موقف الحساب ومحاسبة النفس

عبدالله بن حسن القعود
عناصر الخطبة
  1. من مواقف القيامة   .
  2. الشهود على العبد يوم القيامة   .
  3. من أسئلة الموقف في ذلك اليوم .
  4. أعمال يتقى بها الحساب   .
  5. آخذٌ كتابه بيمنيه وآخر بشماله .

اقتباس

اتّقوا ذلكم الموقف الذي ستقدَّمون فيه للمسألة والمحاسبة، وسيُوقَف كلّ منكم فيه بين يدي الله مُتخلِّياً عنه فيه أقربُ قريب وأصدق صديق، كما قال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:34-37], موقفاً تُغَلُّ فيه أيدي الوُلاة في الثريّا لا يُطلِقُها إلاَّ عدلُهم، ويُنشر فيه لكُلِّ غادرٍ لواء...

الخطبة الأولى:

الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين, أحمد -سبحانه- لا يَظلم مثقال ذرة وإن تكُ حسنة يُضاعفها, ويؤتِ من لدنُهُ أجراً عظيماً، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمّداً عبدهُ ورسوله, صلّى الله وباركَ عليه, وعلى آله وأصحابه وأتباعه, وسلَّم تسليماً كثيراً.

أَمَّا بعد:

فيا عباد الله: اتَّقوا الله (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) [البقرة:281] اتّقوا يوماً يوضع فيه الكتاب وتلاقون فيه الحساب، يوماً يُنشر لكم فيه واضحاً ملفُّ أعمالكم, وديوان حصيلتكم من خير أو شر, (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف:49] ووضع الكتاب: إظهار صحف الأعمال, وإعطاء كلِّ امرئٍ كتابه, وإبرازُ سُجِّل ما له فيه، يقرأه وإن لم يكن قارئاً: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الاسراء:13-14] وحسيباً بمعنى محاسباً وشاهداً على الإنسان فيما لو قدر أن ينكر شيئاً مّما سُجِّلَ عليه من ذنوبٍ وخطايا: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يّـس:65].

روى الإمام مسلم عن أنس -رضي الله عنه- قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضحك فقال: "هل تدرون مما أضحك؟", قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "من مخاطبة العبد ربّه فيقول: "يا رب ألَم تُجِرني من الظلم؟", فيقول -سبحانه-: "بلى". فيقول: إنّي لا أُجيز اليوم شاهداً إلاَّ مِنّي. فيقول تعالى: (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الاسراء:14], والكرام الكاتبين عليك شهوداً, فيختم على فيه، ويقول لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله، ثم يُخلّى بينه وبين الكلام فيقول: بُعداً لكُنَّ وسُحقاً، فَعَنكُنَّ كُنتُ أُناضل" يقول -سبحانه-: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [فصلت:20].

فاتَّقوا الله -يا عِبادَ الله- اتّقوا ذلكم اليوم العظيم والهول الجسيم، اتّقوا ذلكم الموقف الذي ستقدَّمون فيه للمسألة والمحاسبة، وسيُوقَف كلّ منكم فيه بين يدي الله مُتخلِّياً عنه فيه أقربُ قريب وأصدق صديق، كما قال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:34-37], موقفاً تُغَلُّ فيه أيدي الوُلاة في الثريّا لا يُطلِقُها إلاَّ عدلُهم، ويُنشر فيه لكُلِّ غادرٍ لواء، فيُقال: هذه غدرة فلان ابن فلان، ولا تزول قدم امرئٍ فيه حتَّى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن عِلمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه.

فاتّقوا ذلكم الحساب بمحاسبة نفوسكم قبل أن تُحاسَبوا، وبِوزنِها قبل أن تُوزَنوا. يقول عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- ويروي حديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الكَيِّس مَن دان نفسَه وعمل لِما بعد الموت، والْعاجز مَن أَتبع نفسَه هواها وتمنّى على الله الأماني".

اتَّقوا ذلكم الحساب باتّقاء محارم الله والوقوف عند حدوده وامتثال أوامره، فإنه -والله- بعد ذلكم الحساب إمَّا فرحة لا حزن بعدها نعيم أبدي، وإمَّا ترحة لاسرور بعدها عذاب سرمدي.

فبعد الحساب وقراءة الكتاب ينقسم النّاس قسمين:

مسروراً يتلألأ وجهه حبوراً وبهجة, آخذاً كتابه بيمينه, يرفعه لمن حوله قائلاً: (هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ) [الحاقة: من الآية] أي: هلُّموا تعالوا انظروا حسن نتيجة محاسبتي، ونقاءَ صحيفتي، وما تقرّر في مصيري النّهائي (هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ *  كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:19-24].

وآخَر حزِناً يتحسّر من فشله في المحاسبة ويدعو بالويل والثبور مُتحسِّراً ومتوجِّعاً على عظيم مال وكبير سلطانٍ لم ينفعاه، ويتمنّى أنَّه لم يَرَ صحيفة أعماله، وألاَّ يراها أحد، قوله: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة:25-29].

وإنَّ فيما تُشاهدونه في أيَّام الاختبارات, وخروج نتائج الامتحانات, مما يبدو على وجوه الطلبة من فرح وانطلاقة, أو حزن وانكماش؛ لنموذجاً ورمزاً مصغّراً يذكّر بالحساب الأكبر, والنتائج الْعُظمى التي لا استئنافَ فيها ولا تمييز, أو اعتراض عليها، فهو حُكْم أَحكم الحاكمين وأَعْدل العادلين الذي لا تخفى عليه خافية.

روى مسلم وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوماً لأصحابه: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أُمّتي مَن يأتي يومَ الْقيامة بصلاة وصيام وزكاة, ويأتي وقد شتَم هذا, وقذفَ هذا, وأَكل مالَ هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا, فيُعطى هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإن فنَيتْ حسناته قبل أن يقضي ما عليه, أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طُرح في النار".

أقول قولي هذا، وأسألُ الله تعالى أن يجعلنا ووالدينا ممن يُحاسَبون حساباً يسيراً وينقلبون إلى أهليهم مسرورين. إنَّه تعالى غفور رحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضاه، أحمده تعالى وأشكره، وأَشْهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، شهادةً أَرجو بها النجاة يوم نلقاه، يوم يبعثَر ما في القبور ويحصّل ما في الصدور، وأَشهدُ أنَّ سيّدنا ونبيَّنا محمداً عبده ورسوله, صلّى الله وبارك عليه وعلى آله وأَصْحابه وأتباعه, وسلَّم تسليماً كثيراً.

أَما بعد:

فيا أيُّها النَّاس: اتّقوا الله حقَّ تُقاته، ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا، واعلموا أن أصدق الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي رسول الله، وشر الأمور مُحْدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة.

وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذّ عنهم شذ في النَّار، وصلّوا على أَكرم نبي وأعْظم هادٍ فقد أمركم الله بذلك في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنَفاء؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر أصحاب رسولك وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.

اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين وأذِل الشرك والمشركين, ودمِّر أعداء الدين, وانصرُ عبادك الموحِّدين.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات, وأَلِّف بين قلوبهم, وأَصلح ذات بينهم, وانصرهم على عدوّك وعدوهم, واهدهم سبل السلام.

اللهم أصلح ولاة أُمور المسلمين؛ اللهم أَرِهم الحق حقا وارزقهم اتّباعه، والبَاطِلَ باطلاً وارزقهم اجتنابه. اللهمَّ ارزقهم البطانة الصالحة التي تذكِّرهم إذا نسوا وتعينهم على نوائب الحق؛ يا ربّ العالمين.

اللهمّ أَقم علَم الجِهاد، واقمع أَهلَ الشِّرك والزيغ والفساد، وانشر رحمتك على العباد.

اللهم إِنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطَن، اللهم آمِنّا في أوطاننا, واستعمل علينا وعلى سائر المسلمين في كل زمان مكان من يخافك ويتّقيك يا ذا الجلال والإِكرام.

اللهم إنّا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحوُّل عافيتك وفجأةِ نقمتك وجميع سخطك.

ربنا اغفرْ لنا ولإِخواننا الذين سبقونا بالإِيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا، ربنا إنَّك رءوف رحيم. ربنا لا تُزِغْ قلوبنا بعد إذْ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمةً إنَّك أنت الوهاب.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذابَ النَّار.

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلَّكم تذكَّرون. فاذكروا الله عظيم الجليل يذكُرْكم، واشكروه على نعمه يزدْكم ولَذِكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي