القلب الصائم -أيها الكرام- قلبٌ متحررٌ من حب الدنيا والتعلق بشهواتها وملذاتها, مشغولٌ بالنعيم الباقي, وطالب للراحة الدائمة, ولذا يهون عنده تعب الدنيا؛ لأنه يؤمّل في راحة الجنة, وتصغر عنه الدنيا لأنه يرجّي النفس بنيل الآخرة, ولا تأسره شهوات الدنيا, ولا تشغله عن طاعة المولى؛ لأنه يمنِّي النفس بإمتاعها في الجنة الباقية. وأما غيره فتراه مشغولاً بحب الدنيا, يؤثرها على الآخرة, هي همه, وطلبته, ولتعلم الفرق بين الاثنين فاسمع قول الرسول –صلى الله عليه وسلم-: " من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدر له"..
الحمد لله...
اليوم لا ترى إلا ظامئ البطن, يابس الشفه, لله رب العزة, لن ترى مسلماً إلا وامتنع عن أكله وشربه, تقرباً لله ربه, ولعمر الله فما أروعه من مشهدٍ!! مشهد الاستجابة برغم شدة الأمر ومشقة الحرّ, كتب الله لكم الأجر.
ومع هذا: فأكمل وأتم, وأعلى من ذلك وآكد أن نجمع مع صوم البطونِ صومَ القلوب, فترك الشراب والطعام هو أهون الصيام كما قال السلف الكرام, وأتمه أن تجمع معه صوم القلب.
والغبن البالغ أن ترى بطناً جائعًا وقلباً في الذنوب والغًا, أن ترى بدناً صائمًا وفؤاداً في الأمراض مفطرًا, ومحط نظر الله إلى القلوب لا الأبدان, وفي مقول سيد ولد عدنان –صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"، وفي صلاح القلب صلاح البدن, وقد قيل: القلوب أوعية , فإذا امتلأت من الحق ظهر ذلك على الجوارح، والعكس بالعكس.
وفي صلاح قلبك عبادة لربك, وقد قال السلف: "ليس من العبادات شيء أنفع من إصلاح خواطر القلوب".
أيها الصائمون: هل رأيتم قلباً يمرض, بل قلباً يُطبَع عليه, بل قلباً يموت؟, كل ذلك يكون, لأجل ذا فلزامٌ على كل امرئ أن يُعنَى بقلبه, يُداوي أمراضه, ويُعالج أسقامه, ويزيل أدرانه, ويستفيد من شهر الصوم بتهذيب القلب. فيا ترى كيف يكون صيام القلب, وعن ماذا يصوم؟!
القلب الصائم -أيها الكرام- قلبٌ متحررٌ من حب الدنيا والتعلق بشهواتها وملذاتها, مشغولٌ بالنعيم الباقي, وطالب للراحة الدائمة, ولذا يهون عنده تعب الدنيا؛ لأنه يؤمّل في راحة الجنة, وتصغر عنه الدنيا لأنه يرجّي النفس بنيل الآخرة, ولا تأسره شهوات الدنيا, ولا تشغله عن طاعة المولى؛ لأنه يمنِّي النفس بإمتاعها في الجنة الباقية.
وأما غيره فتراه مشغولاً بحب الدنيا, يؤثرها على الآخرة, هي همه, وطلبته, ولتعلم الفرق بين الاثنين فاسمع قول الرسول –صلى الله عليه وسلم-: " من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدر له".
معشر الكرام: والقلب الصائم متعلق بالله, لا يخاف من غيره, لا يتوكل على سواه, لا يرجو إلا إياه, لا يعمل إلا له, له القصد كله, وله التوجه والعبادة كلها, فلا شرك مهلك, ولا تعبد لغير المولى.
القلب الصائم إذا عمل وتعبد, فنيته لله, لا يرائي بعمله المخلوق, لا ينتظر الثناء والمدحة من أحد؛ لأنه يعلم أن غير الله ليس عنده جنة ولا نار, فلِمَ يطلب وجه مخلوق, وطالب مدح الخلائق مغبون, لا هو أبقى أجره, ولا هو استبقى نفسه من نصب عمله.
والقلب الصائم : قلب سالم من الأحقاد والضغائن, لا يضمر لأحد من المسلمين غلاً ولا شراً ولا حسداً, بل يعفو ويصفح, ويغفر ويتسامح, ويحتمل أذى الناس وجهلهم.
وقد سئل إبراهيم بن الحسن عن سلامة القلب فقال: "العزلة والصمت، وترك استماع خوض الناس، ولا يعقد القلب على ذنب ويهب لمن ظلمه حقه".
والقلب الصائم -أيها الصائمون- يصوم عن الكِبر والتعالي؛ فتلك مفطرات القلب, لا تُساكن قلب مؤمن, وفي الحديث القدسي أن الله يقول: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني فيهما عذبته"، وفيما يروى عنه -صلى الله عليه وسلم-: "من تكبَّر على الله وضعه، ومن تواضع لله رفعه".
والقلب الصائم -عباد الله- يصوم عن العُجب والغرور، وتلك مكدّرات النفوس, فعلى أي شيء يتكبر المرء؟ وما منه شيء إلا وهو من الله؟ عِلمُه وصحته, منصبه وماله, أولاده وتجارته, كلها من عند ربه, فعلى أي شيء يتكبر لو أنه عقل, وفي صحيح الحديث: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فصاحب القلب الصائم ينظر إلى عيوب نفسه, ويتذكر كثرة تقصيره, وتعدد ذنوبه, وعجزه عن شكر خالقه, فيعود على نفسه باللوم والتقريع.
هكذا تصوم القلوب -أيها الكرام- نفوسٌ مزكاة, وقلوبٌ سليمة, وأفئدة عن الآثام مترفعة, وعن الشرور صائمة, وبذلك يربح المرء, فسلامة البدن في الأخرى مهره صلاح القلب في الدنيا (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88- 89]، فيا من قدرتم على صوم البدن, لتصم قلوبكم عن أمراض النفوس, وغوائل القلوب, ولتفطر يوم تفطر على حب الله ورجائه, وحسن الظن به والإخلاص له, ولتمتلئ قلوبكم من سلامة القلب من الغل والحسد, وأفئدتكم من التعلق بالله –سبحانه- ليجتمع لكم صوم البطن وصوم الفؤاد, وصوم الجوارح.
وجدير بنا ونحن نتحرز من القطرة تلج الجوف, أن نتحرز أيضاً من مثقال الذرة من النفاق أو الشرك, أو الكبر والعجب والحسد أو الشك, أو غيرها من الأدواء.
صيام العارفين له حنين *** إلى الرحمن ربّ العالمينا
تصوم قلوبهم في كلّ وقت *** وبالأسحار همْ يستغفرونا
اللهم اهدِ قلوبنا إلى صراطك المستقيم، وثبّتها على الإيمان
الحمد لله وحده.
انتصف الشهر, واكتمل البدر, عشنا بحمد ربنا وأدركنا, وبفضله صمنا وصلينا, فلك الحمد ربنا على بلوغ الأيام, ونسأل الله التمام والقبول وحسن الختام.
ها قد بلغ الشهر المنتصف فمن منا حاسب النفس ومنها انتصف, وحين بدأ الشهر بالنقص فقمين بنا أن نزيد نحن بالعمل, فكل يومٍ وشهرٍ منه عوض إلا رمضان فما له عوض.
كم من أيامٍ مرت والملائِكُ من حولنا يكتبون؛ فماذا قدمت فيها من عمل, نفرح بالأيام نمضيها, ذاك يسعد بقرب العيد, وهذا يؤمل بموعدٍ قادم جديد, وكل يومٍ يمضي فهو من الآجال يقربنا.
ها هي الأيام العشر قد دنت, والخيرات قد أقبلت, فأرِ الله من نفسك خيراً, وانهل من بركاته.
التهجد, الإقبال على القرآن, أعمالٌ لها في العشر شأن، فلا يفتك موسمها, كم قصرنا وكم لهونا, وها هو الشهر قد بدأ بدره بالانحسار, وإن لم تستدرك الآن فربما لم تدرك فرصة.
الاعتكاف سُنة العشر, وجنة الطاعة, قال الزهري عنها: "عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف والنبي –صلى الله عليه وسلم- لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله", فإن قدرت فلا تغبنن ولو ليلة أو يوماً, كن في ضيافة الله, وتفرغ من الشغل بغير الله, في بيته وبين يديه, وهناك, وبين جدران المسجد تتقاصر اللذات, عن لذة العبادة في تلك اللحظات.
أيها المبارك: استغلال كل أيام الشهر ولياليه بل دقائِقِه وثوانيه, هو ما ينبغي أن يشغل البال, ونحن على مشارف العشر, فإن كنت فيما مضى قد قصَّرت فاليوم اليوم, والحزم الحزم.
عشْرٌ وأيُّ العشْرِ يا شهرَ التُّقَى*** عشْرٌ بها عتقٌ من النيرانِ
فيهَا منَ الأيامِ أعظمُ ليلةٍ *** بشرى لقائمِ ليلِها بجنان
طوبى لامرئ تعب اليوم قليلاً ليرتاح غداً طويلاً, وأطاع ربه ليسعد بجنته.
قل لي بربك: أي غنيمة يربحها من أدرك ليلة القدر؟! وأي حرمان يقع فيه من حرم في الشهر الأجر والظفر؟! شهر يفوق على الشهور بليلة عن ألف شهر فضلت تفضيلاً.
وأصدق من ذلك وأصح قول الله (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ..) [القدر: 3]، اللهم أنلنا بركاتك, ووفقنا لطاعتك, وأعنا على ذكرك.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي