يا من ضيَّع عمره في غير الطاعة, يا من فرّط في شهره بل في دهره وأضاعه, يا من بضاعته التسويف والتفريط وبئست البضاعة, يا من جعل خصمه القرآن وشهرَ رمضان كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة؟.. رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش, وقائمٍ حظه من قيامه السهر, كل قيام لا ينهى عن الفحشاء والمنكر لا يزيد صاحبَه إلا بعداً, و كل صيام لا يُصان عن قول الزور والعمل به لا يورث صاحبه إلا مقتًا وردًّا, يا قوم أين آثار الصيام؟! أين أنوار القيام؟!...
الحمد لله الذي جعل شهر رمضان غُرَّة وجه العام، وأجزل فيه الفضائل والإنعام، وشرف أوقاته على سائر الأوقات وفضل أيامه على سائر الأيام، وخصه على سائر الشهور بمزيد من الفضل والإكرام، وعَمَر نهاره بالصيام، ونوَّر ليله بالقيام، أحمده وأشكره على إحسانه العام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المُتفرد بالكمال والدوام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام، وأتقى من تَهجد وقام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه هداة الأنام، ومصابيح الظلام, وسلَّم تسليماً كثيراً.
أَمَّا بَعْدُ: ست عشرة ليلة مضت من عمر هذا الشهر الكريم.. ست عشرة ليلة مضت وانقضت.. ولن تعود.
ست عشرة ليلة.. أشعلت فيها المصابيح.. وعمرت المساجد بالتراويح.. وتسابق الناس لفعل الخير وترك القبيح..
ست عشرة ليلة.. فتحت فيها أبواب الجنة.. وغلقت فيها أبواب النار.. وصفدت فيها الشياطين.. فمن أحسن فيها فليحمد الله.. ومن فرط فلا يلومنَّ إلا نفسه.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. هذه الأيام.. من أجمل أيام العام.. النفس فيها إلى الخير مقبلة.. وعن الشر مدبرة.. رياح الخير تأتي فيها بالنفحات.. فموازين أهل الطاعة تملأ بالحسنات.. فهنيئًا لهم الفوز بالطاعات.
رمضان.. وما أدراك ما رمضان.. رمضان المتقين عبادة وطاعة وحلاوة.. فله لذة وسعادة لا يعرفها أهل الشقاوة..
كان الصالحون يستبشرون برمضان.. فهذا سيد الصالحين -صلى الله عليه وسلم- كان يبشر أصحابه بدخول رمضان فيقول: "أتاكم رمضان.. شهر مبارك.. فرض الله عليكم صيامه.. تفتح فيه أبواب السماء, وتغلق فيه أبواب الجحيم, وتُغلُّ فيه مردة الشياطين, لله فيه ليلة خير من ألف شهر, من حرم خيرها فقد حرم" (رواه النسائي).
يا الله.. ليس من شهور السنة شهر يبشر بمقدمه إلا رمضان.. فكيف كانت أحوال الصالحين في رمضان؟
اسمحوا لي أن أفتح معكم اليوم صفحة من صفحات التاريخ, نطلع فيها على أحوال رجال عرفوا قدر رمضان, فبذلوا فيه جهدهم, واستفرغوا فيه وسعهم, ليحظوا بالفضل العظيم والأجر الجزيل.
ولنفتح صفحة من صفحات أحوالهم مع كتاب الله عز وجل, فهذا قتادة -رحمه الله- كان يختم القرآن في غير رمضان في كل سبع ليال, فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث, فإذا جاءت العشر ختم في كل ليلة.
وعن محمد بن زهير قال: كان أبي ــ وهو زهير بن محمد بن قمير ــ يجمعنا في وقت ختمه للقرآن في شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث مرات, يختم تسعين ختمة في رمضان.
وعن الربيع بن سليمان -رحمه الله- من عدة طرق عنه قال: "كان الشافعي -رحمه الله- يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة", ورواها ابن أبي حاتم عنه وزاد: كل ذلك في صلاة.
قال أبو بكر بن الحداد: أخذت نفسي بما رواه الربيع عن الشافعي أنه كان يختم في رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلاة, فأكثر ما قدرت عليه تسعًا وخمسين ختمة, وأتيت في غير رمضان بثلاثين ختمة.
وعن مسبح بن سعيد -رحمه الله- قال: "كان محمد بن إسماعيل ــ يعني البخاري -رحمه الله- ــ يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة, ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليال بختمة".
ومما نقل عن الشيخ أحمد بن عبدالعزيز العصيمي المتوفى عام 1433هـ أنه كان يختم في كل أسبوع ختمة, وفي رمضان كل أسبوع ختمتين.
وروي عن الشيخ أحمد بن عبدالعزيز الخضيري المتوفى عام 1405هـ أنه كان يختم القرآن كل يوم, وفي رمضان يختم ستين ختمة, وكان -رحمه الله- يدخل الحرم مع هلال رمضان, ولا يخرج منه إلا إذا أكمل صيام الست من شوال.
وكان الشيخ أسعد محيي الدين الحسيني المتوفى سنة 1414هـ على مدى سنين طويلة يختم القرآن في رمضان كل ليلة وهو يصلي.
وكان الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الغصين -رحمه الله- المتوفى سنة 1427هـ يختم القرآن طوال حياته في كل يومين, وفي شهر رمضان يختم أربعين مرة.
أيها المسلمون.. إذا كان هذا حال أسلافنا مع كتاب الله.. فما حالهم إذا حل الليل.. وهدأت الأصوات.. ونزل الرب الجليل إلى السماء الدنيا يقول: هل من تائب؟ هل من مستغفر؟ هل من داعٍ؟
روى ابن سيرين -رحمه الله- أن تميمًا الداري -رضي الله عنه- كان يقرأ القرآن في ركعة.
وعن أبي عثمان النهدي قال: تضيفت أبا هريرة -رضي الله عنه-, فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل ثلاثاً, يصلي هذا ثم يوقظ هذا, ويصلي هذا ثم يوقظ هذا.
وعن محمد بن زيد -رحمه الله- أن ابن عمر -رضي الله عنه- كان له مهراس فيه ماء, فيصلي فيه ما قُدِّر له, ثم يصير إلى الفراش فيغفي إغفاءة الطائر، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي, يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمس.
وعن ثمامة -رضي الله عنه- قال: كان أنس -رضي الله عنه- يصلي حتى تفطر قدماه دمًا مما يطيل القيام -رضي الله عنه-.
وعن معاذة -رحمها الله- قالت: كان أبو الصهباء يصلي حتى ما يستطيع أن يأتي فراشه إلا زحفًا.
وقسم ابن الزبير الدهر على ثلاث ليال: فليلة هو قائم حتى الصباح, وليلة هو راكع حتى الصباح, وليلة هو ساجد حتى الصباح.
وقال الذهبي -رحمه الله-: بلغنا أن معاذة العدوية -رحمها الله- كانت تحيي الليل عبادة، وتقول: عجبت لعين تنام, وقد علمت طول الرقاد في ظُلَم القبور.
وهذا عمر المختار -رحمه الله- المتوفى سنة 1350هـ يقول عنه المجاهد محمود الجهمي الذي حارب معه تحت قيادته يقول: لم أشهده قط نام لغاية الصباح, فكان ينام ساعتين أو ثلاثًا على أكثر تقدير, ويبقى صاحيًا يتلو القرآن الكريم, وغالبًا ما يتناول الإبريق ويسبغ الوضوء بعد منتصف الليل ويعود إلى تلاوة القرآن.
واعتاد الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله- المتوفى سنة 1376هـ أن يحيي آخر الليل بالصلاة, وكان يتخذ الوسائل المعينة على القيام, فكانت لديه ساعة منبهة, وكانت لديه أيضًا دلة قهوة صغيرة يقوم بتسخينها ليشرب منها بين التسليمات ليبعث في نفسه النشاط وتقوى على الصلاة.
وهذا محمد المختار بن محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- المتوفى سنة 1405ه كان في رمضان إذا عاد من صلاة العشاء نام بعد الصلاة مباشرة إلى نصف الليل, فينهض ويتوضأ ولا يزال يصلي حتى قبيل الإمساك, فيتسحر ثم يتجه إلى المسجد.
وقرأ الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن قاسم -رحمه الله- المتوفى سنة 1421هـ كتابًا عن فضل قيام الليل وعمره سبعة عشر سنة فما تركه, وحدثت زوجته -رحمه الله- أنه قام ليلة زواجه مثل الليالي الأخرى.
أيها الإخوة.. هذه أحوال سلفنا الصالح.. ممن علموا فضل العبادة فعملوا, فإن قلت أين أنا من حالهم فيقال لك: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90].
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: قد مضى من شهركم ست عشرة ليلة.. تمثل ما يزيد عن النصف.. وبقي من شهركم نصفه الآخر.. وفيه أعظم ليالي العام.. فاجتهدوا رحمكم الله, وأروا الله من أنفسكم خيرًا, وتذكروا قول الله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة: 111], وتذكروا قول حبيبكم "الصيام جُنّة".
يقول ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- مخاطبًا المقصّرين في استغلال هذا الشهر الكريم ــ وكلنا كذلك ــ : "يا من ضيَّع عمره في غير الطاعة, يا من فرّط في شهره بل في دهره وأضاعه, يا من بضاعته التسويف والتفريط وبئست البضاعة, يا من جعل خصمه القرآن وشهرَ رمضان كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة؟
ويل لمن شفعاؤه خصماؤه *** والصُور في يوم القيامة ينفخُ
رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش, وقائمٍ حظه من قيامه السهر, كل قيام لا ينهى عن الفحشاء والمنكر لا يزيد صاحبَه إلا بعداً, وكل صيام لا يُصان عن قول الزور والعمل به لا يورث صاحبه إلا مقتًا وردًّا, يا قوم أين آثار الصيام؟! أين أنوار القيام؟!
هذا -عباد الله- شهر رمضان, الذي أنزل فيه القرآن وفي بقيته للعابدين مستمتَع, وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويُسمع, وهو القرآن الذي لو أُنزل على جبل لرأيته خاشعا يتصدع, ومع هذا فلا قلب يخشع, ولا عين تدمع, ولا صيام يصان عن الحرام فينفع, ولا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع, قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع, وتراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع, كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة.
و كم يتوالى علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة, لا الشاب منا ينتهي عن الصبوة, ولا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة, أين نحن من قوم إذا سمعوا داعيَ الله أجابوا الدعوة؟ وإذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة, وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار أفما لنا فيهم أسوة؟ كما بيننا وبين حال الصفا أبعد مما بيننا وبين المروة والصفا, كلما حسنت منا الأقوال, ساءت الأعمال, فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يا نفس فاز الصالحون بالتقى *** وأبصروا الحق وقلبي قد عمي
يا حُسنَهم والليل قد جَنَّهمُ *** ونورُهم يفوق نور الأنجمِ
ترنموا بالذكر في ليلهمُ *** فعيشهم قد طاب بالترنمِ
قلوبهم للذكر قد تفرغت *** دموعهم كلؤلؤ منتظم
أسحارُهم بهم لهم قد أشرقت*** وخِلَعُ الغفران خير القِسَمِ
ويحك يا نفس ألا تَيَقُظٌ *** ينفع قبل أن تَزِلَّ قدمي
مضى الزمان في ثوان وهوى *** فاستدركي ما قد بقي واغتنمي
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك يا ربنا سميع كريم مجيب.
عباد الله.. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي