أخبر سبحانه: أن المؤمنين الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين يسعدون ويفوزون ويفلحون، وهذا يدل على أن من لم يتصف بها فهو خاسر، كما قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين: 4 - 6]. وقال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 1- 3]. فأخبر سبحانه في هذه الآيات: أن كل إنسان خاسر إلاّ...
الحمد والله رب العالمين، حكم بالفلاح لأهل الإيمان، وبالخسارة لأهل الكفر والطغيان، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيّته، وما له من العظمة والسلطان، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله، أنزل عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل العلم والإيمان، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-.
وتأملوا ما ذكره الله في كتابه من صفات المؤمنين، لتأخذوا منها القدوة، ومن ذلك: ما ذكره الله -تعالى- في مطلع سورة المؤمنون بقوله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).
(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 1- 11].
وقد بيَّن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أهمية ما ذكر في هذه الآيات في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لقد أنزل عليَّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة" ثم قرأ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون: 1] حتى ختم العشر.
وروى النسائي بسنده عن عائشة -رضي الله عنها- لما سئلت عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان خلقه القرآن" فقرأت: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون: 1] حتى انتهت إلى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [المؤمنون: 9] فقالت: "هكذا خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
تعني رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يعمل بهذه الآيات، ويتصف بما تضمنته من الصفات الحميدة.
وقد أخبر سبحانه أن المؤمنين الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين يسعدون ويفوزون ويفلحون، وهذا يدل على أن من لم يتصف بها فهو خاسر، كما قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين: 4 - 6].
وقال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 1- 3].
فأخبر سبحانه في هذه الآيات: أن كل إنسان خاسر إلاّ من اتصف بالإيمان، والعمل الصالح، ودعا إلى الخير ونهى عن الشر، وصبر على ما يناله من الأذى في مقابل ذلك من الناس.
وقوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون: 2].
وفي ختام الآيات، قال سبحانه: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)[المؤمنون: 2].
فيه دليل على أهمية الصلاة، ومكانتها في الدين.
وتصدرها لصفات المؤمنين؛ لأنها عمود الإسلام، والناهية عن الفحشاء والآثار، وتسهل فعل الطاعات، كما قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ) [البقرة: 45].
وفي المحافظة عليها محافظة على ما سواها من واجبات الدين من باب أولى.
وهي أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة من عمله.
والخشوع فيها يعني حضور القلب واستحضاره لعظمة الله، وذله بين يديه، وسكون الجوارح عن الحركات المخالفة لأعمال الصلاة.
والخشوع في الصلاة هو روحها، والمقصود منها، ولا يكتب للعبد من صلاته إلاّ ما عقل منها.
وفي انشغال القلب بغير الصلاة التفات به عن الله إلى غيره.
وفي حركة الجوارح والعبث بها سوء أدب مع الله.
وفي نظر المصلي إلى يمينه وشماله التفات بوجهه عن الله، وهو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد، وهو دليل على التفات قلبه، وفي نظره إلى غير موضع سجوده مما أمامه انشغال عن صلاته وذهاب لخشوعه.
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون: 3].
اللغو، هو الباطل، وهو يشمل الشرك، وسائر المعاصي، ويشمل ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال.
فهم معرضون عن الباطل بجميع أنواعه، ومنشغلون بالحق، فلا يستمعون إلى السماع بالباطل من غيبة ونميمة، ومن أغان ومزامير وخيمة، ولا ينظرون إلى الباطل الذي يعرض في أفلام الخلاعة والمجون، ولا يحضرون مجالس اللهو واللغو، وفعل المحرمات، ولا يطيعون الدعاة إلى الباطل مهما زخرفوا الدعاية، وعرضوا باطلهم في التلفاز والفيديو والإذاعات، وفي الصحف والمجلات، ولا يمشون لحضور الباطل الذي يعرض في دور اللهو والمسارح الأثيمة.
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) [المؤمنون: 4].
الزكاة، الطهارة والنمو.
فهم يزكون أنفسهم، بفعل الطاعات، وترك المحرمات، ويزكون أموالهم بإخراج ما فيها من الحقوق والواجبات،، ويزكونها بمنع دخول المكاسب الخبيثة.
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون: 5 - 7].
أي حفظوا فروجهم من الاستمتاع المحرم، فلا يقعون فيما حرَّم الله من زنا ولواط، واقتصروا على ما أباح الله لهم من الاستمتاع بزوجاتهم، ومملوكاتهم، وابتعدوا عن كل أسباب الجرائم الخلقية، فغضوا أبصارهم عن النظر الحرام، واحتشموا باللباس الساتر للعورات، وعزلوا النساء عن الاختلاط بالرجال، وعن خلوتهن وسفرهن مع غير المحارم، وعن النظر إلى الأفلام الخليعة، والمشاهد المثيرة.
ثم بيَّن سبحانه: أن من لم يكتفِ بما أحلَّ الله من الاستمتاع بزوجته وسريته، بل تطلع إلى الاستمتاع بالحرام، أو باشر الفحش والإجرام.
فهو العادي الذي يستحق من الله العقوبة والانتقام، فقال تعالى: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون: 7].
وقد استدلّ العلماء -رحمهم الله- بهذه الآيات الكريمة على تحريم الاستمناء باليد، وهو ما يسمى ب"العادة السرية"؛ لأنه استمتاع بغير الزوجة والمملوكة، فيدخل في قوله تعالى: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون: 7].
وهو استدلال صحيح، وحق صريح.
مع ما في الاستمناء باليد من المضار الصحية التي بينها الأطباء، ومن أخطرها: تأثر الجهاز التناسلي، والإصابة بالخبل، واختلال العقل والأعصاب.
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون: 8].
الأمانات، جمع أمانة، وهي كل ما استحفظ عليه الإنسان من واجبات دينية، وحقوق مالية، وأعمال سرية، وولايات سلطانية، وودائع ورعاية على قصار، وغير ذلك.
فيجب على ولي الأمر إسناد الولايات إلى من يحسن القيام بها.
ويجب على الموظفين والحكام والحكم بما أنزل الله بين الناس والقيام بأعمالهم الوظيفية على وجه التمام.
ويجب على كل من عنده لأخيه وديعة، أو سر من الأسرار، المحافظة على ذلك، وأداءه إلى من ائتمنه، كما أمر الله بذلك، حيث قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء: 58].
وقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك".
فرعاية الأمانة، تعني: حفظها وأداءها إلى صاحبها بالوفاء والتمام.
والعهد، هو الميثاق الذي يبرم بين العبد وبين ربه، وبينه وبين ولي الأمر، وبينه وبين سائر الناس.
فتجب رعاية العهد بالوفاء به، ويحرم نكثه، والغدر به، قال تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ) [النحل: 91].
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [المؤمنون: 9].
ختم سبحانه الآيات بما ابتدأها به في شأن الصلاة، مما يدل على أهمية الصلاة.
ومعنى المحافظة على الصلاة: أداؤها على الوجه الذي أمر به الله أن تؤدى عليه، من كمال الطهارة، واستكمال شروطها وأركانها وواجباتها، وفي أوقاتها المحددة، وفي الأمكنة التي أمر الله بأدائها فيها، وهي المساجد مع جماعة المسلمين، فمن أخلَّ بشيء من هذه الأحكام من غير عذر شرعي لم يكن محافظاً على الصلاة، بل كان من المضيعين لها الذين قال الله فيهم: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم 59].
ومن الذين قال الله فيهم: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون: 4 - 5].
فانظر كيف سماهم مصلين، وتوعدهم مع ذلك بالويل؛ لأنهم لم يصلوا على الوجه المشروع.
ثم ختم الله سبحانه هذه الآيات الكريمة ببيان جزاء من اتصفوا بهذه الصفات الإيمانية المذكورة فيها، فقال: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 10 - 11].
وقد صحَّ في الحديث عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أن الفردوس هو أعلى الجنة، ووسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة، فهو أحسن مكان في الجنة".
ثم بيَّن سبحانه: أن مقامهم في هذا الفردوس دائم مستمر، فلا يخافون من زواله وانتقاله إلى غيرهم، ولا يخافون من زوالهم عنه، وإخراجهم منه.
نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا منهم بمنّه وكرمه.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي