الْوَرَعُ أَقْسَامٌ: وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ؛ وَهُوَ تَرْكُ مَا لا يُتَنَاوَلُ بِغَيْرِ نِيَّةِ الْقُوَّةِ عَلَى الْعِبَادَةِ. وَوَرَعُ الْمُتَّقِينَ؛ وَهُوَ تَرْكُ مَا لا شُبْهَةَ فِيهِ، وَلَكِنْ يُخْشَى أَنْ يَجُرَّ إِلَى الْحَرَامِ. وَوَرَعُ الصَّالِحِينَ؛ وَهُوَ تَرْكُ مَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ التَّحْرِيمِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الاحْتِمَالِ مَوْقِعٌ، فَإِنْ...
الحمد لله ...
في هذا الزمن ولانتشار الجهل بين كثير من الناس، وقعوا في الحرام الذي لا شبهة فيه، وإليكم بعض الأمثلة، فهذا يتزوج ويجمع بين المرأة وأختها، وبين المرأة وعمتها أو خالتها، وهذا يتزوج أخته في الرضاعة، وذلك يأتي زوجته في دبرها أو حال الحيض والنفاس، ولا يعلم أن فعله هذا حرام!.
وفي المطعومات؛ تجدهم يتناولون اللحوم المعلبة القادمة من بلاد أهلها ليسوا بأهل كتاب؛ مثل بلاد الوثنيين والشيوعيين، فإذا كتبوا عليها: "ذبح على الطريقة الإسلامية" صارت من المشتبهات، وتركها أولى.
وبعضهم لا يبالي، فيجمع بعض الدجاج الذي مات دون تذكية من المزارع فيطبخها، ويأكل الميتة.
وإذا شرب الخمر أو تناول المخدرات، يعلم أنها حرام، ومع ذلك يستحلون شرب التبغ والدخان، والشيشة، والتنباك، والتتن، عاتبني أحد كبار السن -رحمه الله تعالى- في أحد المساجد بعد درس عن تحريم الدخان، وهو من المدمنين على تناوله، قائلا: الحق عليكم يا مشايخ لِمَ لَمْ تخبرونا بذلك من قبل؟
وترك الدخان مباشرة.
وفي الملبوسات، يستحلون الذهب فيلبسونه، والحرير، فيرتدونه، وربما لم يسمعوا أبدا أنهما حرام على رجال هذه الأمة.
ويلبس الملابس التي عليها صور الصليب ولا يبالي.
وذلك الجهل لتقصيرهم واستهتارهم بدروس العلم.
إذا كان الأمر على ما وصفت لكم، فكيف تحرزهم عن المشتبهات؟
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ: "إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ" [رواه مسلم (1599) ونحوه في صحيح البخاري (52)].
وعَنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ" [صحيح البخاري (2051)].
"فَمَنْ تَرَكَ مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ" يَعْنِي: "أَنَّ مَنْ تَرَكَ الإِثْمَ مَعَ اشْتِبَاهِهِ عَلَيْهِ، وَعَدَمِ تَحَقُّقِهِ، فَهُوَ أَوْلَى بِتَرْكِهِ إِذَا اسْتَبَانَ لَهُ أَنَّهُ إِثْمٌ، وَهَذَا إِذَا كَانَ تَرْكُهُ تَحَرُّزًا مِنَ الإِثْمِ" [جامع العلوم والحكم، ت، الأرنؤوط (1/ 204)].
فمن المشتبهات التي تركها النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه مَرَّ بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ، قَالَ: "لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا" [صحيح البخاري (2431)].
فالصدقات محرمة على آل البيت، فقد ثبت أن أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: "أَخَذَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كِخْ كِخْ" لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قَالَ: "أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ" [صحيح البخاري (1491) صحيح مسلم (1069)].
ولم يأكل لحمَ الضَّبِّ لشبهة أن يكون من الأمم الممسوخة، فقد أُتِيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَبٍّ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَقَالَ: "لا أَدْرِي؛ لَعَلَّهُ مِنَ الْقُرُونِ الَّتِي مُسِخَتْ" [مسلم (1949)].
ثم إن خالد بن الوليد أكله بحضرته فلم ينكره.
"ويدخل في هذا الباب معاملة من كان في ماله شبهة أو خالطه ربى، فإن الاختيارَ تركُها إلى غيرها، وليس بمحرم عليك ذلك ما لم يتيقن أن عينه حرام، أو مخرجه من حرام، وقد رهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- درعه من يهودي على أصوع من شعير أخذها لقوت أهله، ومعلوم أنهم يُرْبون في تجاراتهم، ويستحلون أثمان الخمور، ووصفهم الله -تعالى- بأنهم سماعون للكذب أكالون للسحت، فعلى هذه الوجوه الثلاثة يجري الأمر فيما ذكرته لك" [معالم السنن، للخطابي (3/ 58)].
ومن المشتبهات: جوائز السلطان: "قَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ: "لا بَأْسَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ مَا لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فِي مَالِهِ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ، وَلَكِنْ عُلِمَ أَنَّ فِيهِ شُبْهَةً؛ فَلا بَأْسَ بِالأَكْلِ مِنْهُ" نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ.
ومَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ "فِي إِبَاحَةِ الأَخْذِ بِمَا يَقْضِي مِنَ الرِّبَا وَالْقِمَارِ" نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ.
وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَبَهِ حَلالُهُ بِحَرَامِهِ: "إِنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا أَخْرَجَ مِنْهُ قَدْرَ الْحَرَامِ، وَتَصَرَّفَ فِي الْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَلِيلاً، اجْتَنَبَهُ كُلَّهُ".
وَهَذَا؛ لأَنَّ الْقَلِيلَ إِذَا تَنَاوَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّهُ تَبْعُدُ مَعَهُ السَّلامَةُ مِنَ الْحَرَامِ بِخِلافِ الْكَثِيرِ، .. وَأَبَاحَ التَّصَرُّفَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بَعْدَ إِخْرَاجِ قَدْرِ الْحَرَامِ مِنْهُ، ... وَرَخَّصَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ فِي الأَكْلِ مِمَّنْ يُعْلَمُ فِي مَالِهِ حَرَامٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ الْحَرَامِ بِعَيْنِهِ.
وصَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ جَارٌ يَأْكُلُ الرِّبَا عَلانِيَةً وَلا يَتَحَرَّجُ مِنْ مَالٍ خَبِيثٍ يَأْخُذُهُ يَدَعُوهُ إِلَى طَعَامِهِ، قَالَ: "أَجِيبُوهُ؛ فَإِنَّمَا الْمَهْنَأُ لَكُمْ، وَالْوِزْرُ عَلَيْهِ".
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: "لا أَعْلَمُ لَهُ شَيْئًا إِلاّ خَبِيثًا أَوْ حَرَامًا، فَقَالَ: "أَجِيبُوهُ".
وَقَدْ صَحَّحَ الإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَكِنَّهُ عَارَضَهُ عَارِضٌ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الإِثْمُ حَوَازُّ الْقُلُوبِ... وَمَتَى عُلِمَ أَنَّ عَيْنَ الشَّيْءِ حَرَامٌ، أُخِذَ بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ، وَقَدْ حَكَى الإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ الرَّجُلِ يُقْضَى مِنَ الرِّبَا، قَالَ: "لا بَأْسَ بِهِ".
وَعَنِ الرَّجُلِ يُقْضَى مِنَ الْقِمَارِ، قَالَ: "لا بَأْسَ بِهِ" [خَرَّجَهُ الْخَلاَّلُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ].
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ خِلافُ هَذَا، وَأَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الْمَكَاسِبَ قَدْ فَسَدَتْ، فَخُذُوا مِنْهَا مَا شِبْهَ الْمُضْطَرِّ".
وَعَارَضَ الْمَرْوِيَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسَلْمَانَ، مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ "أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّهُ مِنْ حَرَامٍ فَاسْتَقَاءَهُ" [جامع العلوم والحكم، ت، الأرنؤوط (1/ 200)].
و "كان السلف يحبون أن يجعلوا بينهم وبين الحرام حاجزا من الحلال يكون وقاية بينهم وبين الحرام، فإن اضطروا؛ واقعوا ذلك الحلال، ولم يتعدَّوه، وأمَّا من وقع في المشتبه؛ فإنه لا يبقى له إلا الوقوع في الحرام المحض، فيوشك أن يتجرَّأَ عليه ويجسر" [فتح الباري، لابن رجب (1/ 227)].
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: "كُلُّ مَا شَكَكْتُ فِيهِ؛ فَالْوَرَعُ اجْتِنَابُهُ، ثُمَّ هُوَ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ وَمُسْتَحَبٌّ وَمَكْرُوهٌ؛ فَالْوَاجِبُ اجْتِنَابُ مَا يَسْتَلْزِمُهُ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ، وَالْمَنْدُوبُ اجْتِنَابُ مُعَامَلَةِ مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ، وَالْمَكْرُوهُ اجْتِنَابُ الرُّخَصِ الْمَشْرُوعَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّنَطُّعِ" [فتح الباري، لابن حجر (4/ 293)].
والتشدد في الورع يؤدي إلى التنطع، ففي "مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّنَطُّعِ فِي الْوَرَعِ؛ قَالَ الْغَزَالِيُّ:
الْوَرَعُ أَقْسَامٌ:
وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ؛ وَهُوَ تَرْكُ مَا لا يُتَنَاوَلُ بِغَيْرِ نِيَّةِ الْقُوَّةِ عَلَى الْعِبَادَةِ.
وَوَرَعُ الْمُتَّقِينَ؛ وَهُوَ تَرْكُ مَا لا شُبْهَةَ فِيهِ، وَلَكِنْ يُخْشَى أَنْ يَجُرَّ إِلَى الْحَرَامِ.
وَوَرَعُ الصَّالِحِينَ؛ وَهُوَ تَرْكُ مَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ التَّحْرِيمِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الاحْتِمَالِ مَوْقِعٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ وَرَعُ الْمُوَسْوَسِينَ... انْتَهَى.
وَغَرَضُ الْمُصَنِّفِ هُنَا بَيَانُ وَرَعِ الْمُوَسْوَسِينَ، كَمَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ كَانَ لإِنْسَانٍ ثُمَّ أَفْلَتَ مِنْهُ، وَكَمَنَ يَتْرُكُ شِرَاءَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَجْهُولٍ لا يَدْرِي أَمَالُهُ حَلالٌ أَمْ حَرَامٌ، وَلَيْسَتْ هُنَاكَ عَلامَةٌ تَدُلُّ عَلَى الثَّانِي، وَكَمَنَ يَتْرُكُ تَنَاوُلَ الشَّيْءِ لِخَبَرٍ وَرَدَ فِيهِ مُتَّفَقٍ عَلَى ضَعْفِهِ، وَعَدَمِ الاحْتِجَاجِ بِهِ، وَيَكُونُ دَلِيلُ إِبَاحَته قَوِيًّا وتأويله مُمْتَنع أَو مستبعد".
وَقَالَ ابْن بطال: "هَذَا يكون لضعف الدّين وَعُمُوم الْفِتَن، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "بَدَأَ الإِسْلام غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا".
وَقَالَ ابْن التِّين: أخبر بِهَذَا تحذيرا؛ لأَن فتْنَة المَال شَدِيدَة.
وَقد دعِي أَبُو هُرَيْرَة إِلَى طَعَام، فَلَمَّا أكل لم ير نِكَاحا وَلا ختانا وَلا مولودا، قَالَ: مَا هَذَا؟ قيل خفضوا جَارِيَة. فَقَالَ: هَذَا طَعَام مَا كُنَّا نعرفه، ثمَّ قاءه، قَالَ: يُقَال: أول مَا ينتن من الإِنْسَان بَطْنه" [عمدة القاري شرح صحيح البخاري (11/ 174)].
فعَنْ طَرِيفٍ أَبِي تَمِيمَةَ، قَالَ: شَهِدْتُ صَفْوَانَ وَجُنْدَبًا وَأَصْحَابَهُ وَهُوَ يُوصِيهِمْ، فَقَالُوا: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، قَالَ: "وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقِ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فَقَالُوا: أَوْصِنَا، فَقَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ إِلاَّ طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ"، قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: "مَنْ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جُنْدَبٌ؟" قَالَ: "نَعَمْ! جُنْدَبٌ" [صحيح البخاري (7152)].
الحمد لله ...
جاء في [شرح الأربعين النووية، للعثيمين (ص: 109)]:
فوائد هذا الحديث:
1- أن الأشياء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: حلال بيّن، حرام بيّن، مشتبه، وحكم كل نوع ومثاله أن نقول:
* الحلال البين لا يلام أحد على فعله، ومثاله التمتع بما أحل الله من الحبوب والثمار، فهذا حلال بين ولا معارض له.
* الحرام البيّن وهذا يلام كل إنسان على فعله، ومثاله كالخمر والميتة والخنزير وما أشبه ذلك، فهذا حكمه ظاهر معروف.
* وهناك أمور مشتبهة: وهذه محل الخلاف بين الناس، فتجد الناس يختلفون فيها فمنهم من يحرم، ومنهم من يحلل، ومنهم من يتوقف، ومنهم من يفصّل.
مثال المشتبه: شرب الدخان كان من المشتبه في أول ظهوره، لكن تبين الآن بعد تقدم الطب، وبعد أن درس الناس حال هذا الدخان قطعاً بأنه حرام، ولا إشكال عندنا في ذلك، وعلى هذا فالدخان عند أول ظهوره كان من الأمور المشتبهة ولم يكن من الأمور البينة، ثم تحقق تحريمه والمنع منه.
وأسباب الاشتباه أربعة:
1- قلة العلم: فقلة العلم توجب الاشتباه، لأن واسع العلم يعرف أشياء لا يعرفها الآخرون.
2- قلة الفهم: أي ضعف الفهم، وذلك بأن يكون صاحب علمٍ واسعٍ كثير، ولكنه لا يفهم، فهذا تشتبه عليه الأمور.
3- التقصير في التدبر: بأن لا يتعب نفسه في التدبر والبحث ومعرفة المعاني بحجة عدم لزوم ذلك.
وفي شرح الأربعين النووية لعطية سالم قال: "ترك المشتبهات مراعاة لحال المجتمع.. هذا واجب على كل مسلم، كما لا ينبغي أن تخالف عادات مجتمعك بأمر فيه شبهة، وإن كان على حقيقته ليس محظوراً، ولكن فيه شبهة، فينبغي أن تتقي تلك الشبهة، وإن كانت في حقيقتها ليس فيها محظور، يفسر لنا ذلك ما جاء عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ -رضي الله تعالى عنها-، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عَلَى رِسْلِكُمَا؛ إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ" فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءًا"، أَوْ قَالَ: "شَيْئًا" [البخاري (3281)، مسلم (2175)].
فعلى كل إنسان: أن يستبرئ لعرضة، فمثلاً مشي الرجال مع النساء في منتصف الليل فيه شبهة، فلو أخذت زوجتك تتمشى في ذلك الوقت ويدُك في يدها، وهي زوجتك ويحلُّ لك أن تضع يدك في يدها أو على كتفها؛ لكن أمام الناس هل تستسيغه العامة؟! هل يستسيغه الناس؟! هل يجوز مروءة؟! لا،.. إنك أوقفت نفسك في موقف الشبهة، فلا ينبغي لك أن تفعل ذلك، ويجب عليك أن تبتعد عن مواطن الشبهة،...
كان هناك جماعة يسمون الملاتية، يأتون أفعالاً يلام عليها الشخص، فقيل: لم تفعلون ذلك وقد نهيتم عنه؟ قالوا: "حتى يقع الناس في أعراضنا بالغيبة، فتكون لنا حسناتهم" لكن هذا تغرير بالناس، ولماذا تضيعون على الناس حسناتهم؟ فلا ينبغي هذا.
إذاً، من ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ولو كان الأمر الذي تركه ليس حراماً.
ولذا يتوسع مالك -رحمه الله- في سد الذرائع، وسد الذريعة، هو: "أن تترك من الحلال جزءاً ابتعاداً عن الحرام، وتترك بعض المباح ابتعاداً عما ليس بمباح، وهكذا يستبرئ الإنسان لدينه وعرضه، لدينه فيما حقيقته مشتبه، ولعرضه حتى لو كان في حقيقته حلال، ولكن صورتَه صورةُ الشبهة -والله تعالى أعلم-" [شرح الأربعين النووية، لعطية سالم].
أما أسورة النحاس، ف "لا ريب أن تعليقَ الأسورةِ المذكورة يشبهُ ما تفعله الجاهلية في سابق الزمان، فهو إمَّا من الأمور المحرمة الشركية، أو من وسائلها، وأقلُّ ما يقال فيه: إنه من المشتبهات.
فالأولى بالمسلم والأحوط له: أن يترفع بنفسه عن ذلك، وأن يكتفي بالعلاج الواضح الإباحة، البعيد عن الشبهة، هذا ما ظهر لي ولجماعة من المشايخ والمدرسين" [فتاوى الطب والمرضى، فتاوى محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-، وابن باز -رحمه الله-، ومشايخ اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، أشرف على جمعه: صالح بن فوزان الفوزان (ص: 201)].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِي المَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الحَلاَلِ أَمْ مِنَ الحَرَامِ" [البخاري (2059)].
فلقد انتشر الربا في هذا الزمن، قال الْحَسَنُ البصري: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يَبْقَى أَحَدٌ إِلاَّ أَكَلَ الرِّبَا، فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ؛ أَصَابَهُ مِنْ بُخَارِهِ، أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ".
وصار الناس يبحثون عن فتاوى تبيح لهم معاملات ربوية صريحة، وأخرى فيها شبهات، وثالثة جائزة كالحوالات والتحويلات ونحوها.
فالربا أصبحت له مؤسساته التي تقوم عليه، وقوانين تحفظه وتحافظ عليه، مما أدى إلى انهياراتٍ متتالية في الأسواق العالمية، وانخفاضٍ ملحوظٍ في أسعارِ العملات العالمية، وتدهور في قيمتها الاقتصادية، وخسائرَ في الأموالِ العينية والنقدية، وإفلاس بل إغلاق بعض المصارف والبنوك، حتى اضطرت بعض الدول العظمى إلى الاستدانة من بعض الدول التي أدنى منها في العظمة، وكله من نتائج هذا الشر المستطير، وأكل أموال الناس بالباطل الذي حرمه الله -تعالى-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي