الجانب الأخلاقي في معركة بدر الكبرى

حسان أحمد العماري
عناصر الخطبة
  1. مبادئ نبوية أخلاقية في غزوة بدر .
  2. أهمية الشورى ورحمة الضعفاء .
  3. أخلاقنا في المعارك وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم .
  4. احترام كرامة الأسير واجب .
  5. صور من الوفاء النبوي العظيم .

اقتباس

وأخلاق المسلم ثابتة لا تتغير يجب أن يلتزم بها في حال الغضب والرضا والحرب والسلم، والعسر واليسر، والقوة والضعف، وفي الفقر والغنى.. فلا يمكن أن يأتي زمن أو ظروف أو حادثة تبيح للمسلم أن يتنصل عن هذه الأخلاق، ولا يعني وجود المشاكل والاختلافات بين الناس الخروج عن هذه الأخلاق والقيم والخضوع ..

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أنشأ خلقه وبرأ، الحمد لله الذي خلق الخلق بقدرته.. وصرف أمورهم بحكمته.. الحمد لله الذي ذلت لعظمته الرقاب.. ولانت لقوته الصعاب وجرى بأمره السحاب.. الحمد لله.. الذي تسبحه البحار الزاخرات.. والأنهار الجاريات.. والجبال الراسيات.. أحمده -سبحانه- وحلاوة محامده تزداد مع التكرار، وأشكره وفضله على من شكر مدرار..

والصلاة والسلام على النعمة المهداة والرحمة المسداة والسراج المنير صاحب الحوض والشفاعة، ولا يدخل الجنة إلا من أطاعه محمد بن عبد الله عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

أما بعد:

عباد الله: إن للأخلاق والقيم مكانة عظيمة في دين الإسلام؛ حيث اعتبرها قيمة إيمانية مرتبطة بعقيدة الفرد وصلته بربه، ورتَّب عليها الجزاء في الدنيا والآخرة وجعل -سبحانه وتعالى- تربية الخَلق وتزكية نفوسهم بالأخلاق والفضائل من أهداف الرسالات والنبوات، فقال عن نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الجمعة: 2].. وقال -صلى الله عليه وسلم- "إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاق" وفي روايةٍ: "صالحَ الأخلاقِ" [السلسلة الصحيحة:45].

بل إن صاحب الخلق ليبلغ به خُلقه منازل عالية في الدنيا والآخرة، يقول عليه الصلاة والسلام: "إنّ من أحبِّكم إليّ وأقربِكم منّي مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا" (رواه البخاري في الأدب المفرد:272).

وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما شيء أثقل من ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء" (صحيح الترغيب والترهيب للألباني: 2641).

وأخلاق المسلم ثابتة لا تتغير يجب أن يلتزم بها في حال الغضب والرضا والحرب والسلم، والعسر واليسر، والقوة والضعف، وفي الفقر والغنى.. فلا يمكن أن يأتي زمن أو ظروف أو حادثة تبيح للمسلم أن يتنصل عن هذه الأخلاق، ولا يعني وجود المشاكل والاختلافات بين الناس الخروج عن هذه الأخلاق والقيم والخضوع لغرائز الغضب والحمية الجاهلية، وإشباع نوازع الحقد والقسوة والأنانية، فلا بد أن يكون المسلم عادلاً ورعاً وأميناً، وصادقاً ووفياً في سائر أحواله لأنه يتعبد الله بهذه الأخلاق ويبتغي بها مرضاته...

ومن ينظر في سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وتعامله من أصحابه وأعدائه في مختلف الظروف يجد ذلك جلياً واضحاً.. ولنا أن نقف -ونحن في هذه الأيام من شهر رمضان المبارك.. شهر القرآن وشهر الجهاد وشهر الإنفاق وشهر الصيام والقيام- مع الجانب الأخلاقي في معركة بدر الكبرى والتي كانت في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة.. خرج جيش المسلمين لا يريد القتال أو الاعتداء على أحد أو سفك دم أحد، ولا بثّ الرعب والخوف في نفوس الضعفاء والمساكين، ولم يكن خروجهم للاستكبار والهيمنة والهدم والدمار.. كلا.. فليست هذه أخلاق الإسلام..

ولكنهم أرادوا أن يستردوا بعض أموالهم التي نهبتها قريش منهم بالقوة، وتحت تهديد السلاح.. فقد ظُلموا وطُوردوا وسُجنوا ومنهم من قُتل، وغدت بعض ركعات في الصلاة أو قراءة شيء من القرآن جريمة لا تغتفر، ثم أخذت أموالَهم قريشٌ تتاجر بها إلى الشام، وعند علمهم بقدوم قافلة لقريش خرجوا ليستردوا بعضاً منها.. فعلمت قريش وخرجت بجيشها، وتحول الموقف إلى معركة أرادها الله بحكمته؛ ليميز الخبيث من الطيب، والحق من الباطل، والخير من الشر، ويقضي الله أمراً كان مفعولا قال -تعالى-: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) [الأنفال:7].

وأثناء مسيرهم إلى بدر لملاقاة قريش نظر إليهم -صلى الله عليه وسلم- فرأى التعب والكدح وضيق العيش على وجوههم.. فبطونهم فارغة وأجسادهم عارية حفاة الأقدام فقراء.. فرفع أكف الضراعة واتصل بالواحد الديان وقال: "اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم" (حسَّنه الألباني في صحيح أبي داود: 2747).

فكانت المعركة وكان النصر فيها للمسلمين بإذن الله تعالى القائل: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران:123].

أيها المؤمنون: عباد الله: ومن جوانب الأخلاق في هذه المعركة احترام القائد لأتباعه، والاستفادة من خبراتهم وتخصصاتهم؛ فمن ذلك مشاورةُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه قبل الغزوة، وهو أكمل الناس رأيًا، وأتمهم عقلاً وحكمة، "فكثيرًا ما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يستشير أصحابَه فيما لا وحي فيه من الكتاب والسُّنة؛ تعويدًا لهم على التفكير بالمشاكل العامَّة، وحِرْصًا على تربيتهم على الشعور بالمسئولية، ورغبةً في تطبيق الأمر الإلهي بالشورى، وتعويدًا الأُمَّة على ممارستها.

فحين نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- ببدر، قال الحُباب بن المُنذِر: يا رسول الله، أهذا رأيٌ رأيتَه، أم وحي؟ فقال: "بل رأي رأيتُه"، قال: فإني أرى أن تنزل على ماء، وتجعله خلف ظَهْرك وتغور المياه كلها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قد أشرتَ بالرأي"، ونفَّذ ما أشار به الحباب (زاد المعاد: 3: 175).

وفي أرض المعركة وقف -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم: "أشيروا عليّ أيها الناس" فتكلم المهاجرين خيراً، فقام منهم المقداد بن عمرو، وقال: امض بنا يا رسول الله لما أمرك الله، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة:24]. ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.

فاستبشر -صلى الله عليه وسلم- وقالها مرة أخرى: "أشيروا عليّ أيها القوم" فقام سعد بن معاذ من الأنصار وقال: "والله لكأنك تريدنا.. يا رسول الله؟" قال -صلى الله عليه وسلم-: "أجل". قال: "لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسِرْ على بركة الله". فتهلل وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَوَاللهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ" (ابن هشام: السيرة:1/615).

فالقائد والمدير والمسئول الذي يقود أتباعه كالقطيع دون مشورة أو رأي، أو معرفة بالهدف، أو عدم وضوح الغاية والثمرة يجني على الأمة الويلات والهزائم والنكسات والفشل، ويتعطل الإنتاج وتخسر المؤسسات ويغتال الإبداع، وينشأ عن ذلك مجتمع ضعيف ومهزوز وغير منتج أو مبادر؛ لأنه يتعامل معهم بمنطق الاستبداد والفوقية والرأي الواحد.. إنها سياسة الاحتقار والاستخفاف بالشعوب والأتباع، وإخضاعها بالقوة وإهدار كرامتها، كما قال تعالى عن فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) [الزخرف:54].

فكان من أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- أن يثبت الشورى ومناقشة الأمور والاستماع للآراء ومشاركة الآخرين من حولك، وتبادل الأفكار واختيار أفضلها وأصوبها.. في البيت مع الأسرة وفي العمل وفي السوق وفي السياسة والاقتصاد وفي السلم وفي الحرب.

وكان من أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- في هذه المعركة: التواضع واحترام إنسانية الإنسان ولو كان عدوك.. فعندما انتصر المسلمون، وارتحل الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- حتى كان بالروحاء، لقيه المسلمون يُهنِّئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين.. فقال لهم سلمة بن سلامة: "ما الذي تُهنِّئوننا به؟ فو الله إن لَقينا إلا عجائزَ صُلعًا كالبُدْن المعلَّقة فنحرناها".. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أي ابن أخي، أولئك الملأ"، قال ابن هشام: الملأ: الأشراف والرؤساء (سيرة ابن هشام:2/623).

ومن إنسانيته وعظمة أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- أن أمر بعد المعركة بدفن القتلى حتى وهمْ أعداؤه، فنُقِلوا إلى قليب بدر؛ ليُدفَنوا فيها، وقد كانت هذه هي سنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع القتلى وهو موقف إنساني كريم لا يفعله إلا أولو العزم من الرسل، فطالما أهانوه، وسَبُّوه، وأذاقوه وأصحابَه العذابَ ألوانًا، وهم الذين أخرَجوهم من ديارهم وأهليهم وأموالهم، ولكنها إنسانية الإسلام تعلو عن الأحقاد والانتقام..

عباد الله: لقد كانت القاعدة الأخلاقية العامة التي حَثَّ عليها الرسول في أوّل غزوة غنم فيها المسلمون أسرى هي: "استوصُوا بهم -أي بالأسرى- خيرًا" (الطبراني في الكبير:977، وقال الهيثمي في المجمع: إسناده حسن: 10007).

وقال ابن عباس: أمر رسول الله أصحابه يوم بدر أن يُكرموا الأُسَارى، فكانوا يُقَدِّمُونهم على أنفسهم عند الغداء، وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة (ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: 4/584).

ولم يكن الصحابة -رضوان الله عليهم- يقدمون للأسرى ما بقي من طعامهم، بل كانوا ينتقون لهم أجود ما لديهم من طعام، ويجعلونهم يأكلونه عملاً بوصية رسول الله بهم، وها هو أبو عزيز شقيق مصعب بن عمير يحكي ما حدث يقول: كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خَصَّوْني بالخبز، وأكلوا التمر لوصية رسول الله إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها؛ فأستحي فأردّها فيردّها عَلَيَّ ما يمسّها، وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث أي أنّه لم يكن شخصية عادية، بل كان من أشدّ المشركين على المسلمين، فلا يحمل اللواء إلا شجعان القوم وسادتهم!

ولكن هذا لم يغيّر من الأمر شيئًا، فلم يضربوا أو يُقتلوا، أو يمنع عنهم الطعام والشراب، أو يسجنوا في سراديب تحت الأرض، أو تصعق أجسادهم بالكهرباء وبوسائل التعذيب المختلفة، ولم يذبحوا بالسكاكين ويحرقوا بالنار.. كلا.. لم يحدث ذلك.. بل وصل الأمر من احترام إنسانية الإنسان إلى احترام مشاعره وأحاسيسه، فنجد النبي -صلى الله عليه وسلم- يوجِّه أصحابه الكرام توجيهات إنسانية راقية في شأن التعامل مع الأسرى من النساء والأطفال؛ فينهى عن التفريق بين الأم وطفلها؛ فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: "مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (صحيح الجامع:6412)؛ لأن الرحمة بالأسير أصل من أصول التعامل لا يجوز التخلي عنه تحت أي ظرف من الظروف وهي جزء من منظومة الجهاد في الإسلام وأهدافه وآدابه، فالجهاد في الإسلام إنما شُرع رحمة بالضعفاء، ونصرة للمظلومين، وعدالة للمغلوبين، وهداية للحائرين؛ وإرغاماً للظالمين والمستبدين والمعتدين، وقد أسس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبدأ من مبادئ الحرب والتي تقوم على الأخلاق قائلاً: "‏اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سبِيلِ اللّهِ، قاتِلُوا منْ كفر بِاللهِ، اغْزُوا ولا ‏تغُلُّوا، ‏ولا ‏تغْدِرُوا، ‏‏ولا ‏تمْثُلُوا، ‏ولا تقْتُلُوا ولِيدًا، أوِ امْرأةً، ولا كبِيرًا فانِيًا، ولا مُنْعزِلاً بِصوْمعةٍ" (مسلم:1731).

فلم تهدم المدن والقرى، ولم تفجر المساجد والكنائس، ولم تفخّخ المساجد والمنتديات، ولم تقصف البيوت، ولم يقتل الأطفال والنساء وكبار السن، ولم يدفنوا تحت الأنقاض.. فانظروا كيف هي أخلاقنا في هذا الجانب مع بعضنا البعض كمسلمين في صراعاتنا وحروبنا ومشاكلنا الدنيوية، وكيف انحدرت أخلاقنا وضعفت في النفوس قيمنا بسبب سوء الفهم لديننا، والغلو والتطرف من جهة، والتساهل والاستهتار من جهة أخرى، إلى جانب استحواذ الشيطان على كثير من المسلمين، وتزيين الدنيا وشهواتها لهم، وركونهم إلى الذين ظلموا من أعداء هذه الأمة ودينها.

ولا بد من مراجعة لأخلاقنا وسلوكياتنا وتصرفاتنا حتى تنضبط بأحكام الشرع وآدابه بعيداً عن الهوى والعصبية والجاهلية والأحقاد الشيطانية وحب الانتقام، ولا بد من ترتيب أولوياتنا وتوجيه سهام الأمة إلى أعدائها الحاقدين والمعتدين عليها والمتربصين بها والمحتلين لأراضيها ومقدساتها ..

اللهم ثبتنا على الإيمان حتى نلقاك وهيئ لنا من أمرنا رشدا..

قلت قولي هَذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...

الخطبة الثانية:

عباد الله: ومن أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين في هذه المعركة عدم نكران الجميل لمن أسدى إليهم معروفاً، أو سجّل موقفاً عظيماً تجاههم.. وهذا من الوفاء وهو من أعظم الأخلاق.. فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رجع من الطائف حزينًا مهمومًا بسبب إعراض أهلها عن دعوته، وما ألحقوه به من أذىً، لم يشأ أن يدخل مكة كما غادرها، إنما فضّل أن يدخل في جوار بعض رجالها، فقبل المطعم بن عدي أن يدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة في جواره.

فجمع قبيلته، ولبسوا دروعهم، وأخذوا سلاحهم، وأعلن المطعم أن محمدًا في جواره، ودخل النبي -صلى الله عليه وسلم- الحرم وطاف بالكعبة، وصلى ركعتين، ثم هاجر وكوّن دولة في المدينة، وهزم المشركين في بدر، ووقع في الأسر عدد من المشركين؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له". (رواه البخاري)... فانظروا إلى الوفاء حتى مع المشركين!!

وهذا أبا البحتري بن هشام! إنه أحد الرجال القلائل من المشركين الذين سعوا في نقض صحيفة الحصار، والمقاطعة الظالمة التي تعرض لها رسول الله وأصحابه في شعب أبي طالب، فعرف له الرسول جميله وحفظه له، فلما كان يوم بدر قال -صلى الله عليه وسلم-: "من لقي أبا البحتري بن هشام فلا يقتله"، يا لعظمة هذه الأخلاق ويا لروعة هذا الوفاء!!

ومن ذلك خُلق العدل الذي جسَّده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نفسه، والمعركة يوم بدر على وشك أن تبدأ، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يعدل الصفوف، ويقوم بتسويتها لكي تكون مستقيمة متراصة، وبيده سهم لا ريش له يعدل به الصف، فرأى سواد بن غزية، وقد خرج من الصف فدفعه -صلى الله عليه وسلم- في بطنه، وقال له: "استوِ يا سواد" فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني، فكشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بطنه وقال: "استقد" فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: "ما حملك على هذا يا سواد؟" قال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله بخير. (صحيح السيرة النبوية، ص236).

ومن أعظم أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر أنه سعى إلى تطبيق مبدأ "تحين الفرص لحفظ دماء من يقاتله"، في المعارك والحروب ومن أمثلة ذلك عندما نهى عن قتل من خرج مستكرهًا من المشركين، رغم أن ذلك في ميدان القتال والحرب، والمتعارف عليه بين جميع البشر أن من يقاتلك تقاتله، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ بروح القاعدة وليس بنصها؛ لذا فهو قد يَأْسِرُ المستَكرَه؛ لكي يتجنّب مُقاتلته ويُجَنِّبَه أيضًا، ولكن لا يقتله؛ إلا إذا أَصَرَّ على القتال؛ فقد جاء في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه قُبَيلَ غزوة بدر: "إني قد عرفت أنَّ رجالًا من بني هاشم وغيرهم قدْ أُخرِجوا كُرْهًا لا حاجة لهم بقتالنا؛ فمن لقي منكم أحدًا من بني هاشم فلا يقتُلْه، ومن لَقِيَ أبا البحتري بن هشام فلا يقتله، ومن لَقِيَ العبَّاس بن عبد المطلب فلا يقتله؛ فإنما خرج مُسْتَكْرَهًا".

فما أحوجنا إلى أخلاق الإسلام وتعاليمه في السلم والحرب، وفي الرخاء والشدة، وفي العسر واليسر، وفي حال الرضا والغضب.. ما أحوج البشرية قاطبة إلى هذه الأخلاق وهذه القيم العظيمة؛ لتسعد في حياتها، وتخرج من بؤسها وشقائها من هذه المعركة وغيرها..

إن شهر رمضان شهر الذكريات والفتوحات والانتصارات، وتمر بنا هذه الذكريات والأمة مثقلة بالآلام مثخنة بالجراح، كما تمر بنا الذكريات والمسلمون اليوم أكثر ما كانوا حملاً للسلاح وبذلاً للأرواح، ولكن على بعضهم والصائم يقتل صائماً.. حتى أصبحنا نتمنى أن نعامل بعضنا البعض كما كان -صلى الله عليه وسلم- يعامل أعداءه لا كما أمر أن يعامل المسلم أخاه المسلم.. فلنعد إلى ديننا وأخلاقنا.

عباد الله: أيام قليلة وتدخل العشر الأواخر من رمضان التي هي أعظم أيام رمضان فضلاً، وأرفعُها قدرًا، وأكثرُها أجرًا، تصفو فيها الأوقات للذة المناجاة، وتسكب فيها العبرات بكاءً على السيئات؛ فكم فيها لله من عتيق من النار! وكم فيها من أسير للذنوب وصله الله بعد الجفاء، وكتب له السعادة بعد طول شقاء! إنها الفرصة التي إذا ضاعت فلن تنفع بعدها الحسرات..

روى الإمام مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله"... ولنكثر فيها من قراءة القرآن والذكر والدعاء والصدقة والاعتكاف في المساجد وصلاة التراويح وصلاة القيام..

ولنتحرى فيها ليلة القدر والتي هي خيرٌ من ألف شهر، وبها تغفر الذنوب وترفع الدرجات قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه" (رواه مسلم)..

فلا ينبغي لمسلم أن يفوّت هذه الفرصة الثمينة على نفسه وأهله. فلعل أحدنا تدركه فيها نفحةً من نفحات الرحمن، في هذه الليالي والأيام تكون بها سعادة الدنيا والآخرة.

هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين..


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي