إن للمحبين عند ظلام الليل عند الله -سبحانه وتعالى- نشاطا، وبينهم وبينه انبساطا، شغلهم الأنس بمعبودهم عن لذة الكرى، وقطعهم الشغل به عن جميع الورى، ولا يؤثرون على مناجاته مناما، ولا يختارون على كلامه كلاما...
الحمد لله المتفرد بالعز والجلال, المتفضل بالعطاء والإفضال, مسخر السحاب الثقال, مربي الزرع تربية الأطفال, جل عن مثل ومثال, وتعالى عن حكم الفكر والخيال, قديم لم يزل ولا يزال, يتفضل بالإنعام فإن شكر زاد وإن لم يشكر أزال (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ) [سبأ: 15].
أحمده على كل حال, وأصلي على رسوله محمد أشرف من نطق وقال, وعلى صاحبه أبي بكر الصديق باذل النفس والمال, وعلى عمر الفاروق العادل فما جار ولا مال, وعلى عثمان الثابت للشهادة ثبوت الجبال, وعلى علي بطل الأبطال, وعلى الآل والصحب الأفضال, وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فهي لوائكم وإمامكم (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها القانتون: أيامٌ نيراتٌ, ولحظات بالخير ثاغراتٌ, وساعات بالنفحات وافراتٌ, أنسُ الخلوات, وراحة الفلوات، والقانتون في ساعات الليل أقدامهم إلى الخيرات سابقاتٌ, وأيديهم بالجود باذلاتٌ, ونبيكم أجود من الريح المرسلة بالصدقات. قال بعض السلف: "إني لأفرح بالليل حين يقبل، لما يلتذ به عيشي، وتقرُّ به عيني من مناجاة مَنْ أحب وخلوتي بخدمته والتذلل بين يديه، وأغتم للفجر إذا طلع، لما اشتغل به بالنهار عن ذلك", وقيـل لمالك بن مغفـل -وهو جالس في بيته وحده-: ألا تستوحش؟ قال: "أَوَ يستوحش مع الله أحد؟" وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول: "من لم تقرَّ عينه بك فلا قرت عينه، ومن لم يأنـس بك فلا أَنِـس".
أيها التائبون: سبحان من وفق للتوبة أقواما، ثبت لهم على صراطها أقداما، كفوا الأكف عن المحارم احتراما، وأتعبوا في استدراك الفارط عظاما، فكفر عنهم ذنوبا وآثاما، ونشر لهم بالثناء على ما عملوا أعلاما، فهم على رياض المدائح بترك القبائح يتقلبون، التائبون العابدون.
كشف لهم سجف الدنيا فرأوا عيوبها، وألاح لهم الأخرى فتلمحوا غيوبها، وبادروا شمس الحياة يخافون غيوبها, وأسبلوا من دموع الأجفان على تلك الأشجان غروبها، واشتغلوا بالطاعات فحصلوا مرغوبها، وحثهم الإيمان على الخوف فما يأمنون، التائبون العابدون.
ندموا على الذنوب فندبوا، وسافروا إلى المطلوب فاغتربوا، وسقوا غرس الخوف دمع الأسف وشربوا، فإذا أقلقهم الحذر طاشوا وهربوا، وإذا هب عليهم نسيم الرجاء عاشوا وطربوا، فتأمل أرباحهم وتلمح ما كسبوا، واعلم أن نيل النصيب بالنصب يكون، التائبون العابدون.
نظروا إلى الدنيا بعين الاعتبار، فعلموا أنها لا تصلح للقرار، وتأملوا أساسها فإذا هو على شفا جرف هار، فنغصوا بالصيام لذة الهوى بالنهار، وبالأسحار هم يستغفرون، التائبون العابدون.
هجروا المنازل الأنيقة، وفصموا عرى الهوى الوثيقة، وباعوا الفاني بالباقي وكتبوا وثيقة، وحملوا نجائب الصبر فوق ما هي له مطيقة، وطلبوا الآخرة والله على الحقيقة، هكذا يكون التائبون العابدون.
أبدانهم قلقى من الجوع والضرر، وأجفانهم قد حالفت في الليل السهر، ودموعهم تجري كما يجري دائمة المطر، والقوم قد تأهبوا فهم على أقدام السفر، عبروا عليكم ومروا لديكم وما عندكم خبر، وترنمت حداتهم لو أنكم تسمعون، التائبون العابدون.
عباد الله: النظر النظر إلى العواقب, فإن اللبيب لها يراقب, أين تعب من صام الهواجر؟!, وأين لذة العاصي الفاجر؟!, رحلت اللذة من الأفواه إلى الصحائف, وذهب نصب الصالحين بجزع الخائف, فكأن لم يتعب من صابر اللذات وكأن لم يلتذ من نال الشهوات.
يا معشر التائبين: صوموا اليوم عن شهوات الهوى؛ لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء, لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل, فإن معظم نهار الصيام قد ذهب, وعيد اللقاء قد اقترب.
أيها المتقون: إن للمحبين عند ظلام الليل عند الله -سبحانه وتعالى- نشاطا، وبينهم وبينه انبساطا، شغلهم الأنس بمعبودهم عن لذة الكرى، وقطعهم الشغل به عن جميع الورى، ولا يؤثرون على مناجاته مناما، ولا يختارون على كلامه كلاما، عرفه من عرفه، وذاقه من ذاقه، واستأنس به من استطابه.
ألذُ العيش الأنس بالله، قيل لذي النون ما علامة الأنس بالله؟ قال: "إذا رأيته يوحشك عن خلقه فإنه يؤنسك من نفسه، وإذا رأيته يؤنسك من خلقه فإنه يوحشك من نفسه", وقال ابن يزدانيار: "إياك أن تطمع في الأنس بالله وأنت تحب الأنس بالناس، وإيَّاك أن تطمع في حبِّ الله وأنت تحب الفضول, وإيَّاك أن تطمع في المنزلة عند الله وأنت تحب المنزلة عند الناس". قال بعض أحبار بني إسرائيل: "يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني؟" فقيل له: "كم أعاقبك ولا تدري، أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟".
أيها الخائفون: أقبلت العشر الجواهر, عشر الخير الوافر, والأجر الزاهر, والليل الساهر, جاءت عشر الاعتكاف والخلوات, لاحت عشر الجود والبركات, عشر الريح المرسلة والصدقات, عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن, فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة", (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ) [إبراهيم: 31], (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38], (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً) [الرعد: 22], كانوا إذا قدروا على السر لم يخرجوا الصدقة علانية؛ لأن صدقة السر تزيد على العلانية سبعين ضعفا.
يا مقصرا في أعماله بخيلا بماله، لا تسألوا عن حاله يوم ترحاله، يا دائم الخسران فما يربح، يا مقيما على المعاصي ما يبرح، متى رأيت من فعل فعلك أفلح، تقبل من العدو ولا تقبل ممن ينصح، قم على قدم الطلب فاقرع الباب بالأدب يفتح، صاحب أهل الخير تكن منهم، واستفد خصالهم وخذ عنهم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي