إن شهر الصيام شهرُ كَبْحِ جماح الغضب، وتوازن الانفعالات، وتهذِيب الأخلاق، شهر الصيام يربي على ضبط النفس، والإحسان في التعامل مع الناس، يقول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "..وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ...
إِنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]. (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أيها المسلمون: إنَّ الله تعالى شرع صيام شهر رمضان وجعل الغاية منه أن يترقى العبد فيه؛ بأخلاقه وتعاملاته حتى يكمل إيمانه, ويبلغ أعلى مراتب التقوى، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183] و"أكْمَلُ المُؤمِنِينَ إيمَاناً أحْسَنُهُمْ خُلُقاً" [رواه أحمد وأبوداود ابن حبان والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وصححه الألباني في صحيح الجامع].
لذا فإن الحبيب -صلى الله عليه وسلم- كان من أحسن الناس خُلُقاً، فقال عنه ربه -سبحانه-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، وكان -صلى الله عليه وسلم- أكرمُ الناس تعاملاً، وأعظمهم تواضعًا، وأجملهم ولفظًا ومنطقًا، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنه- قَالَ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "إِنَّ مِنْ أَخْيَرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ خُلُقًا" [رواه البخاري].
وإن بعض الناس سريع الانفعال، وفي طباعه حِدَّة، فتراه يغضب لأقل الأسباب، ولا يملك نفسه فيثور لأدنى سبب، وإذا غضب أطلق لسانه بما يضيع عليه أجر صيامه، وقد قال الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" [رواه البخاري].
وأمر الحبيب -صلى الله عليه وسلم- بضبط الانفعالات وكتم الغضب، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَوْصِنِي" قَالَ: "لاَ تَغْضَبْ" فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: "لاَ تَغْضَبْ" [رواه البخاري في صحيحه].
أيها الصائمون: إن شهر الصيام شهرُ كَبْحِ جماح الغضب، وتوازن الانفعالات، وتهذِيب الأخلاق، شهر الصيام يربي على ضبط النفس، والإحسان في التعامل مع الناس، يقول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "..وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائمٌ .." [متفق عليه].
عباد الله: إن بعض الناس لم يستفد من صيامه في ضبط انفعالاته، وتهذيب أخلاقه، فتراه يجادل ويخاصم، ويسبَّ ويشتم، بل حتى إنه يَلْعَن، وهذا أمرٌ خطير. والحبيب -صلى الله عليه وسلم- حذَّر من اللعن، بل نهى عنه وحرَّمَه، فقال: "ولَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ" [متفق عليه]، أي أنهما في عِظَمِ الجُرْم والإثم سواء.
ونفى الحبيب -صلى الله عليه وسلم- عن المؤمنين هذه الخصلة الذميمة فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ، وَلاَ اللَّعَّانِ، وَلاَ الفَاحِشِ، وَلاَ البَذِيِّ" [رواه الترمذي]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أنْ يَكُونَ لَعَّاناً" [رواه مسلم] وعن أبي هريرة وفي رواية عن أبي الدرداء قال -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَكُونُ اللَّعَانُونَ شُفَعَاءَ، وَلاَ شُهَدَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ".
أخي الصائم: إنَّ العبد قد يسُبُّ نفسَه، وقد يَلْعَنُها وهو لا يشعر، ففي سنن أبي داود وحسنه الألباني, عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا (فجعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- نكرة لتعُمَّ وتشمل كلَّ شيء من إنسان أو حيوان، أو نبات أو جماد، أو غيرها)، صَعِدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهِبْطُ إِلَى الأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالاً، فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا (أي مدخلاً وطريقاً تسلُكُه) رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لُعِنَ، فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلاً (يعني أصابته)، وَإِلاَّ رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا"، فيكون قد لعن نفسه من غير أن يَشْعُر.
فاتق الله -أيها الصائم- واجتنب الخصام والجدال، واحذر من الغضب وسرعة الانفعال، واضبط انفعالاتك، وامسك عليك لسانك، وكن ممن امتدحهم ربك الرحمن فقال فيهم: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى: 37] وقال: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134]. أحسن الله إليك وحفظ عليك صيامك وغفر ذنبك.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وحافظوا على صيامكم وصلاتكم، فإن الله تعالى قال: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238].
وإن من المحافظة على الصلاة التَّجَمُّل لها بما يستطيع العبد من ثيابِ وطيبِ وسِواك بدون إسراف ولا مخيلة، فقد قال -جل في علاه-: (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31] وعن ابنِ عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إذا صلَّى أحدُكم فليبَس ثوبَيه، فإنَّ الله أحقُّ مَنْ يُتَزَيَّنُ له" [رواه البيهقي، وصححه الألباني].
فلا يجوز للمسلم أن يصلِّيَ في ثوبٍ رقيق خفيف يَشفّ عمَّا تحته، أو ضيّقٍ يجسد العورَة ويكشف عنها، ولا قصيرٍ ينحسر عن السَوأَة. وقد ابتلينا في أعقاب الزمان باللباس الإفرنجي، وهو ما يعرف بالبنطالون، وقد عمت البلوى بلبسه في كثير من أطياف المسلمين، ولبسه أبنائنا، وتُلْبَس معه القُمُص القصيرة، فينكشف جزء من عورة المصلي من خلفه إذا ركع أو سجد، من جهة الظهر أو من خلف الركبة.
قال الإمام ابن عبدالبر: "أجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار وصلى عريانًا، فلا خلاف في وجوب ستر العورة في الصلاة، وبحضرة الناس، وفي الخلوة على الصحيح، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ" قال: قُلْتُ: يا رسول الله! أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ قَالَ: "إِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تُرِيَهَا أَحَدًا، فَلَا تُرِيَنَّهَا" قُلْتُ: يا رسول الله، فَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: "فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ" [رواه أصحاب السنن وأحمد، وغيرهم، وحسنه الألباني].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي