بل إن أحد رؤسائهم احتفل سنة 1967م بحفيده غير الشرعي من ابنته.
وكيف نستغرب ذلك و 65% هناك من الشباب بين 16 إلى 19 سنة يمارسون الجنس خارج حدود الزواج، 53% منهم مدمنون على شرب الخمر أم الخبائث، مما كانت نتيجته الحصولَ على 170 فتاة تحت 17 سنة تحمل سفاحًا كل أسبوع.
وانتشر هذا، حتى في بعض مجتمعاتنا الإسلامية، حيث صرنا نسمع برجال يتفاخرون في مجالسهم بأن لهم كذا وكذا من الخليلات، ويتباهون بفحولتهم التي يُصرِّفونها في الحرام، مع أن كثيرا منهم متزوجون، محصنون.
أَوَ نستكثر بعد ذلك أن يرجم الزاني الذي له زوجة تحصنه، أو الزانية التي تخون زوجها، وتجلب لأسرتها العار الذي لا يمحوه الزمان، ولا يُعَفِّي أثرَه الحدثان؟ وأن يجلد الزاني والزانية غير المحصنين مائة جلدة، جزاء الفساد في الأرض، وتفكيكِ أواصر الأسر، وإشاعةِ ثقافة الفاحشة والميوعة؟ وهل المصدر الأكبر لمرض السيدا الذي يحصد كل عام أزيد من 4 ملايين إلا الزنا والشذوذ؟ فكيف نأسى على التخلص من زان محصن، ولا نأسى على ملايين يموتون كل سنة بسبب الفاحشة والفساد؟ وعلى آلاف الأطفال الذين يلقى بهم في الشوارع وعلب القمامة، بسبب الإجهاض السري الآثم، المترتب على العلاقات غير الشرعية، حتى سجلت الدراسات أزيد من 43 مليون حالة إجهاض في العالم، مع الإلقاء بالكثير من الأحياء منهم في الملاجئ ودور اللقطاء، حيث يستعيضون عن حنان الآباء الذي فقدوه بالعدوانية، والأنانية، وحب الانتقام.
أما التساهل في عقوبة السرقة، فقد جعل كثيرا من الناس غير مطمئنين على أموالهم، وممتلكاتهم، وعقاراتهم، وشركاتهم، واستثماراتهم، وحل هاجس الخوف محل الثقة التي يجب أن تكون أصلا في المسلم، الذي يعلم أن محبة الله له تقتضى زهده في ما ليس له، وأن لا يلتفت إلى ما في يد غيره، وأن لا يطمع في أخذ ما لا يستحقه.
وكان الرجل يستنكف عن السرقة خوفا من الله أولا، ثم خوفا من العقاب الدنيوي ثانيا، فعاش الناس لذة الطمأنينة، وذاقوا حلاوة السعادة، حتى كان أحدهم يضيع منه الدينار في الطريق، فيرجع بعد أيام فيجده مكانه.
ولنتساءل بعد هذا: كم من الحدود الشرعية طبقت في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين؟
إنها لم تتجاوز أصابع اليد، وكانت كلها خيرا للمجتمع المسلم، الذي كسته الطهارة، ودبت في أوصاله السلامة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حد يعمل به في الأرض، خير لأهل الأرض من أن يُمطَروا أربعين صباحا" [صحيح ابن ماجة].
فإذا نظرت في زمن الحريات، والتجاوزات، والمحاباة، ألفيت 50 إلى 100 مليون دولار، تفقدها البلدان النامية وحدها سنويا، بسبب السرقة والفساد المالي.
إننا في هذا الزمان لفي أمس الحاجة إلى التشريع الإسلامي، لمعالجة هذه الظواهر المسيئة للإنسانية، والتخلص من هذه الموبقات التي حارت فيها العقول، وصُدمت من هولها النفوس.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" [صحيح الجامع].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي