أخي المؤمن: أتريد غرفة في جنة عَدْن؟ أم ترغب في بيت ومنـزل في جنة الرضوان؟ أم تريد مسكنا أو قصرا في جنة الرحمن؟ إن كنت تريد ذلك؛ فما عليك إلا أن تحيى وتموتَ مؤمناً مسلماً، على كلمة الإخلاص: "لا إله إلا الله". فالمساكنُ هناك وعْدٌ من الله -جل جلاله- ل...
الحمد لله ...
أما بعد:
أخي المؤمن: أتريد غرفة في جنة عَدْن؟ أم ترغب في بيت ومنـزل في جنة الرضوان؟ أم تريد مسكنا أو قصرا في جنة الرحمن؟
إن كنت تريد ذلك؛ فما عليك إلا أن تحيى وتموتَ مؤمناً مسلماً، على كلمة الإخلاص: "لا إله إلا الله".
فالمساكنُ هناك وعْدٌ من الله -جل جلاله- للمؤمنين فقط والمؤمنات، لا لغيرهم، قال سبحانه: (وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 72].
يا مَن ماتَ على كلمة التوحيد: أنتم من قال الله فيهم: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الصف: 12].
وفيهم قال سبحانه: (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً) [الفرقان: 75].
عباد الله: توِّجوا إيمانكم بالأعمال الصالحات، وأثبتوا توحيدكم بالعبادات الخالصة والطاعات، تكتسبوا غرفا في الجنات، قال سبحانه: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [العنكبوت: 58].
يا مَن اتقيتم ربكم، وخالجكم الخوف والرجاء من خالقكم: أبشروا بجنات لكم فيها الغرف يعلو بعضها بعضا، قال سبحانه: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) [الزمر: 20].
وإياكم -أيها المؤمنون الموحدون- أن تغترُّوا بالأولاد والأموال، فالمؤمنون والعابدون المخلصون يضاعف جزاؤهم، ويأمنون في غرفاتهم، قال سبحانه: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ: 37].
أخي المؤمن: إن دخلتَ الجنةَ؛ فأنت أعلم وأعرف بمنـزلك في الجنة، ولا تحتاج إلى من يدلُّك: قال ابن القيم في [حادي الأرواح] "ج 1/99]: "قال تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد: 4 - 5].
قال مجاهد: "يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم لا يخطئون، كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلوا عليها أحدا".
وفي صحيح البخارى عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ -رضى الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ؛ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِى الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ! لأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِى الْجَنَّةِ؛ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِى الدُّنْيَا".
إن في الجنة خيامًا؛ ارتفاعها ستون ميلا، انظر سعة هذه الخيام في هذه المساكن، قال جمهور المفسرين: يعرفون بيوتهم في الجنة كما تعرفون بيوتكم في الدنيا، ثم ما بناء هذه القصور؟ أهي كبيوتنا مبنية من الطوب والإسمنت والرخام؟ لا، بل هي كما قال صلى الله عليه وسلم: "لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها -أي الطين الذي يوضع بين اللبنات- من المسك الأذفر" -طيب الرائحة-.
وبناء آخر: غرف يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها.
نسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهلها.
وبناء آخر: وهو الخيام -خيام من لؤلؤ، روى مسلم وغيره: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "فِى الْجَنَّةِ خَيْمَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَة، عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلاً، فِى كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ"-.
قال ابن القيم: "إن هذه الخيام غير الغرف والقصور، وأنها تُضرَبُ لهم خارج مساكنِهم؛ في البساتين وعلى شواطئ الأنهار".
خيامٌ من اللؤلؤ، وقد نصبت في ساحات الجنان، وعلى شواطئ الأنهار، وفي البساتين، تدخل وتخرج منها فتياتٌ بلغْنَ القِمَّةَ في الجمال والحسن، والرقة والأناقة.
أما أثاث هذه القصور -وما تحويه بداخلها-، فقد قال الله: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) [الغاشية: 13- 16].
والنمارق، هي: الوسائد.
والزرابي، هي: البُسُط.
والسرر، وصفها الله بأنها مرفوعة، يعني شريفة القدر، وأيضاً عالية المكان، قال الطبري: "مرفوعةٌ ليَرى المؤمنُ إذا جلس عليها جميع ما خوَّله ربه من النعيم والملك فيها، ويلحق جميعَ ذلك بصرُه".
وفي آيات أخرى وُصِفت السررُ بأنها موضونة؛ أي محكمة النسج، ووصفت أيضاً بأنها مصفوفة؛ أي متقابلة: (عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الصافات: 44].
وهذا يعني أن هذه السرر ليست للنوم، بل هي للمسامرة والتلذذ، ومجالسة الحور العين، وقد جاء في بعض الآثار أن الأسرة تسير بأصحابها في الجنة -والله أعلم-.
وتأمل قوله تعالى: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ) [يــس: 56].
يعني يتكئون على الأسرة في ظلال الأشجار.
وقال سبحانه: (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن: 54].
يعني البطائن من جهة الأرض من الحرير، فكيف بظواهرها التي هي للزينة والجمال؟!
وقال سبحانه: (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) [الرحمن: 76].
أما الرَّفْرَفُ، فهو القماشُ الخفيفُ الجميل، الذي يُغطى به الفراش، وهو الذي يعرف الآن ب "الشراشف، وأما العبقري، فهي البُسُطُ الحسان" أ. هـ من [حادي الأرواح، لسامي حمود].
أمَّا علوُّها في السماء، فإنها مساكنُ عاليةٌ، غرفها متباعدةٌ، كتباعد الكواكب، لا مزاحمة بينها، روى البخارى بسنده عَنْ سَهْلٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ الْغُرَفَ فِى الْجَنَّةِ؛ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ فِى السَّمَاءِ".
إنها جنة عالية؛ عاليةٌ أشجارُها، قريبةُ قطوفُها وقنوانُها، مُذَلَّلةٌ أغصانُها وعناقيدُها، مفَجَّرةٌ عيونُها، جاريةٌ أنهارُها، مرتفعةٌ سررُها، موضوعةٌ أكوابُها، مصفوفةٌ وسائدُها، منتشرةٌ بُسُطُها، قال سبحانه: (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 22- 24].
وقال سبحانه: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) [الغاشية: 8- 16].
وفي مسند الإمام أحمد بسنده، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! حَدِّثْنَا عَنْ الْجَنَّةِ؛ مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ: "لَبِنَةُ ذَهَبٍ، وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ، وَمِلاطُهَا الْمِسْكُ الأَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلا يَبْأَسُ، وَيَخْلُدُ وَلا يَمُوتُ، لا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلا يَفْنَى شَبَابُهُ" [المسند (2/304)].
واعلموا أن منـزل النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة؛ ليس كغيره من المنازل، إنه الوسيلة، ليست لغيره، قال ابن كثير في تفسيره (4/176) في قوله تعالى: (وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 72].
عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أهل الجنة ليتراءون الغُرفة في الجنة، كما تراؤون الكوكب في السماء" [أخرجاه في الصحيحين، البخاري، ح(6555) ومسلم، ح(2830)].
ثم ليعلم أن أعلى منـزلة في الجنة مكانٌ يقال له: "الوسيلة" لقُرْبِه من العرش، وهو مَسكنُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الجنة، كما روى الإمام أحمد بن حنبل بسنده عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا صليتم علي فسلوا الله لي الوسيلة" قيل: يا رسول الله! وما الوسيلة؟ قال: "أعلى درجة في الجنة، لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو" [المسند (2/256)].
وفي صحيح مسلم بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أنه سمع النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عليَّ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منـزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أنى أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة يوم القيامة" [مسلم ح(1384)].
وفي صحيح البخاري بسنده عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة" [البخاري ح(614)] أ. هـ، من [تفسير ابن كثير].
إن نبيَّنا محمدا -صلى الله عليه وسلم- له ألفُ قصر في الجنة، ففي [مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (3/231)]: عن ابن عباس قال: "عُرِضَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما هو مفتوحٌ على أمتِه كَفْراً كَفْراً، فسُرَّ بذلك، فأنزل الله -عز وجل-: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 5]. فأعطاه الله -تعالى- في الجنة ألفَ قصر، في كل قصرٍ ما ينبغي له من الولدان والخدم" [رواه الطبراني في الكبير والأوسط].
وفي رواية فيه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عرض ما هو مفتوح لأمتي بعدي، فسرَّني" فأنزل الله -تعالى-: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى) [الضحى: 4] فذكر نحوه، و[انظر: السلسلة الصحيحة ح(2790)].
ولنذكر من سمي بأن له قصورا ودورا في الجنة وهو في الدنيا؛ منهم: عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- رغم أنوف الرافضة؛ ورد في [مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (4/99)]: عن أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ؛ فَإِذَا أَنَا بِقَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟! وَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ لِي، قَالَ: قَالَ: لَعُمَرَ! قَالَ: ثُمَّ سِرْتُ سَاعَةً؛ فَإِذَا أَنَا بِقَصْرٍ خَيْرٍ مِنْ الْقَصْرِ الأَوَّلِ، قَالَ: فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟! وَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ لِي، قَالَ: قَالَ: لِعُمَرَ! وَإِنَّ فِيهِ لَمِنْ الْحُورِ الْعِينِ يَا أَبَا حَفْصٍ! وَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَدْخُلَهُ إِلاَّ غَيْرَتُكَ". قَالَ: فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا عُمَرَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا عَلَيْكَ فَلَمْ أَكُنْ لأَغَارَ" [رواه أحمد (21/337) والطبراني في الأوسط بنحوه].
وعن معاذ بن جبل قال: "إن كان عمر لمن أهل الجنة: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ما رأى في يقظته أو نومه فهو حق، وأنه قال: "بينا أنا في الجنة؛ إذ رأيت فيها داراً، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب" [رواه أحمد والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح].
وفي الصحيحين عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ؛ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هذَا الْقَصْرُ فَقَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ! فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبرًا". فَبَكَى عُمَرُ، وَقَالَ: "أَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللهِ؟!" [البخاري ح(3242)، ومسلم ح(2394)].
وفي [السنة لابن أبي عاصم، ح(1065)] بسنده عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مررت بقصر من ذهب مشرف مربع، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لرجل من العرب. فقلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من أمة محمد. فقلت: أنا محمد، لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب" [قال الألباني في السلسلة الصحيحة) ح(1423): "أخرجه الترمذي (2/293) وابن حبان (2188) وأحمد (3/107 و179)].
وعن بريدة قال: أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعا بلالا: "يَا بِلالُ! بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ مَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ قَطُّ إِلاَّ سَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي، إِنِّي دَخَلْتُ الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ، فَسَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ، فَأَتَيْتُ عَلَى قَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُرْتَفِعٍ مُشْرِفٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ قَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ. قُلْتُ: أَنَا عَرَبِيٌّ! لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ. قُلْتُ: فَأَنَا مُحَمَّدٌ! لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَوْلا غَيْرَتُكَ يَا عُمَرُ! لَدَخَلْتُ الْقَصْرَ" فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا كُنْتُ لأَغَارَ عَلَيْكَ؟ قَالَ: وَقَالَ لِبِلالٍ: "بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ؟!" قَالَ: "مَا أَحْدَثْتُ إِلاَّ تَوَضَّأْتُ، وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بِهَذَا" [أخرجه أحمد (5/354) والترمذي ح(2912) صحيح التعليق الرغيب (1/ 99)].
معنى: "خشخشتك" الخشخشة، هى صوت احتكاك الشىء اليابس.
وأم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أبشر خديجة ببيت -في الجنة- من قصب لا صخب فيه ولا نصب" القصب، هو هنا: الدر الرطب المرصع بالياقوت" [الصحيحة ح(1554)].
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة قال: أتى جبريلُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله! هذه خديجة؛ قد أتت معها إناء فيه إدام وطعام، فإذا أتتك؛ فأقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب؛ لا صخب فيه ولا نصب".
وفي صحيح السيرة النبوية (1/94): وسئل صلى الله عليه وسلم عن خديجةَ؛ لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن؟ فقال: "أبصرتها على نهر في الجنة، في بيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب" -والله أعلم-.
آسيا بنت مزاحم؛ امرأة فرعون -رحمها الله تعالى ورضي عنها-؛ قال سبحانه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم: 11].
وقد ثبت في الحديث قولُه صلى الله عليه وسلم: "إن فرعونَ أوتدَ لامرأته أربعة أوتاد، في يديها ورجليها، فكان إذا تفرقوا عنها؛ ظللتها الملائكة، فقالت: (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم: 11] فكُشف لها عن بيتها في الجنة" [صحيح].
وله شاهد من حديث سلمان، قال: "كانت امرأة فرعون تعذب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة" [أخرجه الطبري في تفسيره، والحاكم وإسناده صحيح... انظر بقية الروايات في الصحيحة تحت حديث رقم ح(2508)].
فإن أرت أن تلحق بالقوم، وتنال القصور والمساكن في الجنة والدور، فعليك بالأعمال التي تبنى بها القصور والدور في الجنة، ومنها:
* الإيمان بالله وتصديق المرسلين، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم؛ كما يتراءون الكوكب الدريَّ الغابرَ في الأفق من المشرق والمغرب، لتفاضلَ ما بينهم". قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء! لا يبلغها غيرهم. قال: "بلى والذي نفسي بيده! رجالٌ آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" [رواه البخاري ومسلم].
* كلمة الإخلاص والتوحيد من قالها عند دخول السوق، عن ابن عمر مرفوعا: "من دخل السوق، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو حى لا يموت، بيده الخير وهو على كل شىء قدير؛ كتَبَ اللهُ له بها ألفَ ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئةُ ورُفع له ألفُ ألف درجة، وبُنى له بيتا فى الجنة" [حسنه الألباني، انظر ح(6231) في صحيح الجامع].
فإن كنت جادًّا في رغبتك، فكن جادًّا في تحصيلك، فاعمل بما يلي:
* حقّق توحيدَ اللهِ في قلبِك، وأقوالِك وأفعالِك، واقرأْ كتابَ الله، وخُصَّ بالقراءة سورة "الإخلاص" يُبْنَى لك قصرٌ في الجنة؛ لقول النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حَتَّى يَخْتِمَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِى الْجَنَّةِ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "إِذَنْ أَسْتَكْثِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ" [أخرجه أحمد (5/437)، الصحيحة، ح(589)].
* بناء المساجد، فبسببها تبنى البيوت في الجنان، عن عثمان بن عفان عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم قد أكثرتم، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من بنى مسجدا لله -تعالى- يبتغي به وجه الله؛ بنى الله له بيتا في الجنة" [رواه مسلم، ح(533)].
وفي حديث آخر: "من بنى مسجدا لا يريد به رياء ولا سمعة؛ بنى الله له بيتا في الجنة" [الصحيحة، ح(3399)].
وفي حديث ثالث: "من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة أوسع منه" [ح(3445)].
* من يصبر على المصائب، فيحمد الله ويسترجع، يبنى له بيت في الجنة، ففي الحديث الثابت: "إذا مات ولد الرجل؛ يقول الله -تعالى- للملائكة: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم! فيقول: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم! فيقول: فماذا قال عبدي؟ قال: حمدك واسترجع. فيقول: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد" [حسنه في الصحيحة ح(1408)].
* من يسد فرجة في صف الصلاة؛ يبنى بيت في الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: "من سد فرجة؛ بنى الله له بيتا في الجنة، ورفعه بها درجة" [الصحيحة ح(1892)].
* المحافظة على الصلوات الرواتب؛ اثنتان قبل صلاة الفجر وأربع قبل الظهر، واثنتان بعدها، واثنتان بعد المغرب، واثنتان بعد العشاء، ثبت في مسلم ح(728) قوله عليه الصلاة والسلام: "ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة؛ إلا بنى الله له بيتا في الجنة، أو إلا بني له بيت في الجنة".
* والمحافظة على صلاة الضحى؛ سبب في بناء البيوت في الجنة، لقوله عليه الصلاة والسلام: "من صلى الضحى أربعا، وقبل الأولى أربعا بني له بيت في الجنة" [حسنه في الصحيحة ح(2349)].
والمراد ب"الأولى" صلاة الظهر فيما يبدو -والله أعلم-.
* الهجرة والجهاد في سبيل الله -تعالى-؛ ففي الحديث: "أفضل الجهاد عند الله يوم القيامة؛ الذين يُلقون في الصف الأول فلا يلفتون وجوههم حتى يُقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة، ينظر إليهم ربك، إن ربك إذا ضحك إلى قوم فلا حساب عليهم" [الصحيحة، سح(2558)].
فالإسلام والهجرة في سبيل الله -تعالى-، من أسباب السكنى في بيوت الجنة ومنازلها، عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أنا زعيم -والزعيم الحميل- لمن آمن بي وأسلم وهاجر؛ ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وأنا زعيمٌ لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله؛ ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وببيت في أعلى غرف الجنة، فمن فعل ذلك؛ لم يدعْ للخير مطلباً، ولا من الشر مهرباً، يموت حيث شاء أن يموت" [رواه النسائي وابن حبان في صحيحه، انظر: صحيح الترغيب والترهيب ح(1300)].
* إطعام الطعام، ولين الكلام، ومتابعة الصيام، وصلاة القيام، ما أجمله وما أحسنه من عمل يقرب من الله ويقرب من الناس، ويسكن صاحبها الغرف في الجنة، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن آلان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام" [مشكاة المصابيح ح(1232)].
* تحسين الخلق، وترك المراء والجدل والكذب؛ عَنْ أَبِى أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِى وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِى أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ" [حسنه في الصحيحة ح(273)].
الربض: حوالى الجنة وأطرافها.
وفي الختام:
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتاني جبريل -عليه السلام- وفي يده مرآة بيضاء، فيها نكتة سوداء، قلت: ما هذه يا جبريل؟ قال: هذه الجمعة! يعرضها عليك ربك، لتكون لك عيدا ولقومك من بعدك، تكون أنت الأول، وتكون اليهود والنصارى من بعدك. قال: ما لنا فيها؟ قال: فيها خير لكم، فيها ساعة من دعا ربه فيها بخير هو له قسم إلا أعطاه إياه، أو ليس له بقسم إلا ادخر له ما هو أعظم منه، أو تعوذ فيها من شر هو عليه مكتوب إلا أعاذه، أو ليس عليه مكتوب إلا أعاذه من أعظم منه، قلت: ما هذه النكتة السوداء فيها؟ قال: هذه الساعة، تقوم يوم الجمعة، وهو سيد الأيام عندنا، ونحن ندعوه في الآخرة: يوم المزيد. قال: قلت: لِمَ تدعونه يوم المزيد؟! قال: إن ربك -عز وجل- اتخذ في الجنة واديا أفيح، من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة نزل تبارك وتعالى من عليين على كرسيه، ثم حُفَّ الكرسي بمنابر من نور، وجاء النبيون حتى يجلسوا عليها، ثم حُف المنابر بكراسي من ذهب، ثم جاء الصديقون والشهداء حتى يجلسوا عليها، ثم يجيء أهل الجنة حتى يجلسوا على الكثيب، فيتجلى لهم ربهم تبارك وتعالى حتى ينظروا إلى وجهه، وهو يقول: "أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، هذا محل كرامتي، فسلوني!" فيسألونه الرضا، فيقول الله -عز وجل-: "رضائي أحلَّكم داري، وأنالكم كرامتي، فسلوني!" فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، فيفتح لهم عند ذلك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إلى مقدار منصرف الناس يوم الجمعة، ثم يصعد الرب -تبارك وتعالى- على كرسيه، فيصعد معه الشهداء والصديقون -أحسبه قال-: ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم؛ درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم، أو ياقوتة حمراء أو زبرجدة خضراء، منها غرفها وأبوابها، مطردة فيها أنهارها، متدلية فيها ثمارها، فيها أزواجها وخدمها، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة؛ ليزدادوا فيه كرامة، وليزدادوا فيه نظرا إلى وجهه تبارك وتعالى، ولذلك دعي يوم المزيد" [صحيح الترغيب ح(3761) "حسن لغيره"].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي