هذه بلدُنا، قَدَرُها الإسلامُ, وشَخْصِيَّتُها التوحيد, ووظيفتُها نَشْرُ أنوارِ النُّبوةِ المُحَمَّديَّةِ إلى أرجاءِ الدُّنيا، هذه هُويَّتُنا, التي يجب أنْ نُعْلِنَها ونَرْفَعَهَا, وإنْ شَرِقَ بها مَن شَرِق.. فَبَلَدٌ هذه صفاتُه وميزاتُه حَقٌّ على أهلِه أنْ يَسْتَشْعِرُوا قيمتَه، ومسئوليتَهم تُجَاهَهُ، وتُجَاهَ المسلمين.. حقٌّ عليهم أنْ يُحافظوا على تَدَيُّنِ المجتمعِ وصَلاحِه، ونَشْرِ الخيرِ بين أبنائِه، ومقارعةِ الفساد، وتَجْفِيفِ منابِعِه قَدْرَ الإمكانِ..
الخطبة الأولى:
إخوة الإيمان: تَمُوجُ الأرضُ بالتَّقلباتِ والتَّغَيُّراتِ، وتُبَاغِتُ الأيامُ أهلَها بالغِيَرِ والمُفاجَآتِ، تَقَلُّبَاتٍ متسارعة، وأحوالٍ مُضْطربةٌ، وأَمْنٌ وخَوْفٌ يَتَقَلَّبانِ.
أنظمةٌ تَبَدَّلت، وسِياسَاتٌ تغيَّرت، وثوراتٌ ما هدأت، ونُذُر الخطر تلوحُ بروقها، وطُبولُ الحرب تُدقُّ نواقيسها، وتَوَجُّسٌ مِنْ مُسْتَقْبلٍ مَسْتُورٍ، والإنسانُ يُخَطِّطُ ويُريدُ، واللهُ يَحْكُمُ ما يُريدُ.
فما أَحْوَجَنا ونحنُ نعيشُ هذا الواقعَ الاستثنائيَّ أنْ نَتَحَدَّثَ عن بَلَدِنا، عن هُويتِه وشخصيتِه, ومَرْكَزِه وخاصيَّتِه.
لا نَتَحَدَّثُ عن مُجْتَمَعِنَا عَصَبِيَّةً جاهليَّةً، أو حَميَّةً قوميَّةً، ولا تَزكيةً للنَّفْسِ، أو تَغَنِيَاً بالمآثِر, وإنَّما تذْكيرًا بِفَضْل الله -تعالى- واستشعارًا بِعِظَمِ المسؤوليَّة، والتكاليفِ المنتظرةِ منَّا.
هذا البَلَدُ الذي نَتَفَيَّأُ ظِلالَه, ونعيشُ في كَنَفِه، تَضُمُّ الأرضُ التي اصْطَفاها اللهُ؛ لتكونَ مهبطَ وَحْيِه، ومنطلقَ خاتمِ نُبُوَّاتِه ورسالاتِه, على ثَرَاها عاشَ الأنبياءُ, وبين دُرُوبِها سارَ الرُّسلِ وحَجُّوا وعَجُّوا.
بلدكُم يا أهلَ الإيمانِ شَهِدَتْ مولِدَ أفضلِ وخَيْرِ الخَلْق محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، فبينَ سُهُولِها وحرَّاتِها نَشَأَ، وعلى أَرْجَائِها وفِجَاجِها تَنَقَّلَ ودعا.
منها شَعَّ نورُ الإسلامِ، الذي ارْتضاه اللهُ للبشريَّة جميعًا, وعَبْرَ بوَّابَتِها دَخَلَ الناسُ في دِين اللهِ أَفْواجاً, وعلى أكتافِ أبنائِها الأوائلِ بلغَ الدِّيْنُ ما بلغَ اللَّيلُ والنهارُ، فلم يَتْرُكِ اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَر إِلاَّ أدخلَهُ هذا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزيزٍ، أو بِذُلِّ ذَلِيل.
هذا البلدُ يضم بين جَنَباتِه أحبَّ البِقاعِ وأكرمَها عند اللهِ - تعالى -، هذا البيتَ العتيقَ, الذي أَقْسَمَ به ربُّه، فقال: (وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ) [التين: 2]، وَجَعَلَهُ مثابةً للناسِ وأَمْنَاً، في كُلِّ زمانٍ ومكان، القُلوبُ نحو هذا البيتِ مُعَلَّقةٌ, والجِباهُ إليه مُيَمَّمَة مُصلِّية.
ويشْرُف هذا البلد أيضاً بتلكِ البقعةِ الطَّاهرةِ، المدينةُ الطيبةُ, التي اختارَها اللهُ؛ لتكونَ مُنْطَلقًا لدعوةِ حبيبِه وخَلِيْلِه صلى الله عليه وسلم، اصطفاها الله لتكونَ عاصِمة الإسلام الأولى, ومَأْرِزُ الإيمان إلى قيام الساعة هذه البلاد.
هذه البلادُ هي حَرَمُ الإسلامِ، وللحَرَمِ حُرُماتُه التي لا تُنْتَهَك, فالشيطانُ الرجيمُ قد أَيِسَ أنْ يُعبدَ فيها، كما في الحديث: "إنَّ الشيطان قد يَئِس أن يعبُدَه المُصَلُّون في جزيرة العرب؛ ولكن في التَّحريش بينهم" أخرجه مسلم.
ولذا كانَ من خصائصِ بلدنا أنَّه لا تُقامُ فيها إلاَّ شعائرُ الإسلامِ, فلا تجتمعُ فيها هلالٌ وصليبٌ, ولا مساجدُ وكنائس؛ قال صلى الله عليه وسلم: "لا يُتْرك في جزيرة العرب دينان" رواه الإمام أحمد بسند حسن.
هذه الجزيرةُ أبقاها اللهُ للإسلامِ, واصْطفاها لأهلِه, فلم يَحْتلَّها في تاريخِها كافرٌ، ولم يَحْكُمْها أهلُ البِدَع, وإن حكموا ففي جُزْءٍ منها، ولِفترةٍ محدودةٍ.
هذه البلادُ ستبقى معقلَ الإسلامِ, ومبدأَه ومُنتهاه, وهي المَوْئِلَ الذي يأوِي إليه المسلمونَ في الأزماتِ والساعاتِ العصيبةِ؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان ليَأْرِزُ إلى المدينة كما تأرز الحيَّة إلى حجرها" رواه مسلم.
وفي لفظ: "إن الإيمان ليأرز إلى الحجاز"، وفي لفظ: "إن الإيمان ليأرز ما بين المسجدين".
هذه بلدُنا، قَدَرُها الإسلامُ, وشَخْصِيَّتُها التوحيد, ووظيفتُها نَشْرُ أنوارِ النُّبوةِ المُحَمَّديَّةِ إلى أرجاءِ الدُّنيا، هذه هُويَّتُنا, التي يجب أنْ نُعْلِنَها ونَرْفَعَهَا, وإنْ شَرِقَ بها مَن شَرِق.
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لا إله إلا اللهُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ وللهِ الحَمْد.
فَبَلَدٌ هذه صفاتُه وميزاتُه حَقٌّ على أهلِه أنْ يَسْتَشْعِرُوا قيمتَه، ومسئوليتَهم تُجَاهَهُ، وتُجَاهَ المسلمين.
حقٌّ عليهم أنْ يُحافظوا على تَدَيُّنِ المجتمعِ وصَلاحِه، ونَشْرِ الخيرِ بين أبنائِه، ومقارعةِ الفساد، وتَجْفِيفِ منابِعِه قَدْرَ الإمكانِ، فأَنْظارُ الملايينَ من المسلمينَ تتَّجه نحو دِين وتديُّنِ بلادنا، فالحرصُ على صَفاءِ الإسلامِ ونقائِه مسؤوليَّةٌ مشتركةٌ بين الجميعِ؛ حُكَّامًا ومَحكومين، عُلَماءَ ومعلِّمينَ، دُعاةً ومربِّين.
بلد هذه خصائصُه حُقَّ له أنْ يكونَ مركزَ أهلِ السنةِ ومفزعَهم في كلِّ مكان.
أنْ يَتَبَنَّى قضايا المسلمينَ في شرقِ الأرضِ وغربها.
أنْ يكونَ بَلْسَماً لجراحاتِ المظلومينَ، وجَائِحَاتِ المَنْكُوْبِين.
أنْ يكونَ سَبباً في وحدةِ الأمَّةِ، ولَمْلَمَةِ أهلِ السُّنَّةِ، وجَمْعِهِم على الكتابِ والسُّنَّة، لا أنْ يَخْرُجَ بين ظَهْرَانِيْهم من يُصدِّرُ للعالَمينَ الفرقةَ والتناحرَ، والتَّبَاغُضَ والتَّدَابُرَ.
أنْ تَفْتَحَ جَامِعَاتُه أبوابَها للدارسينَ مِنَ المسلمينَ لينعكسَ أثرُها على بلادِهم بعد ذلك.
أنْ تُرْفَعَ فيه قِيَمُ العَدْلِ، وحِفْظِ الحقوقِ، ونُصْرَةِ المظلوم، وتُطَبَّقُ قبل ذلك.
أنْ يَهُبَّ دعاتُه بألسنَتِهم، وتجارُهُ بأموالِهم لإيصالِ رسالةِ الإسلامِ في أرجاءِ المعمورةِ، كما نَقَلَهَا أسلافُهُمْ، فكمْ يعيشُ في هذه الأرضِ من الملايينَ، لم يعرفوا النورَ والهدى الذي جاءَ به محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-.
هذه البلاد... بَقِيَتْ وستبقى محطَّ أنظارِ المسلمين، ومفزعَهم عند كلِّ خَطْبٍ، أو جائحة، أو معضلة.
تَنْزُفُ النازفةُ في بلدٍ إسلاميٍّ، فَتَرْمُقُ العيونُ أهلَ هذه البلاد، يَسْتَمْطِرُون نَخْوَتَهم، ويَتَحَيَّنُونَ نَجْدَتَهم.
وتَنْزُلُ النازلةُ، والمُعْضِلَةُ العِلْمِيَّةُ، فيُيَمِّمُ المسلمونَ وجوهَهم شَطْرَ فتاوى علماءِ الحرمين.
فَقَدَرُنا أنْ نَبْقَى كذلك، وأنْ نُوضعَ في هذا الموقعِ التَّكْلِيفِي، فهي أَمَانَةٌ وحِمْلٌ ورِسَالَةٌ، وليست تعالياً، ولا مفخرةً أو مُكابَرة.
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لا إله إلا اللهُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ وللهِ الحَمْد.
وإذا تقرَّرَ هذا عبادَ اللهِ فإنَّ الحِفَاظَ على أَمْنِ هذا البلدِ قَضِيَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، وإذا كانَ أَمْنُ كلَّ وَطَنٍ هدفٌ مَنْشُودٌ لأَهْلِهِ، فإنَّ أَمْنَ هذا البلدِ هو أَمْنٌ لأهلِهِ، ولغيرِه مِمَّنْ أتى عليه، مِمَّنْ أرادَ الحجَّ أو العمرةَ، وزيارةَ ديارِه المقدَّسة.
حِفْظُ أَمْنِنِا هو حِفْظٌ للدينِ والدنيا والدَّعوةِ، واستجلابٍ للعافية، ولا يُهَوِّنُ من شأنِه إلا مَنْ ضَعُف عَقْلُهُ، وسَفِه نَفْسَهُ.
الأَمْنُ والأمانُ، يا أهلَ الإيمانِ لا يُشتَرى بالأموالِ، ولا يُبتاعُ بالأثمانِ، ولا تَفْرِضُه القوَّةُ، ولا يُدرِكه الدَّهاءُ؛ وإنما هو مِنَّةٌ ومِنْحَةٌ من الملكِ الدَّيَّان: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش: 3- 4].
بالأمنِ والأمانِ تُعْمَرُ المساجدُ، وتَصْفُو العبادةُ، ويُنشَرُ الخيرُ، وتُحقَنُ الدماءُ، وتُصانُ الأعراضُ، وتُحفَظُ الأموال، وتَتَقَدَّمُ المجتمعاتُ، وتَتَطوَّرُ الصِّنَاعاتُ.
الأمنُ في البلادِ مع العافيةِ والرِّزقِ هو المُلْكُ الحقيقيُ، والسعادةُ المنشودة؛ قال رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: "مَن أصبح منكُم آمنًا في سِربِه، مُعافًى في بَدَنِه، عندَه قُوتُ يومِه، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا بِحَذافِيرها".
أما إذا خلَتِ البلاد من الأمن، فلا تسَلْ عن الهَرْجِ والمَرْجِ، إذا ضاعَ الأمن حلَّ الخوفُ، وتَبِعَه الفقر، وهما قرينانُ لا ينفكَّان؛ قال سبحانه عن القريةِ التي كفَرَتْ بأنْعُمِ اللهِ: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].
حينَ تَخْلو الدِّيارُ مِنَ الأمنِ والأمانِ، تُصبِحُ أرضًا مُوحشةً، وإنْ كان فيها ما فيها من النَّعيمِ والخيرات، بل إنَّ التشريدَ بين الأنامِ، واللجوءَ إلى الخيامِ، لهو أهنأُ وأهونُ من هذا المقام.
هذا كلُّه هو الأمنُ الحسي، الأمنُ على الأرواحِ والأموالِ والأعراض، ولا يقل أهميةً عنه الأمن الفكري، الأمنُ على العقولِ والقلوبِ من الانحرافِ.
وأهمُ ركائزٍ في الأمنِ الفكري: التعليمُ والإعلام، فبهما تُصاغُ العقولُ وتُحْفظُ، وبِهما تُنشَّأُ الأجيال وتُرْسَمُ، فمِنَ الأمنِ الفكريِّ أنْ يكونَ التعليمُ والإعلامُ نابعاً من هويةِ البلدِ الإسلاميةِ، غيرَ معاكسٍ ومصادمٍ لها.
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لا إله إلا اللهُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ وللهِ الحَمْد.
هويةُ بلدِنا تَتَجَاذَبُها تياران، يهدمان ولا يبنيان، يُسِيئَانِ ولا يُحْسِنانِ، تَيارٌ غالي، وتيارٌ جافي، فمِنْ حِفْظِ هويةِ البلدِ ودينِه، نبذُها والبراءةُ منها.
فالغالي لا يحمل إلا مشروعَ التخريبِ، لا يَنْشُرُ رسالةً، ولا يُبَلِّغُ دعوةً، ولا يُصلحُ دنيا،لم نر من مُـخْرَجاتِه إلا الاستخفافَ بالدماءِ، وفجيعةَ الأبرياءِ، وارتكابَ الموبقات (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة: 205]، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس: 81].
وأما الجافي... فهو تيارٌ منهزمٌ، عَاقٍّ لتراثِه، زاهدٌ في أصالتِه، تَشَبَّع إعجاباً بالقيمِ الغربية، فَطَفِقَ يُسَوِّغُها، ويُشَرْعُنُ لها من التراث، وينادي بالإسلام المستنير.
إسلامٍ لا ولاءَ فيه ولا براءَ؛ لأنه يُغَذي الكراهيةَ بين الشعوب.
إسلامٍ لا نهَي فيه عن منكر؛ لأنه يُصادم الحريةَ الشخصيةَ للفرد.
إسلامٍ لا تُطبقُ فيه حدود الله؛ لأنها انتهاكٌ لحقوقِ الإنسان.
إسلامٍ لا ذِكْرَ فيه لمفردةِ الجهادِ حتى ولو كانت دفاعاً عن الأرضِ والمقدساتِ لأنه يُربي على الغلوِّ والإرهاب.
والهدف تغيير المفاهيم الدينية، والبيئة الاجتماعية (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء: 27].
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لا إله إلا اللهُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ وللهِ الحَمْد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
أما بعد فيا أهل الإيمان، أتى على الناسِ حِيْنٌ مِنَ الدَّهْرِ تَنْزُلُ الخضمَاصةُ، وتَنْزِفُ المأساةُ في أقصى الأرضِ فيرتدُّ صَدَاها في بلدِنا تعاطفاً ودعاءً ومواساة، وهذه بادرة مذكورة مشهودة.
وحين تُستعرض مواقفُ أهلِ هذا البلدِ في نصرةِ قضايا الأمةِ، تبرز وتتقدَّمُ قضيةُ الأمةِ الأولى والثانيةِ والأخيرة، قضيةُ فلسطين.
فقضيةُ إخوانِكم في فلسطينَ هي قضيتُكم أنتم، فالارتباطُ وثِيْقٌ، واللُّحْمَةُ مَعْقُودَةٌ، وفي المسجد الأقصى أمَّ نبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- صَفْوَةَ أنبياءِ اللهِ، الذين حجَّوا بيت الله الحرام.
فأهلكم في فلسطينَ هم رأسُ حربةِ الأمةِ في مواجهةِ المشروعِ الصهيونيِّ الإرهابيِّ الغاصبِ، فنُصْرتُهم واجبةٌ مُتعيِّنةٌ في محنتِهم،فقد مَسَّهم مِنَ الضُّر والبأساء، ما تضج له الأرض والسماء، وخُذْلانُهم عارٌ لا يمحوه زمان.
فها هي دماءُ غزةَ يا أهلَ بلدِ الحرمينَ تُناديكم، تَسْتَنْصِرُكم، تَسْتَنْهِضُ ديانتَكم، ونخوتَكم، وعروبتَكم، وشهامتَكم.
نعم.. نستطيع أنْ ننصرَهُم كلٌّ بحسبِه وقُدْرتِه (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، تنصرهم يا عبد الله بدعائِك، بلسانِك، بالذَّبِ عن أعراضِهم، بإحياءِ قضيتِهم، ببذلِ المالِ لهم، فالنفقةُ لهم من أعظمِ النفقاتِ في سبيلِ الله.
وننصرهم أيضاً.. بتعريةِ الأصوات والكتابات المخذِّلةِ اللامِزَةِ، والمستحقرة بسلاحِهم وجَهْدِهم، والتي تَعامتْ عن إجرامِ يهودَ سبعينَ سنة، ووقفتْ في هذا الوقتِ والجُرْحُ يَنْزُفُ تُنَقِّبُ عن مواقفَ سياسية، قابلة للأخذِ والرَّدِ والنقاش، ويبقى أن هذا ليس وقتُ طَرْحُها، فهو مما يَسُرُّ العدوَّ، والسفينةُ حالَ غَرَقِها من الحماقةِ البحثُ عن الذي خَرقها وهي تَغْرَقُ.
فالقضيةُ هنا أكبرُ من التراشقِ بالألفاظِ، ومن تصفيةِ الحساباتِ، ومن النظرِ لها من زاوية حزبية.
الحربُ هنا حربٌ بين إسلامٍ وكفر، لا يُختلفُ فيها إلا من طَمَسَ الله على بصيرتِه.
وللأسف أن هذه الأصواتِ والأقلامَ تُسِيءُ لسمعةِ بلادنا، ولدوره التاريخي مع القضيةِ الفلسطينية.
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لا إله إلا اللهُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ وللهِ الحَمْد.
يا من صمتم شهرَكم، وأكملتم عدَّتَكم، وأخرجْتُم فطرتَكم، أبشروا بالخير، فربُّكم الكريمُ يُضاعفُ الأجورَ، ويَجزِي المتصدقينَ، ولا يُضِيعُ أجرَ العاملينَ، (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56].
أيها الأخوةُ والأخواتُ، لن نقولَ لكم: "بئسَ القومُ لا يعرفونَ اللهَ إلا في رمضان".. بل سنقولُ: لقد رأينا أثرَ الشهرِ عليكم، وتَغَيُّرَكم فيه، فاجعلوا من هذا الشهرِ الكريمِ دورةً لترويضِ النفسِ على صالحِ الأعمال، وحلائلِ الطاعات.
ولن نقول لكم: "اجعلوا حياتَكم كلَّها رمضان"، فهذه مثاليةٌ لا يُطيقها إلا نوادرُ الرجال.
نعم.. لن يكون الحالُ في الإقبالِ على الطاعاتِ والخيراتِ في غيرِ رمضانَ مثله في رمضان، وإلا لما صار لشهرِ الغفرانِ تَمَيُّزُه وروحانيتُه، وإنما المقصودُ أن لا يكونَ آخرُ العهدِ بهذه العباداتِ شهرَ رمضان، فالصيامُ والقيامُ والنفقةُ وتلاوةُ القرآن أعمالٌ صالحات، يحبها الله ويجزي أهلها الجزاء الأوفى.
وأخيراً يا أهل الإيمان... فأنتم في يوم التهاني والتصافي، والتسامحِ والتغاضي، فاغسلوا أدْرَانَ الضغائنِ من القلوب، وتراحموا، وتآلفوا، وكونوا عباد الله إخواناً.
تقبل الله طاعتكم، وكل عام وأنتم بخير، أعاد الله علينا شهرنا الغالي مراتٍ ومرات، ونحنُ في صحةٍ وسلامةٍ في دين، وأمانٍ في دنيا.
صلوا بعدها على نبي الهدى والمرحمة....
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي