وكان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر، فقيل له: إنه يوم فرح وسرور، والحقيقة هو يوم فرح وسرور، لكن هذا الصحابي يغلب عليه الحزن في العيد: قال: صدقتم، ولكنني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملاً، فلا أدري أقبله أم لم لا... من علامات القبول، قبول الصيام والقيام: أن يكون حال العبد بعد الصيام أفضل من حاله قبل رمضان.
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم -صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد-، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
علامات قبول الصيام والقيام:
أيها الإخوة الكرام: انقضى شهر رمضان، فوداعاً يا رمضان، وداعاً يا شهر الصبر والغفران، وداعاً يا شهر القرآن، وداعاً يا شهر الصيام والقيام، وداعاً يا شهر الرحمات والقربات، وداعاً يا شهر الجود والإحسان، وداعاً يا شهر التوبة والعتق من النار، وداعاً يا شهر الاعتكاف والخلوات، وداعاً يا شهر الانتصارات والغزوات الفاصلات.
أيها الإخوة الكرام: انقضى رمضان، وانصرمت أيامه ولياليه، ولقد ربح الرابحون، وخسر الخاسرون، فهنيئاً لمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً، ويا خيبة من ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وليس له من قيامه إلا السهر والتعب، هنيئاً للمقبولين، وجبر الله كسر المحرومين، وخفف مصاب المغبونين.
كان سيدنا علي -رضي الله عنه- ينادي في آخر ليلة من رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنئه، ومن هذا المحروم فنعزيه؟
سيدنا عمر بن عبد العزيز خطب يوم الفطر فقال: أيها الناس: إنكم صمتم لله ثلاثين يوماً، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم.
أيها الإخوة الكرام: من علامات القبول، قبول الصيام والقيام: أن يكون حال العبد بعد الصيام أفضل من حاله قبل رمضان.
لذلك أيها الإخوة الكرام، يودَّع رمضان بالأعمال التالية:
1- التوبة النصوح من جميع الذنوب والآثام.
2- نية إصلاح المستقبل، بالعزم على أن يكون حالنا بعد رمضان أفضل من حالنا قبله، فقد خاب وخسر من عرف ربه في رمضان، وجهله في غيره من الشهور.
3- خوف عدم القبول، أن يغلب على المرء الخوف والحذر من عدم قبول العمل.
روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: كانوا لقبول العمل أشد اهتماماً منهم بالعمل، العبرة بالقبول، ألم تسمع قول الله عز وجل: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27].
وكان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر، فقيل له: إنه يوم فرح وسرور، والحقيقة هو يوم فرح وسرور، لكن هذا الصحابي يغلب عليه الحزن في العيد: قال: صدقتم، ولكنني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملاً، فلا أدري أقبله أم لم لا.
أيها الإخوة الكرام، من الأعمال التي تجب علينا بعد رمضان:
4- أن نشكر الله عز وجل، وأن نحمده أن بلَّغنا رمضان، ووفقنا فيه على الصيام والقيام، فقد حرم من ذلك خلق كثير.
والطاعة أيها الإخوة الكرام، تنقضي متاعبها، ويبقى ثوابها، بينما المعصية تنقضي لذتها، ويبقى إثمها.
وينبغي أن نسأل الله جل جلاله أن يبلغنا رمضان القادم، وما بعده.
وينبغي أن نعاهد أنفسنا بعد رمضان على نصرة هذا الدين، والدفاع عن سنة سيد المرسلين، والنصح لعامة المسلمين.
وأن نحقق شيئاً من الجهاد في سبيل الله، فمن مات، ولم يجاهد، ولم يحدث نفسه بالجهاد مات على شعبة من شعب النفاق.
أيها الإخوة الكرام:
والجهاد أنواع، فمن الجهاد ما يلي:
- جهاد النفس والهوى، الجهاد النفسي.
-الجهاد الدعوي، قال تعالى: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان: 52].
-الجهاد البنائي، فإذا صح الجهاد النفسي والجهاد الدعوي والجهاد البنائي، ربما وفقنا إلى الانتصار في الجهاد القتالي.
أيها الإخوة الكرام: وينبغي أن نواصل الجد والمثابرة على الطاعات، والإكثار من القربات، فإن الحسنات يذهبن السيئات، ثم إنه ينبغي بعد رمضان، أن نكثر من ذكر هاذم اللذات، ومفرق الأحباب، ومشتت الجماعات، وميتم البنين والبنات، الموت، ونذكر أن العمر سينقضي كما انقضى رمضان، فإن الليالي لمبليات لكل جديد، ومفرقات عن كل لذيذ وحبيب، فالمغرور من غرته لذة الحياة الدنيا، والغافل من غفل عن آخرته بدنياه.
أيها الإخوة الكرام:
رمضان يرمض الذنوب، أي يحرقها، في الحديث الصحيح: "مَنْ صَام رمضانَ، وأتْبَعَهُ بِستّ من شَوَّال، كان كصيامِ الدَّهْرِ"( مسلم)، وفي هذا الحديث ملمح اجتماعي، وملمح عبادي، وملمح صحي:
-الملمح الصحي، فالإنسان حينما تعود على صيام الشهر بأكمله، ينبغي أن ينتقل إلى الإفطار الكامل بالتدريج، هذا ملمح صحي.
-أما الملمح الاجتماعي، أن المرأة بالأعم الأغلب أفطرت بعض أيام رمضان، فإذا صام زوجها بعد رمضان هذه الأيام الستة، شجعها على قضاء هذه الأيام في أقرب وقت، بينما لو أرادت أن تصوم وحدها ربما تمهلت، وكسلت، وانقضى عام، ولم تصم ما عليها، لذلك حينما يصوم الزوج هذه الأيام الستة يشجع التي فاتها بعض أيام رمضان على أن تصوم مع زوجها، إذاً على الأسرة أن تلتئم ثانية في هذه الأيام الستة.
-أما الملمح العبادي، فرمضان فرض، والستة من شوال نفل، وأهمية النوافل تتضح في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"قال الله تعالى: من عادى لي وَلِيّاً، فقد آذَنتُه بحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مِنْ أداءِ ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّهُ، فإذا أحببتُهُ كُنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألَني أعْطَيتُه، وإن استَعَاذَ بي أعَذْتُه، وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعله، تردّدي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مَساءَتَه" (البخاري).
أيها الإخوة الكرام: لو تصورنا إنساناً لم يعجبه صيامه في رمضان بإمكانه أن يجعل شهر شوال، والذي بعد شوال كرمضان، فلذلك من فضل الله علينا العميم أنه فتح لنا باب التوبة على مصارعها في كل زمان ومكان.
أيها الإخوة الكرام: التوبة في حقيقتها مخرج النجاة للإنسان، حينما تحيط به سيئاته.
قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2 ، 3].
ولله در القائل:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكان يظن أنها لا تفرج
والقائل:
كن عن همومك معرضا*** وكِلِ الأمور إلى القضا
وابشر بخيــر عاجل **** تنسى به ما قـد مضى
فلـرب أمـر مسخـط*** لك في عواقبـه رضا
ولربما ضاق المضيـق *** وربما اتســع الفضا
اللـــه يفعل ما يشاء *** فلا تكـــن معترضا
الله عودك الجميـــل *** فقس على ما قد مضى
لو أن واحداً منا لم يعجبه صيامه في رمضان، وفاته خير كثير، فليجعل من شوال امتداداً لرمضان، وليجعل أي شهر في العام امتداداً وترميماً لما فاته في رمضان، وذلك بالتوبة.
فالتوبة أيها الإخوة الكرام، مخرج النجاة للإنسان، حينما تحيط به سيئاته، وهي صمام الأمان حينما تضغط عليه سيئاته، وهي تصحيح المسار حينما تضله أهواؤه وشهواته، وهي حبل الله المتين حينما تغرقه زلاته، فمن أكبر رحمات الله عز وجل، أنه فتح أمامنا باب التوبة قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ)[البقرة: 222]، وقوله: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء: 27]، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ" (ابن ماجة).
أيها الإخوة الكرام: ليست البطولة أن ننتصر على النفس في رمضان، ثم ننخذل أمامها بقية العام، ولكن البطولة أن نحافظ على هذا النصر على طول الدوران، وتقلبات الزمان والمكان، فمن السهل جداً أن تضبط نفسك في هذه الأيام الثلاثين من رمضان، ولكن البطولة أن يستمر هذا الضبط، هذا الذي يفعله معظم الناس، إنهم ينضبطون في رمضان انضباطاً كلياً أو جزئياً، ثم يتفلتون بعد رمضان، هؤلاء ما عرفوا حقيقة الصيام.
حينما اصطفى الله شهر رمضان على بقية الشهور والأيام، اصطفاه ليكون فيه الصفاء مع ربك، ولينسحب هذا الصفاء على بقية شهور العام، وحينما اصطفى الله بيت الله الحرام على كل الأمكنة في الأرض، أراد من هذا الاصطفاء أن يكون لك صفاء في هذا المكان، ثم أن ينسحب هذا الصفاء على بقية الأمكنة، وحينما اصطفى النبي عليه الصلاة والسلام على بقية البشر، أراد أن يكون هذا النبي قدوة لك.
أيها الإخوة الكرام: ليست البطولة أن ننتصر في شهر واحد فقط، فبلوغ القمة أحياناً سهل أمام المحافظة عليها، فالبطولة لا أن نصل فحسب، بل أن نبقى في قمة الانتصار على النفس، وليست البطولة أن نضبط ألسنتنا في رمضان فنكفها عن الغيبة والنميمة وقول الزور، ثم نطلقها بعد رمضان في حديث الكذب والبهتان، ولكن البطولة أن تستقيم منا الألسنة، وأن تصلح فينا القلوب ما دامت الأرواح في الأبدان، وليست البطولة أن نغض أبصارنا عن محارم الله، وأن نضبط شهواتنا غير المشروعة في رمضان، ثم نعود إلى ما كنا عليه بعد رمضان، إنا إذاً كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، ولكن البطولة أن تصوم جوارحنا عن كل معصية في رمضان وبعد رمضان، فلا تفطر حتى تلقى الواحد الديان.
وليست البطولة أن نتحرى الحلال في رمضان خوفاً من أن يرد علينا صيامنا، ثم نتهاون في تحريه بعد رمضان على أنه عادة من عوائدنا، ونمط شائع من سلوكنا، ولكن البطولة أن يكون الورع مبدأً ثابتاً، وسلوكاً مستمراً، وليست البطولة أن نبتعد عن المجالس التي لا ترضي الله إكراماً لرمضان، فإذا ودعنا شهر الصيام آثرنا حظوظ أنفسنا على أمانة أعمالنا وواجباتنا.
مثل هذا الإنسان لم يفقه حقيقة الصيام، ولا جوهر الإسلام، إنه كالناقة، عقلها أهلها، ثم أطلقوها، فلا تدري لا لمَ عقلت؟ ولا لمَ أطلقت؟ وهو لا يدري لا لم صام، ولا لمَ أفطر.
أيها الإخوة الكرام: مع أن رمضان شهر التوبة والغفران، ولكن لا يمكن أن تكون التوبة قاصرة على رمضان، بل هي في كل شهور العام، قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53]، وقال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم: 8].
قال بعض العلماء: التوبة النصوح ندم في القلب، واستغفار باللسان، وإقلاع عن الذنب.
وفي الحديث القدسي: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله: يا ابن آدم، إِنَّكَ ما دَعَوْتَني ورَجَوْتَني، غفرتُ لك على ما كانَ مِنكَ، ولا أُبالِي، يا ابنَ آدم، لو بلغتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السماءِ، ثم استَغْفَرتَني، غَفَرْتُ لك، ولا أُبالي، يا ابنَ آدم، إِنَّكَ لو أتيتني بِقُرابِ الأرض خَطَايا، ثم لَقِيتَني لا تُشْرِكُ بي شيئاً، لأَتَيْتُكَ بِقُرابِها مَغْفِرَة" (الترمذي).
ومن تاب إلى الله توبة نصوحاً، أنسى الله حافظيه وجوارحه وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه، ورد في الأثر: " أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب".
أيها الإخوة الكرام: التوبة علم، وحال، وفعل:
- التوبة علم: أما أنها علم: فلأنك كيف تتوب من ذنب، لا تعلم أنه ذنب؟ لابد من طلب العلم كي تقيم نفسك تقييماً صحيحاً.
-التوبة حال: أما أنها حال: فلأنك حينما تدرك عظم الخطأ الذي ارتكبته، لابد من أن تحس بالندم، فالندم توبة.
-التوبة فعل: وأما أنها فعل: فلا بد من أن يعقب الندم حركة، وهي الإقلاع عن الذنب، وإصلاح لما سبق، وعزم في المستقبل، تماماً كالقانون الذي يحكم علاقتنا بما حولنا:
لو أن واحداً منا رأى أفعى أو ثعباناً مخيفاً في بستان، فمفهومات الثعبان التي حصّلها من دراسته وخبراته وعلاقاته تشعره بالخطر، وإذا شعر بالخطر أصابه حال الخوف، وحال الخوف يدعوه إلى الحركة، فإما أن يهرب، وإما أن يقتل الثعبان، أما أن تدرك ولا تنفعل فالإدراك غير صحيح، وأما أن تنفعل ولا تتحرك فالانفعال غير صحيح، والدليل قوله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) [التحريم: 4]، علامة إصغائك للحق، وعلامة سماعك: أن ينقلب هذا الوعي عقب السماع إلى حركة، وإلى سلوك، قال تعالى:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) [الأنفال: 72].
وعلامة إيمان المؤمن، أنه يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كالذباب مرَّ على أنفه فأطاره.
وقيل: لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر على من اجترأت.
ويقول الإمام علي -كرم الله وجهه-: الغنى والفقر بعد العرض على الله.
لا يسمى الغني غنياً في الدنيا، ولا الفقير فقيراً، ولكنه بعد العرض على الله يفرز الناس إلى أغنياء، وإلى فقراء، إلى أغنياء بالأعمال الصالحة، وإلى فقراء من الأعمال الصالحة، يقول تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110].
الاستقامة تحقق السلامة، ولكن القرب من الله ثمنه البذل والتضحية، ولاستقامة أزالت كل العقبات التي في الطريق إلى الله، لذلك كل أوصاف الاستقامة تبدأ بالنفي، فلا كذب ولا غش ولا غيبة، ولا، ولا، قال تعالى: (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10]، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) [الكهف: 107].
أيها الإخوة الكرام: بقي مع الاستقامة والعمل الصالح، الإخلاص، فالله عز وجل يقول في الحديث " أنا أغْنى الشُّركاء عن الشِّركِ، مَنْ عَمِل عَمَلاً أشرك فيه مَعي غيري، تركتهُ وشِرْكَهُ" (مسلم).
قال تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)[الإنسان: 9]، وقد ورد في الأثر: "أن ركعتين من ورع أفضل من ألف ركعة من مخلط"، وأن ابن عباس -رضي الله عنهما- حينما كان معتكفاً في مسجد رسول الله، بعد موته، -عليه الصلاة والسلام- رأى رجلاً كئيباً، فسأله: مالك؟ قال: ديون لزمتني ما أطيق سدادها، قال: لمن؟ قال: لفلان، قال أتحب أن أكلمه لك؟ قال: إذا شئت، فأراد أن يخرج من معتكفه، فقال له أحدهم: يا ابن عباس، أنسيت أنك معتكف؟ قال: لا والله، ولكنني سمعت صاحب هذا القبر، والعهد به قريب، ودمعت عيناه، يقول: والله لأن أمشي مع أخ في حاجته، خير لي من صيام شهر، واعتكافه، في مسجدي هذا.
وأخيراً :
أيها الإخوة الكرام: نريد أن نضع اليد على ملخص هذا الموضوع: يجب أن يكون المؤمن بعد رمضان أفضل منه فيما قبل رمضان، إذاً صيامه صح، وعبادته صحت، ونرجو الله أن يكون قد قبل هذا الصيام والقيام، أما إذا عاد بعد رمضان إلى ما كان عليه قبل رمضان، فإنه لم يحقق الصيام الذي أراده الله عز وجل.
أيها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم -صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد- وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام: لقد فطر الإنسان فطرة عالية، وكيف لا تكون عالية وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، فإذا حاد الإنسان عن مبادئ فطرته، وخرق حدود إنسانيته بالإثم والعدوان، اختلَّ توازنه النفسي، لأن تطابق الفطرة مع منهج الله تطابق تام، فسواء خرجت عن منهج الله، أو عن مبادئ فطرتك فالمؤدى واحد.
فالإنسان إذا حاد عن مبادئ فطرته، وخرق حدود إنسانيته بالإثم والعدوان، اختلَّ توازنه النفسي، وهذا الاختلال سبب رئيس لكثير من الأمراض العضوية التي تصيبه.
أيها الإخوة الكرام، كلما تقدم الطب زاد من ربط الأعراض العضوية مع الأعراض النفسية، كلما تقدم الطب وجد هذه العلاقة تزداد اتساعاً في معظم الأمراض بين الانهيار النفسي الداخلي، ومنعكسات هذا الانهيار في العضوية.
أيها الإخوة الكرام: والآية الكريمة، قال تعالى: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) [آل عمران: 119]، تعني أن الشدة النفسية أحياناً تكون قاتلة.
أيها الإخوة الكرام: سمِّها إن شئتَ شدة نفسية، سمِّها إن شئت توتراً نفسياً، سمِّها إن شئتَ اختلالَ توازن نفسي، وعلى كلٍّ:
هي سبب لكثير من الأمراض العضوية التي تصيبنا، كتسرع ضربات القلب واضطرابها، وتضيّق الشرايين الاختلاجي، وارتفاع ضغط الدم ذي المنشأ العصبي الذي هو في حقيقته ارتفاع لضغط الهم، وتقرحات الجهاز الهضمي، وأمراض الحساسية، وأمراض الأعصاب، والشلل العضوي ذي المنشأ النفسي.
وحينما يصطلح الإنسان مع الله، فيتوب من ذنوبه، ويستقيم على أمر ربه، ويعمل الصالحات تقرباً إليه، عندئذ: يشعر بأنه قد أزيح عن صدره كابوس ضاغط، كأنه جبل جاثم، وأن ظلمات بعضها فوق بعض قد تبددت من أمامه، وأن مشاعر الكآبة والضيق قد اختفت إلى غير رجعة، وعندئذ يشعر أن في قلبه من الطمأنينة والسعادة ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم، وعندئذ تتأثر العضوية بهذه الصحة النفسية تأثراً إيجابياً، فتزول أعراض أكثر الأمراض العضوية ذات المنشأ النفسي.
فالتوبة والعمل الصالح أساس الصحة النفسية، والصحة النفسية أساس صحة الجسد، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "استقيموا ولن تُحْصُوا"( مالك).
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمةَ الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، في العراق وفلسطين يا رب العالمين.
خذ بيد ولاة المسلمين لما تحب وترضى يا رب العالمين، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي