.. فمقاصد الزواج سامية، وغاياته حميدة، وثمراته طيبة، وعوائده مباركة، وخيراته كثيرة، وفوائده وفيرة، فنعم الله به على العباد ظاهرة وباطنة، وآلاؤه عليهم به وافرة سابغة، فما دامت منافعه كذلك فليتعاون أهل الإيمان والتقوى على تحصيل ذلك بتيسير أموره، وتسهيل أسبابه، والدعوة إليه، والإعانة عليه، والترغيب فيه، والمسابقة إليه ..
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى فيما تأتون وما تذرون، وراقبوه فإنه سبحانه يعلم ما تسرون وما تعلنون، واحذروه فإنكم إليه منقلبون، وعلى تفريطكم نادمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
أيها الناس: إن تقوى الله تعالى هي عبادته بامتثال أمره واجتناب نهيه؛ إخلاصاً لوجهه واقتداءً بنبيه صلى الله عليه وسلم، وأمارتها أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك؛ فلا يراك مولاك معرضاً عن طاعته، ولا ملتبساً بمعصيته؛ فإن جهلت أو غفلت فاقترفت ما اقترفت - فكن سريع الأوبة، مبادراً إلى التوبة، فقد وعد -سبحانه- التائبين المصلحين بقوله: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة:39].
أيها المسلمون: اتقوا الله فقد وعد الله المتقين بصلاح الحال، وجميل العاقبة في المآل؛ فكل خير وفلاح في الدنيا والأخرى فهو ثمرة من ثمرات التقوى، كما نوهت بذلك الآيات المحكمات العظمى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) [الطلاق:2-3]. (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق:4]. (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق:5] (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96] (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [يونس:62-64] (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27] (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم:72] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:54-55].
فالمخرج من الضيق، والهداية إلى أقوم الطريق، وسعة الأرزاق، ويسر الأمور، من لدن الرب الكريم الخلاق، وتكفير السيئات، ومضاعفة الحسنات، وحلول البركات، والعافية من العقوبات، وذهاب الخوف والحزن، والعافية من المحن والفتن، وتوالي البشارات من الله بالمسرات، وقبول الأعمال الصالحات، والنجاة من النار، والفوز برحمة من الله ورضوان وجنات تجري من تحتها الأنهار - كل ذلك أساسه التقوى، ونهي النفس عن الهوى، ومجانبة أحوال أهل الشقى، والسير في جميع الأمور على نهج النبي المصطفى، والرسول المجتبى، في المقال والفعال، والنية وظاهر الحال، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:37-41].
أيها المسلمون: التقوى أصل ثابت، وأساس مكين، وركيزة موثوقة، وقاعدة راسخة ينبغي أن تبنى عليها الأعمال، وأن تصدر عنها الأقوال، وأن تنبعث منها الآمال، وتستقيم عليها الأحوال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
ألا وإن الزواج من المباني المهمة، والمشاريع المؤثرة في حاضر ومستقبل الأمة، والتي ينبغي أن تؤسس على التقوى، وأن يتبع فيه النبي المصطفى، والبعد عن الطغيان واتباع الهوى، وإيثار الحياة الدنيا؛ ليقوم بنيانه شامخاً، ويبقى صرحه راسخاً، فيكون (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم:24-25]. وقوله تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [التوبة:109].
أيها المسلمون: إنه ينبغي أن يكون الداخل إلى التزويج طلب مرضاة الله، وما وعد به من أطاعه واتقاه، والتمتع بالطيبات من نعمه، وانتظار المزيد من فضله وكرمه، في العاجل والآجر، والدنيا والآخرة، فيكون القصد منه غض الأبصار، وحفظ الفروج، وستر العورات، وصيانة الحرمات، وطلب الولد الصالح، وتحصيل ما رتب الله عليه من عظيم المصالح، وتكثير عباد الله، والتسبب في مكاثرة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته الأمم، والمباهاة، مع ما يترتب على ذلك من نشر النسب والصهر، وما ينبني عليه من تقوية الروابط الإيمانية، وتوثيق الصلات الاجتماعية، والتعاون على البر والتقوى، وقطع ذرائع الفساد والردى، والسلام من مستعصي الأمراض التي تنشأ عن ارتكاب الفواحش وهتك الأعراض؛ وإحياء سنن المرسلين، والبعد عن نهج الغواة المنحرفين.
فمقاصد الزواج سامية، وغاياته حميدة، وثمراته طيبة، وعوائده مباركة، وخيراته كثيرة، وفوائده وفيرة، فنعم الله به على العباد ظاهرة وباطنة، وآلاؤه عليهم به وافرة سابغة، فما دامت منافعه كذلك فليتعاون أهل الإيمان والتقوى على تحصيل ذلك بتيسير أموره، وتسهيل أسبابه، والدعوة إليه، والإعانة عليه، والترغيب فيه، والمسابقة إليه (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [النور:32]. وإذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثُلاث ورُبَاع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة..
واعلموا أن من بركة المرأة تيسير خطبتها وصداقها ورحمها، وأن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة، ولو كان في كثرة الصداق خير في الدنيا أو مكرمة في الآخرة - لكان أولاكم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، والقصد القصد تبلغوا..
أحسنوا إلى مواليكم، ولا تسيئوا إلى من تحت أيديكم، بل متى ما تقدم إليكم الخاطب، أو جاءكم الطالب ذو الخلق والدين فزوجوه؛ فإن في ذلك اتقاء الفتنة ودرء الفساد..
ولا بأس بعرض الرجل موليته على من عرف صلاح دينه وسيرته، فقد جاء ذلك في القرآن والأثر كما في قصة شعيب وعمر، إذ ذلك من وضع الشيء موضعه، وأداء الأمانة إلى أهلها، ومن صلحت نيته حسنت عاقبته، ومن اتقى الله وقاه، وأجزل له مثوبته وأحل عليه رضاه (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) [محمد:21].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء:66-70].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعاً بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي