الرواتب إن عملتم فيها بحلال وقمتم بما عليكم من الواجبات أكلتم الحلال, وإن فرطتم وقصرتم فقد أكلتم الحرام, وغذيتم أجسادكم وأجساد أهليكم بالحرام, كم يتأخر الموظفون ويفرطون ويقصرون وفي آخر الشهر عن الراتب يبحثون؟ كم تضييع الأوقات وكم تكثر التعديات على أموال الأعمال والأدوات؟!...
الحمد لله الذي خلق الإنسان من طين لازب وصلصال, ثم ركب صورته في أحسن تقويم وأتم اعتدال, ثم غذاه في أول نشوئه بلبن استصفاه من بين فرث ودم سائغاً كالماء الزلال, ثم حماه بما آتاه من طيبات الرزق عن دواعي الضعف والانحلال, أحمده الله أولاً حمداً كثيراً متوالياً، وإن كان يتضاءل دون حق جلاله حمد الحامدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادة وافية بحصول الدرجات وظلالها, واقية من حلول الدركات وأهوالها. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أطلع به فجر الإيمان من ظلمة القلوب وضلالها, وأسمع به وقر الآذان وجلا به رين القلوب بصقالها, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ صلاة لا قاطع لاتصالها, وسلم تسليما كثير إلى يوم الدين.
أما بعد: فأُوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فهي خير وصية وأكمل عطية (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها الناس: إن الله خلق الخلق لعبادته (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56], وسخر لهم ما في السموات والأرض ليكون عونا لهم على طاعته, ويسر لهم الأرزاق التي بها قِوام حياتهم ومعاشهم, فيقول الله تعالى ممتناً على خلقه: (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) [النبأ: 11], وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) [الأعراف: 10].
فجعلها ربك نعمة وطلب الشكر عليها وقال تعالى: (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة: 10], وروي أن -عيسى عليه السلام- رأى رجلاً فقال: "ما تصنع" قال: أتعبد. قال: من يعولك؟ قال: أخي. قال: أخوك أعبد منك.
أيها المسلمون: سخر الله لنا جميعا ما في الأرض, ولكن نهانا الشرع عن أكل الحرام، سواء كان هذا المأكول أموالاً وحقوقًا للناس، أو طعامًا حرّم الله تناوله، وفي ذلك يقول الله -عز وجل-: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 188] وقد جاء في تفسيرها عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "هذا في الرجل يكون عليه مالٌ وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال ويخاصمهم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وقد علم أنه آثم، آكل حرام".
وقال قتادة -رحمه الله-: "اعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحل لك حراما, ولا يحق لك باطلا, وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود, والقاضي بشر يخطئ ويصيب، واعلموا أن من قُضي له بباطل؛ أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة, فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا".
جاء في الحديث المتفق عليه عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات". عقب بقوله: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". فالقلب بمثابة الملك، والأعضاء رعيته، وهي تصلح بصلاح الملك، وتفسد بفساده. قال المناوي: "وأوقع هذا عقب قوله: "الحلال بيِّن" إشعارًا بأن أكل الحلال ينوره ويصلحه، والشُّبَه تقسيه".
إخوة الدين: إن لطيب المطعم أو خبثه أثرًا مباشرًا في قبول الدعاء، فإن كان العبد يتحرى أكل الحلال الطيب فإن دعاءه أقرب إلى القبول والإجابة، أما إن تجرأ على أكل الحرام فإنه يضع بذلك الحواجز والعوائق بين دعائه وبين الإجابة والقبول.
وفي أكل الحلال يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا). وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ). ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟" [رواه مسلم].
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة". ويقول العلامة ابن رجب -رحمه الله-: "أكل الحرام وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجب لعدم إجابة الدعاء".
نعم؛ إن مما لا شك فيه أن أكل الحرام يمنع من قبول الدعاء، بل قد يمنع من قبول العبادة، فقد قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام". ويقول ابن رجب –رحمه الله-: "فإذا كان الأكل غير حلال فكيف يكون العمل مقبولاً؟". إنه لحريٌّ بالعبد أن يوقن أن الدنيا ليست نهاية المطاف، وأنه إن فاز بشيء حرام منها؛ فإن هناك داراً أخرى سيوقف فيها للحساب، وليس هناك ثمة دينار ولا درهم، إنما هي الحسنات والسيئات، فليتق الله كلُّ واحد منا وليطب مطعمه.
قال لقمان الحكيم لابنه: "يا بني استغن بالكسب الحلال عن الفقر فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه, وضعف في عقله, وذهاب مروءته. وأعظم من هذه الثلاث: استخفاف الناس به". وقال معاذ بن جبل -رضي الله عنه- في وصيته: "إنه لا بد لك من نصيبك في الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه فإنك ستمر على نصيبك من الدنيا فتنظمه".
وقال إبراهيم بن أدهم -رحمه الله-: "ما أدراك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه". وقال الفضيل: "من عرف ما يدخل جوفه كتبه الله صدِّيقاً فانظر عند من تفطر يا مسكين". وقال يحيى بن معاذ: "الطاعة خزانة من خزائن الله إلا أن مفتاحها الدعاء وأسنانه لقم الحلال". وقال سهل -رضي الله عنه-: "من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى علم أو لم يعلم". وقال أبو الدرداء: "إن من تمام التقوى أن يتقي العبد في مثقال ذرة؛ حتى يدرك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً, حتى يكون حجاباً بينه وبين النار".
أيها الأحبة: يُقال هذا الكلام في رسالة موجهة للموظفين والموظفات لجميع من يعمل في جهة حكومية أو خاصة؛ بأن الرواتب إن عملتم فيها بحلال وقمتم بما عليكم من الواجبات أكلتم الحلال, وإن فرطتم وقصرتم فقد أكلتم الحرام, وغذيتم أجسادكم وأجساد أهليكم بالحرام, كم يتأخر الموظفون ويفرطون ويقصرون وفي آخر الشهر عن الراتب يبحثون؟ كم تضييع الأوقات وكم تكثر التعديات على أموال الأعمال والأدوات؟!.
أخي الموظف, أختي الموظفة: لنراجع أنفسنا ونفتش عن حالنا هل نحن مجدون ونستحق التقدير أم نحن مفرطون لا نستحق شيئا؟ تذكروا من خلفكم في البيوت يأكلون من دخلكم!! تذكروا كم من معاملة أخرتموها وحق ضيعتموه عن صاحبه, وكم من واسطة قمتم بها وشفاعة لتظلموا غيركم؛ لأجل أقربائكم في الوظائف! يقدم الصديق والقريب على الغريب؛ أليس هذا ظلم؟ في الحاجات تُقضى حاجة الصديق وتنتهي معاملة ويترك المسلم طريد بين مكاتبكم! تماطلون وتعطلون وربما بحثتم عن الحرام؛ لتقوموا بإنهاء حاجات المسلمين ومصالحهم.
كان يوزن بين يدي عمر بن عبد العزيز مسك للمسلمين؛ فأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة وقال: "وهل ينتفع منه إلا بريحه" لما استبعد ذلك منه. وأخذ الحسن -رضي الله عنه- تمرة من تمر الصدقة وكان صغيراً, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كخ كخ " أي ألقها.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي