عن البلاد التي كتبت تاريخها بدماء الصحابة، وطهرت بعد فضل الله بسيوفهم. تسلَّمها أبو حفص عمر ثم تتابعت حكومات الإسلام في أرضها وتعالت رايات الإيمان في ساحاتها، حاول الصليبيون كسرها فجاسوا خلال الديار، لكن المسلمين وقفوا لهم بالمرصاد .. وقفوا لهم حين كان العلماء يحدثونهم عن الجهاد ويحثونهم عليه .. ويوضحون لهم كيف يفتح الجهاد أبواب الجنان، وكيف يوصد أبواب المذلة والهوان ..
أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فإنها أوثق العرى، وبها تتحقق السعادة في الدنيا والفوز في الأخرى، والعاقبة للتقوى.
عباد الله: أمة الإسلام: في الوقت الذي كان كثير منا ينظر إلى السحب ويسمع زمجرة الرعد منتظرين نزول المطر, يسأل بعضنا بعضًا عن وقت دخول الوسم طمعًا في الخير, كان بعض الصالحين يرى الغيوم السوداء ثم يقول: "اللهم سلم سلم, اللهم سلم سلم" على أمة لا تعرف شيئًا عن شئونها.
لقد تقرحت أكباد الصالحين كمدًا مما يجرى في الأرض المباركة في فلسطين الحبيبة, إن منظر الطفل ذي الأعوام الإثني عشر وهو يلفظ روحه الطاهرة البريئة, وتسيل دماؤه -التي ستبقى شاهدًا- على تفرج عالم بأكمله على مأساة لا تصدق، وإن هذا المنظر من الصعب أن ينسى, وإن كل نفس مؤمنة أبية حرة حق لها أن تتساءل إلى متى هذا الذل؟ وماذا بإمكاننا أن نفعل نصرة لإخواننا الفلسطينيين, ومتى يأتي الوقت الذي يخلى بين المسلمين وعدوهم ليشفي الله صدور قوم مؤمنين.
ولقد آن لكلِّ مسلمٍ أن يُخرجَ القلمَ ويَكتُبَ، وأن يرفعَ عقيرتَه ويَندُبَ، وأن يرتقيَ منبرَه ويَخطُب، وأن يرفعَ سلاحَه ويَضرِب... نعم؛ حان الوقت! فدعوني أبثُّ إليكم أحزان كل عربي مسلم.
لا يدري ماذا يقول المسلم وبماذا يبدأ، والمجازر الدموية على أرض فلسطين قد تعدت الشيوخ والنساء والآمنين حتى وصلت الأطفال الصغار، ممن هم في سن العاشرة ونحوها والعالم كله يتفرج، وكأن الأمر لا يعنيه. فلقد رخصت دماء المسلمين عند اليهود الخونة.
يقول الرسول: "لأن تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون على لله من أن يراق دم امرئ مسلم". وفي رواية: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم" رواه الترمذي والنسائي.
وبالرغم من غلاء دم المسلم فإن المجازر باتت تقام للمسلمين في كل مكان، وأصبح الدم المسلم رخيصاً لا يقام لإراقته وزن.
وإن العالم كله من أقصاه إلى أقصاه لا يكاد يغمض عينيه حتى يفتحها على هول المأساة التي يعيشها المسلمون على أرض فلسطين.
لقد كان من المتوقع أن الشعارات البراقة التي يرفعها الغرب الكافر مثل حقوق الإنسان، والشرعية الدولية، والنظام العالمي الجديد، والديمقراطية، سيكون الغرب جاداً في عدم تجاوز حدودها، لكن أحداث القدس الحالية والمذابح المرتكبة هناك، كشفت عورة الدول الغربية وأبانت زيف وعنصرية شعار حقوق الإنسان، وعُرف من هو الإنسان الذي تحفظ حقوقه، إنه كل أحد ما عدا المسلم.
إن حق تقرير المصير للشعوب داسته رصاصات اليهود ومزقته طائراتهم، واستخدموا المدرعات والأسلحة الثقيلة في مواجهة شعب أعزل، وقد بلغ عدد القتلى بالعشرات والجرحى وصل إلى ألف وثلاثمائة جريح والله المستعان.
ومع كل هذا تجد الصمت العجيب للمجتمع الدولي على الغطرسة والعربدة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.
أيها المسلمون: لا يخفى على ذي قلب ما يتعرض له إخواننا في القدس وفلسطين وهم يذودون عن حياض الإسلام ومقدساته، وكيف يتعرضون للقتل بوحشية وهمجية من اليهود المعتدين.
والعالم كله شرقاً وغرباً في موقف المتفرج الذي يلوم المعتدى عليه ولا يجرؤ أن يعاتب المجرم فضلاً أن يوقفه عند حده.
ولا شك أن الأمة تجني ثماراً نكدة تحصدها اليوم، يوم أن تخلت عن عزتها وكرامتها، يوم أن تسولت على موائد المفاوضات لاهثة وراء سلام مزعوم لا يمكن أبداً أن يتحقق، لأنه وبكل وضوح مع أناس لا عهد لهم ولا ميثاق ولا خلاق. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) [النساء:122]، وهو سبحانه القائل عنهم: (أَوَكُلَّمَا عَـاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [ البقرة:100].
وتتوالى الأحداث، وتتفتق الجروح؛ ولعمر الحق إنه لمظهر من مظاهر الهوان، ولا تزال الأمة تبتلى بأحداث وقضايا حتى ينُسي آخرها أولها، ويغطي حديثها على قديمها.
كثيرة هي التساؤلات.. ونحن نرى ما تتقلب فيه الأمة من نكبات خلال سنوات، قرن مضى بل أكثر .. نذهب ونعود .. ونتكلم ونصمت .. لكنما هو حديث واحد .. وهي قضية القضايا .. قضية تجمعت فيها كل المصائب .. قضية أرتنا كلَّ عيوبنا .. ووضحت خللنا وتناقضنا .. قضية مصيرية ارتبطت بها كل القضايا .. نشأت قضايا المسلمين بعدها على شاكلتها.
رأينا فيها دماءنا التي أهدرت .. رأينا فيها كرامتنا التي مرغت .. رأينا بيوتنا تحرق وتهدم .. وأشجارنا تجتث .. رأينا نساءنا تهان كرامتهن .. إنها الأرض المقدسة .. قبلة الأمة الأولى وبوابة السماء ومهد الأنبياء وميراث الأجداد .. مسؤولية الأحفاد .. معراج محمدي .. وعهد عمري .. إلى مسجدها تشد الرحال ومن قبله تشد الأبدان والنفوس والأفئدة.
فتحه المسلمون بعد وفاة الرسول بست سنوات، وحكموه قروناً طويلة ثم احتله الصليبيون تسعين عاماً فأخرجهم صلاح الدين رحمه الله.
وإن احتله اليهود هذه الأيام فإنهم لن يخرجوا إلا بأمثال عمر وصلاح .. إنها فلسطين المشرفة .. وقدسها المقدسة.
ونمنا عن القدس حتى تحدر *** دمع الرجولة منا دمـاء
وأغضى عن القدس أبطالنا *** فزلزل شارون منها الإباء
فـلا عمر يستشير الإخاء *** ولا خالد أسد الكبريـاء
ولا من صلاح يقينا البلاء *** ويحمي حمى موطن الأنبياء
أيها الأحبة: حديثنا يتجدد عن فلسطين .. فلسطين التي يدمى جرحها كل يوم؛ فماذا فعلنا لها، ماذا قدمنا من تضحيات .. وماذا حققنا من التنازلات .. وهل أدينا أقل الواجبات؟! أمام صيحات أمهاتنا وأخواتنا المكلومات؟!
نداءات استغاثة يقدمها إخواننا كلَّ يوم في أرض الإسراء والمعراج، قدموا دماءهم وبذلوا أرواحهم وهدمت منازلهم وحوصروا في ديارهم؟! فهل قمنا بأبسط أدوار النصرة لهم؟ بل هل بحثنا في أسباب خسائرنا وهواننا ونحن أعز الأمم؟! هل أزكى هزائمنا عوجُُ خلقي؟! أو خلل سياسي؟ أم غش ثقافي؟! أو انحراف عقدي أم جبن وتجاهل يؤخر يوم النصر؟! تأتينا قضية فلسطين الدامية بعشرات الضحايا هذه الأيام؛ لتكون محطة امتحان وكشفاً لقوة المسلمين وغيرتهم على دينهم وأوطانهم وحرماتهم.
لقد أبانت لنا قضية فلسطين وبعض قضايانا الأخرى مثل الشيشان وأفغانستان مقدار ما استودعت هذه الأمة من خير في شبابها وشيوخها ونسائها حين ترى أولئك الأبطال الذين وقفوا في وجه أعدائهم لاسيما الصهاينة يقاومونهم بالحجر أمام أسلحتهم ومجنزراتهم .. يسارعون إلى ملاقاة ربهم، دماؤهم على ثيابهم وأبدانهم لم ترفع؛ لتبقى وساماً فوق صدورهم، يقدمون أنفسهم شهداء في سبيل الله لقتل الصهاينة اليهود في محلاتهم وسيارتهم.
وفلسطين التي أبانت لنا هذه العزة وأوضحت مقدار خذلاننا وخورنا، وكثير منا يرى ما يقع فلا نحير جواباً .. ولا يحرك بعضنا ساكناً .. تقع أمامهم الحوداث وتدْلهمّ الخطوب فلا يألمون لمتألم .. ولا يتوجعون لمستصرخ .. ولا يحنون لبائس .. بل أعظم من كل ذلك أنه في ذات الوقت الذي يذبح فيه المسلمون ترى كثيراً منا لاهين عن مصابهم بإقامة مهرجانات سياحية تسوق للعهر والفجور .. أو رقص على جراح الأمة بحفلات غنائية .. فإلى الله المشتكى، وبه وحده المرتجى لإغاثة هؤلاء المنكوبين.
أيها الإخوة المؤمنون: لقد أتى على مسلمي فلسطين قرابة قرن من الزمن مرابطين في ثغور الإباء .. مدافعين بأموالهم وأنفسهم عن واسطة العقد في بلاد الشام.
عن البلاد التي كتبت تاريخها بدماء الصحابة، وطهرت بعد فضل الله بسيوفهم. تسلَّمها أبو حفص عمر ثم تتابعت حكومات الإسلام في أرضها وتعالت رايات الإيمان في ساحاتها، حاول الصليبيون كسرها فجاسوا خلال الديار، لكن المسلمين وقفوا لهم بالمرصاد .. وقفوا لهم حين كان العلماء يحدثونهم عن الجهاد ويحثونهم عليه .. ويوضحون لهم كيف يفتح الجهاد أبواب الجنان، وكيف يوصد أبواب المذلة والهوان .. ومقدار ما يضخ من دماء الكرامة والعزة في الجسد الإسلامي فيطيرون شوقاً إلى الجنان ولسان حالهم:
يستعذبون المـوت قبـل لقائـه *** وهم إذا حمى الوطيس تدفقوا
خمّوا المصاحف للصدور وأسرعوا *** ووجوههم فيها الشهادة تشرق
أيها المسلمون: إن جُرح فلسطين أعظم جرح، وكارثتها أعظم الكوارث، أرض فلسطين ليست ملكاً للفلسطينيين وحدهم، بل هي للمسلمين جميعاً، هي أمانة في أعناقهم، فهي ميراث نبيهم، وإذا كان يهود قد تسلطوا عليها وطردوا أهلها، وسفكوا الدماء بها، ولا زالوا منذ خمسين سنة يرتكبون فيها المظالم والتصرفات الوحشية تحت حماية الدولة الأمريكية. فما كان للمسلمين أن يعترفوا باغتصاب عدو فاجر خبيث، ولا أن ينساقوا تحت أي ضغط لما يسمى بعملية السلام، وهي في الواقع عملية استسلام، لقد كان على المسلمين أن يحاسبوا أنفسهم، وأن يصلحوا أحوالهم، كما فعل أجدادهم عندما واجهوا الاحتلال الصليبي لفلسطين مدة تزيد عن تسعين سنة، ومع ذلك لم يستسلموا بل نصروا الله بتحكيم شرعه، فنصرهم الله القائل: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران:126].
والآن أما آن للأمة أن تفيق من غفلتها وتستيقظ من نومتها وأن تنفض عن نفسها لباس الذل وتعود إلى سر عزتها وعنوان مجدها، وأن تنتصر لدينها وتنصر أبناءها في أرض الرباط. وإذا تعذر النصر بالمال والعتاد والنفس لأسباب لا تخفى؛ فلا أقل من المؤازرة والنصرة بالكلمة والدعاء.
اللهم ربنا عز جارك، وجلّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، اللهم لا يرد أمرك ولا يهزم جندك. سبحانك وبحمدك .. اللهم انصر جندك وأيدهم في فلسطين وأفغانستان وفي كشمير والفلبين والشيشان .. اللهم بارك في حجارتهم واجعلها سجيلاً على رؤوس اليهود الغاصبين .. اللهم اجعل قتلهم لليهود إبادة، واجعل جهادهم عبادة .. واجعل موتهم شهادة ..اللهم سدد رميهم، وكن لهم ولا تكن عليهم واحفظ دينهم وعقيدتهم ودماءهم، اللهم وطهر المقدسات من دنس اليهود الحاقدين والصليبين المتآمرين ومؤامرات المنافقين المتخاذلين.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أكرم الأمة وأعزها بالإسلام، أحمده سبحانه كتب الغلبة والظهور لدينه ما تعاقبت الليالي والأيام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرشد الخلائق إلى طريق الجنة دار السلام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الأئمة المتقين الأبرار الأعلام.
نعم أيها الأخوة المؤمنون: سمعتم في الخطبة الأولى عن أرض الأقصى، وإن ما سمعتم قليل من كثير، إنه أمر مؤلم وحدث مفزع لكنه ليس الأول, ليس الأول في عصر الإهانات, ليس الأول في عصر الخيانات, ولن يكون الأخير مادامت أمة الإسلام غارقة في تبعيتها لأعدائها, إلى متى تستمر عملية التجهيل المتعمد لهذه الأمة, إلى متى تغطى سوءات الأعداء؟ من المسئول عن سيلان الدماء, من المسئول عن أنين الشهداء، من الذي سيوقف هذه المهازل, من سيضمد جراح المصابين برصاص الغدر اليهودي.
من يصدق؟ من يصدق؟ فئام قليلة من إخوة القردة والخنازير يسومون أمة تزيد على الألف مليون سوء العذاب.
نعم؛ إنه يجب أن يعلم ويقال بصراحة: إن هذه الأمة لم تمكن أصلاً من مواجهة اليهود, ولم يمكن كثير من الذين تسيل دموعهم شوقًا إلى الجهاد في سبيل الله, لم يمكنوا من إظهار حقيقة جبن اليهود وأعوانهم, لابد للأمة أن تعلم أن الهزائم المتكررة المعاصرة على يد اليهود كانت هزائم أنظمة وليست هزائم شعوب, كانت هزائم لرايات جاهلية, ولم تكن الرايات في يوم من الأيام رايات إسلامية, وإذا علم السبب بطل العجب.
أيها المؤمنون: إن إخوانكم في فلسطين ينتظرون منكم الدعم والمساندة والنصرة لانتفاضتهم، إن من يرى منظر الشهداء والأطفال الأبرياء يجب أن يقدم ما يستطيع لهم.
أين نحن من منظر تلك المرأة الفلسطينية والتي خطت تجاعيد السنين وجهها وهي تنظر في ركام بيتها المتهدم وتنكث التراب وتصيح إلى الله، إلى من نشتكي أين إخواننا؟ إنها والله ثم والله مسئولية، على عاتق كل واحد منا سمع ما قلناه عن إخواننا في فلسطين، عليه مسئولية أن يقدم ما يستطيع من مال ودعم لقضيتهم، أين القنوت لطلب نصرتهم في المساجد.
إننا -إخوتي- مطالبون بإبراء ذمتنا بنصرتهم وعدم خذلانهم، ومن نصر مسلماً نصره الله في موطن يحب فيه نصرته، ومن خذل مسلماً خذله الله.
ولنتصور -أيها الإخوة- أن هؤلاء الأطفال هم أولادنا وأن تلك العجائز هم أمهاتنا ثم لنقدم لهن الدعم ولنأخذ العدة.
ومن العدة مساعدة المسلمين هناك الآن، بالمال والدعاء، فإن لكم إخواناً متمسكين بدينهم في تلك البلاد، يعيشون تحت وطأة يهود، يعانون أموراً لا يعلم بها إلا الله. وهم بحاجة إلى دعمكم ودعائكم، في أرض فلسطين المباركة والتي يتعرض أبناؤها وشبابها إلى نقمة أعداء الله وإلى أبشع الإهانات من إخوان القردة والخنازير، فنهيب بكم جميعاً -أيها الأخوة- أن تشمروا، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.
ثم اعلموا أنّ الله أمركم بأمرٍ عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبيِّ الكريم، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي