إنها عبادة الثقة بالله سبحانه وتعالى وهذه الثقة ثقة العبد بربه جل وعلا تتأتى بأمرين: -بمعرفة العبد ربه، وبمعرفة العبد نفسه، فإذا عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته وعظمته ونعوت جلاله وعرف نفسه بضعفها.
الحمد لله نستغفره ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به سبحانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله -صلوات ربي وسلامه عليه- وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى من سلك سبيلهم أو سار أو استنار بهدي المصطفى الكريم -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-.
أما بعد:
معاشر المسلمين: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى.
إخوة الدين والعقيدة: خلقنا الله جل وعلا في هذه الحياة لتحقيق غاية عظيمة، وتحقيق هدف نبيل ألا وهو عبادة الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، وهذه العبادة التي أمر الله جل وعلا بها تتنوع بين عبادات بدنية، وبين عبادات قلبية يتعرض فيها العبد لنفحات المولى، ويتعبد الله تعالى فيجد أثر وثمرة هذه العبادة بردا وسلاما على روحه وجسده في الدنيا قبل الآخرة.
ألا وإن من هذه العبادات القلبية العظيمة التي حثنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها وأمرنا بها وهي علامة من علامات تعظيم العبد للمولى جل وعلا، وعلامة على اطمئنان القلب وصدق توكله على الله جل وعلا.
إنها عبادة الثقة بالله سبحانه وتعالى وثقة العبد بربه تتأتى بأمرين: -بمعرفة العبد ربه، وبمعرفة العبد نفسه، فإذا عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته وعظمته ونعوت جلاله وعرف نفسه بضعفها أيقن عند ذلك وصدق قلبه في ثقته بالله -جل وعلا- فأعظم طريق إلى أن يثق العبد بالله هو أن يعرف الله سبحانه وتعالى والله جل وعلا يعرف بأسمائه الحسنى ويعرف بصفاته العلى، ويعرف بآثار خلقه في الأرض والسماء: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 190].
الثقة بالله تجمع بين عبادتين عظيمتين، تجمع بين الاستعانة بالله وبين التوكل على الله وكلتا هاتين العبادتين لا تتأتى إلا بالثقة بالله والاعتماد على الله جل وعلا.
بين البشر قد يكون هناك ثقة متبادلة؛ لكنه قد لا يكون معها اعتماد على بعضهم؛ لكن الله تعالى تثق به وتعتمد عليه لأنه سبحانه، إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون، فالله بيده الأمر كله ولهذا جمع الله بين هذين الأمرين في سورة الفاتحة فقال سبحانه وتعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5].
إن الثقة بالله علامة على صدق تعظيمه لله، وعلامة على توحيده للخالق جل وعلا، وأعظم الناس ثقة بالله جل وعلا هم الأنبياء والمرسلون -عليهم أفضل الصلاة وأتم السلام-.
يلقى إبراهيم -عليه السلام- في النار فيتبدى له جبريل فيقول يا إبراهيم ألك عندي حاجة؟ قال وهو في هذه اللحظة التي يتعلق فيها الغريق بالقشة، "أما إليك فلا وأما إلى الله فنعم" فقال: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء: 69].
ويأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بصحبته أبي بكر الصديق ويدخل في الغار ويلحقه المشركون ويقفون على عتبة باب الغار فينظر إليهم أبوبكر ويقول يا رسول الله "والله لو أبصر أحدهم موطأ قدميه لرآنا" فيقول -صلى الله عليه وسلم- وهو الواثق بالله وهو الذي علمنا كيف نثق بالله قال -صلى الله عليه وسلم-"يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، فقال تعالى: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40].
إنها الثقة بالله جل وعلا، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حينما ألقي في النار وقالها محمد يوم أن قال له الناس إن الناس قد اجتمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".
والثقة بالله من صفة أتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يحيى بن معاذ يقول: "ثلاثة من صفات الأولياء من اتصف بها فله الولاية التي قال عنها الله في كتابه: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس: 62]، ثلاث صفات لهؤلاء الأولياء: أولها الثقة بالله في كل شيء، وثانيا الغنى بالله عن كل شيء، وثالثها الرجوع إلى الله في كل شيء، قيل لحاتم الأصم وهو من عظماء الواثقين بربه ومولاه، ومن عظماء الزهاد قيل له "ما رأس الزهد؟" فقال "رأس الزهد الثقة بالله ووسطه الصبر وآخره الإخلاص لله جل وعلا".
لقد قص الله جل وعلا علينا في القرآن خبر أولئك الواثقين والواثقات بالله تعالى الذين رضوا بالله ربا وبالإسلام دينا، الذين زادت ثقتهم بالله تعالى عند الشدائد والنوائب لأنهم يعلمون أن الله إذا قال ومن أصدق من الله قيلا، وإذا تحدث ومن أحسن من الله حديثا ويعلمون أن الله جل وعلا إذا قضى أمرا فإنه يقول له كن فيكون.
ولهذا قص الله علينا خبر أم النبي موسى -عليه السلام- حينما أمر فرعون بقتل جميع غلمان بني إسرائيل من الذكور فكل ذكر يولد فلابد أن يقتله لأنه أخبر عن أمر من الكهنة أن سيولد غلام من بني إسرائيل وسيسلبه ملكه فبدأ بقتلهم فقال الأقباط إن قتلتهم فسينتقل العمل إلينا فاقتلهم سنة واتركهم سنة.
فولد هارون -عليه السلام- في السنة التي يترك فيها الغلمان وولد موسى -عليه السلام- في السنة التي يقتل فيها الغلمان حملت به أمه فكان حملا خفيفا فلم يشعر به الدايات ولا الأعين الذين كان يرسلهم فرعون ليبحث عن الحوامل ثم بعد ذلك يعلم النتيجة ذكر فيقتله أم أثنى فيدعها.
حملت به فكان حملا خفيفا فقال الله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص:7].
ثم كان نتيجة هذا الصبر، وهذه الثقة بالله قوله سبحانه: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [القصص:13].
نعم أيها المؤمنون: إنها الثقة بالله جل وعلا التي ربا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أممهم على ذلك، يقول -صلى الله عليه وسلم- "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف".
قيل لحاتم الأصم "على ما بنيت علاقتك بالله جل وعلا؟" فقال على أمور أربع: احفظوها ووعوها فإنها من أعظم ما يرشد العبد في سيره إلى الله جل وعلا: "عَلِمْتُ أَنَّ رِزْقِي لا يَأْكُلُهُ غَيْرِي، فَاطْمَأَنَّتْ نَفْسِي، وَعَلِمْتُ أَنَّ عَمَلِي لا يَعْمَلُهُ غَيْرِي، فَلَمْ أَشْتَغِلْ لِغَيْرِهِ، وَعَلِمْتُ أَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِينِي بَغْتَةً، فَأَنَا أُبَادِرُهُ، وَعَلِمْتُ أَنِّي لا أَخْلُو مِنْ عَيْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ مَا كُنْتُ، فَأَنَا مُسْتَحٍ مِنْهُ".
ومن أخبار أولئك الواثقين والواثقات بالله تعالى خبر هاجر أم إسماعيل وزوج النبي الكريم إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لما رزق الله إبراهيم بتلك النسمة المباركة إسماعيل -عليه السلام- أمره الله جل وعلا أن يأخذه وزوجه إلى مكة إلى هذه الأماكن المقدسة والبقاع المباركة صار بهم إبراهيم -عليه السلام- حتى دخل إلى مكة وقبل أن تبنى الكعبة وتحت دوحة عظيمة وهي الشجرة الكبيرة يأتي إبراهيم -عليه السلام- فيضع ابنه إسماعيل وزوجه هاجر ويضع معهم جراب فيه طعام وإناء فيه ماء ثم ينصرف.
تنظر هاجر إلى زوجها إلى إبراهيم -عليه السلام- الحليم الأواه المنيب كيف يتركهم في مكان لا أنيس به، قالت يا إبراهيم إلى من تكلنا، لم يلتفت -عليه السلام- فأعادت لعله لم يبلغه صوتي، يا إبراهيم إلى من تكلنا؟ ثم أعادت الثالثة.
لكن هاجر تعلم أن إبراهيم نبي من أنبياء الله جل وعلا وأنه يحمل قلب الأنبياء وهو الحليم الأواه المنيب ولن يترك هذا الأمر إلا بأمر من الله جل وعلا.
قالت يا إبراهيم ألله أمرك بهذا؟ قال "نعم" قالت "إذاً فاذهب فإن الله لا يضيعنا"، فلجأ إلى الله وقال: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم:37].
فرزقهم الله بقبيلة جرهم فكانوا أنس لهم ورزقها الله بماء زمزم عينا معينا طعام طعم وشفاء من سقم كما أخبر النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
نعم يا عباد الله إنها الثقة بالله والثقة بوعده.
ومن الثقة بالله: الثقة أن الله جل وعلا ناصرا عباده المؤمنين: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51].
ومن ذلك الثقة في دعاء الداعي إذا دعا الله جل وعلا فليدعو الله ويعلم أن الله قال: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62].
إذا قمت إلى الصلاة فثق بأن الله جل وعلا يقبل هذه العبادة لأن الله سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
لله في الخلق ما اختارت مشيئتُهُ *** ما الخيرُ إلا الذي يختاره اللهُ
إذا قضى اللهُ فاستسلم لقدرته *** ما لا مريء حيلةٌ في ما قضى اللهُ
تجري الأمورُ بأسباب لها علَلٌ *** تجري الأمورُ على ما قدر الله ُ
إن الأمورَ وإن ضاقت لها فرَجٌ *** كم من أمور شداد فرج اللهُ
إذا ابتليت فثق بالله وارضَ به *** إن الذي يكشف البلوَى هو اللهُ
يا صاحب الهم إن الهم منفرجٌ *** أبشـر بخيرٍ فإن الفارج الله
اليأس يقطع أحيانا بصاحبـه *** لا تيــأسن فـإن الصانع الله
الله يُحدث بعد العسر ميسرةً *** لا تجـزعنَّ فإن المانــع الله
إذا ابتليت فثق بالله وارض به *** إن الذي يكشف البلوى هو الله
حسبنا الله ونعم الوكيل نكررها ونرددها دائما ثقة بوعد الله، وثقة بأن ما قضى الله عزوجل هو خيرا لعباده المؤمنين.
اللهم إنا نسألك إيمانا صادقا ويقينا راسخا، نسألك يا ربنا علما نافعا وعملا صالحا ودعاء مستجابا ورزقا طيبا وعملا متقبلا.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي