قارن -أيها الأخ الصائم- بين حالك قبل دخول الشهر وحالك بعد انتصافه هل قوي حب الله وخوفه سبحانه وخشيته ومراقبته في قلبك؟ هل ازداد على فعل الطاعات حرصك؟، هل قويت في القربات رغبتك؟ كيف حالك أيها الصائم مع الصلوات المفروضة هل ازدادت محافظتك عليها في أوقاتها مع جماعة المسلمين وأصبحت تجاهد نفسك على الخشوع فيها أكثر مما مضى وصرت حريصًا على الإكثار من نوافل الصلاة؟ ماذا عن حرصك على الأذكار وملازمة الاستغفار، والإكثار من التهليل والتحميد والتكبير والتسبيح؟...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى ومن تبعهم واكتفى وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله -عز وجل- وذلك بفعل ما أمر الله واجتناب ما نهى عنه وزجر في الأقوال والألفاظ والتصرفات والأفعال بل وفي أعمال القلوب فهذه حقيقة التقوى التي وصى الله -عز وجل- بها (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [النساء: 131].
فمن حافظ في أقواله وألفاظه على الكلم الطيب وابتعد عن الخبيث والسيئ من القول ولازم بجوارحه الطاعات، وأعرض عن المعاصي والمحرمات، وعمر قلبه بمحبة الله وخشيته وغير ذلك من أعمال القلوب التي يحبها الله وابتعد عن أضدادها، فهذا هو التقي من عباد الله الموعود بعظيم الجزاء ووافر الثواب من الرب الكريم.
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) [القلم: 34- 35]، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الحجر:45]، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ) [الطور:20]، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) [القمر:55]، جعلني الله وإياكم ووالدينا وأهلينا وذرياتنا وسائر أحبابنا وقرباتنا منهم بمنّه وكرمه؛ إنه سميع قريب.
أيها الإخوة في الله: إنما شرع الله -عز وجل- صوم رمضان وأوجبه على عباده إنما شرعه لتحقيق غاية كبرى ومقصد عظيم ألا وهو تحقيق التقوى لله رب العالمين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
هذه هي الغاية من مشروعية الصيام وفرضيته تقوى القلوب التي جلاها بعض السلف بقوله: "تقوى الله: العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل".
وقال عنها بعضهم: "التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله".
وعرفها بعضهم بقوله: "التقوى ألا يفقدك الله حيث أمرك وألا يراك حيث نهاك".
هذه هي التقوى إنها عملية إيجابية يتوقى العبد فيها في رحلته إلى الله -عز وجل- كل ما يعيق سيره ووصوله إلى الله ويغتنم كل ما يقربه من مولاه ويدنيه من ذي الجلال والإكرام.
التقوى في القلوب هي المحرّك والباعث الأعظم للعبد نحو الطاعات والعبادات، وهي الحاجز والمانع الأعظم للعبد من الوقوع في المعاصي والمحرمات.
التقوى -يا عباد الله- أعظم سلطة مراقبة، أعظم سلطة ردع وزجر للعبد فبها يستحضر العبد مراقبة الله واطلاعه عليه مهما بعُد عن أعين الناس، واستخفى من أنظارهم وأبصارهم، فإذا همّت نفسه بمعصية أو إخلال بواجب ذكّرته التقوى مراقبة الله له فأقلع عن ذلك وابتعد.
وبالتقوى ينزجر العبد ويردع نفسه متى ما غلبته نفسه وهواه وأغواه الشيطان الرجيم فأقدم على معصية أو فرّط في أداء واجب.
ولهذا يا عباد الله جاء في وصف المتقين من عباد الله الذين أعد الله لهم الجنة بقوله تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133]، جاء في وصف هؤلاء المتقين (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135].
التقوى -يا عباد الله- هي العدة عند الشدائد، هي المعين عند البلاء والمصائب، هي المنجية في الدنيا من الكروب والغموم والشدائد والمضايق (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:90].
التقوى هي المنجية في الآخرة من عذاب الله وناره (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم:71- 72].
هذه هي التقوى -يا عباد الله- التي من أجل تحقيقها شرع الله صيام شهر رمضان وأوجبه على عباده (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
وعندما تحل التقوى في قلب العبد وتعمره وتصبح التقوى شعاره ودثاره فلا تسل عن الخيرات، لا تسل عن البركات، لا تسل عن الحياة الطيبة الهنية الرضية التي يحياها المتقون من عباد الله، لا تسل عن علو الهمة وسكون النفس وانشراح الصدر وطمأنينة القلب التي يجدها ويتلذذ بها المتقون من عباد الله.
ولهذا كله فالقرآن العظيم كله مملوء بالحديث عن التقوى والاحتفاء بها والإشادة بها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر: 18] إلى غير ذلك من الآيات الكريمات التي فيها إما أمر صريح بتقوى الله كما في الآيات السابقة أو ثناء على المتقين وبيان لما أعده الله لهم في الدنيا والآخرة من أصناف النعيم والسرور والحبور.
هذه أيها الإخوة الصائمون التقوى التي من أجل تحقيقها أوجب الله علينا، لا بل حتى على الأمم من قبلنا أوجب صيام شهر رمضان، فماذا يا ترى تحقق لنا يا عباد الله من تقوى الله في شهرنا وقد مضى أكثر من نصفه ولم يبقَ منه إلا أقله وكل إنسان أدرى بنفسه وأبصر بها (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) [القيامة: 14- 15].
لكن التقوى لها آثار تدل عليها، لها علامات تعرف بها، قارن -أيها الأخ الصائم- بين حالك قبل دخول الشهر وحالك بعد انتصافه هل قوي حب الله وخوفه سبحانه وخشيته ومراقبته في قلبك.؟ هل ازداد على فعل الطاعات حرصك؟، هل قويت في القربات رغبتك؟ كيف حالك أيها الصائم مع الصلوات المفروضة هل ازدادت محافظتك عليها في أوقاتها مع جماعة المسلمين وأصبحت تجاهد نفسك على الخشوع فيها أكثر مما مضى وصرت حريصًا على الإكثار من نوافل الصلاة؟ ماذا عن حرصك على الأذكار وملازمة الاستغفار، والإكثار من التهليل والتحميد والتكبير والتسبيح؟
كيف حالك أخي الصائم مع والديك برًّا بهما وحرصًا على إرضائهما، ماذا عن حرصك على إدخال السرور على قلبيهما وإبهاجهما والبعد عن كل ما يحزنهما ويكدر صدورهما، كيف حالك مع أرحامك صلة وبرًّا ومساعدة وعونًا، كيف هي حالك أخي الصائم مع كلام ربك -عز وجل- قراءة له وترتيلا وتأثرا بمواعظه وحرصًا على الاهتداء بهديه والتأدب بأدبه والاتعاظ بمواعظه والاعتبار بعبره.
كيف حالك أخي الصائم مع من حولك من جيران وأصحاب وزملاء عمل في محبة الخير لهم ودلالاتهم عليه وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ودعوتهم لله -عز وجل-.
كيف حالك أخي الصائم مع المساكين والفقراء واليتامى والأرامل والمعوذين سعيًا لقضاء حاجاتهم ومد يد العون والمساعدة لهم، كيف حالك أخي الصائم في الاستعداد ليوم الرحيل ويوم النقلة الحقيقية من هذه الدار الفانية إلى الدار الآخرة.
كيف حالك أخي الصائم مع جوارحك، مع لسانك وبصرك غضًّا وإمساكًا لها عن الحرام والخبث من القول والفعل، وقبل ذلك وبعده كيف حالك أخي الصائم إذا خلوت لوحدك عن أعين الناس وانفردت بجوالك وجهاز وانفتحت عبر وسائل التواصل بفضاءات لا حدود لها من غير أن يطلع عليك أحد إلا الله رب العالمين، كيف حالك في مراقبتك لربك واستحضارك لعظمته وسطوته والخوف منه وخشيته سبحانه وتعالى.
هذه بعض آثار التقوى وعلاماتها بها يتعرف العبد على وجود التقوى من عدمها، فهنيئا لمن اتقى ربه في رمضان وغير رمضان.
بارك الله لي ولكن في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي منَّ علينا بالدين الحق وهدانا بفضله للعقيدة الصحيحة، أحمده سبحانه على نعمه العظيمة وأشكره سبحانه على آلائه ومننه الوفيرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلما تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين ومن شذ عنهم شذ في النار.
عباد الله: أكثروا من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، وأكثروا من الاستغفار وألحوا بالدعاء لربكم -سبحانه وتعالى-، وتضرعوا بين يديه وليكن لكم في الإحسان والمعروف والصدقة والبر مشاركة بما تجدون به وتقدرون عليه، خلصوا قلوبكم رحمكم الله من الشحناء والبغضاء.
أيها الإخوة الصائمون: مضى أكثر الشهر، أيام وليالي تعب في تلك الأيام من تعب في الطاعة والعبادة، وأرخى لنفسه العنان من أرخى في المعصية واللهو الغفلة، بالله عليكم أيها الإخوة الصائمون ماذا بقي بعد ذلك، أليس تعب الطاعة قد ذهب ومضى ونسي؟! أليست لذة المعصية واللهو والغفلة قد ذهبت ونسيت؟! فما الذي بقي؟ بقي ما هو أعظم من ذلك بقي الجزاء والحساب، بقي الثواب والعقاب.
ألا شمروا -أيها الإخوة الصائمون- شمروا عن سواعد الجد، وضاعفوا الجهد والعمل، واغتنموا العشر الأواخر من رمضان فعما قريب تحل بساحتكم تلك الليالي النيرات التي فيها ليلة القدر ليلة خير من ألف شهر، فأحسنوا رحمكم الله استقبالها وأحسنوا اغتنامها، فإنها ليالي عظيمة هي غرة أيام شهركم فاغتنموها بخير ما تغتنم.
أعانني الله وإياكم على ذكره وشكره وطاعته وحسن عبادته، وأخذ بنواصينا جميعا لفعل كل ما يحبه ربنا ويرضى وفعل كل ما يقربنا منه سبحانه وتعالى إن ربي سميع قريب.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام "من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صل وسلم وبارك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي