فما لنا يا عباد الله عن الاستبشار بهذا الشهر متثاقلين؟! فقد جاء ليبسط الله به أيادي قُبضت عن الدعاء، ولتُقبل وجوه طالما أعرضت عن النداء.. ليُسمع فيه القرآن، ويُتلذذ بخطاب الرحمن، يعظُم فيه الرجاء، كما يعظم فيه الخوف من الهلاك والشقاء.. كم نفوسٍ كانت أسرى هواها، اقترفت في عامها ما اقترفت، فإذا جاء رمضان حُبِّبَ إليها التوبة، وسُهِّل له سبيل الأوبة!! فيا لله؛ لكم يحسن مقصِّر ظنه بربه أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه، وأنه منَّ عليه بالعتق من النار..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
أما بعد: فيا أيها المؤمنون:
إن الحياة الدنيا تقبل على الناس بحُلَلِها، وهي ماضيةٌ بأمر الله إلى نهايتها وأجلِها، وفي كل يوم لها مع أهلها انبساط وانقباض، وإقبال وإعراض، وإنما بقاء أهلها فيها حبال ممدودة لا يدري الناس متى تنقطع، يتقي أهلها الهلاك بالحذر، ولا ينفع حذر إذا ما حلَّ قدر، وحياة القلوب بالنذر، وكثيراً ما لا تغني النذر، في حين إن خير الله فيهم نازل، وعطاءه فيهم وافر كامل، وقد أراهم في كل شـيء إتقان صنعته، وآياته في أضعف بريته، ورزقهم من الطيبات، وزيَّنهم بالبنين والبنـات، وفي موت الأحياء حياء للأموات، أفلا يجدون في كل حبيب يفارقهم متعظاً ومزدجراً؟! وفي تقدم الأعمار مدكراً ومعتبراً؟! فلا ماضٍ يُرد، ولا حبيبٌ ذاهب يرتد.
نغدو ونروح مودعين الأحباب ما بين غمضة عين وانتباهتها، ثم نمضي في فتون يتردد، وغرور ينسي، وزينة تطغي، فتعلق لعاعة الدنيا في نياط القلوب، فوقرت آذان الكثيرين عن سماع صوت المنادي، حتى لربما تُنُوفِسَ علـى الدنيا كيف ما اتفق، بل ربما يفرح بمواتاة الحرام، فتقول الخطيئة: أختي أختي، فيحق قول الله سبحانـه: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) حتى تتوارد النكت على القلوب، فتكون سوداء مربادة، كالكوز مجخيا، لا تعرف إلا ما أشرب من هواها، فيأسف المرء إذا ما نيلت الدنيا، ولا أسف لكسر قناة الدين.
تلك حال أغرار كثير من خلق الله في أرضه، ولَمَن تبصر وادكر، فواهًا (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ..) [النور: 37].
واعلموا أنكم في أيام حرث وزرع من وراءها حصاد، فتأهبوا قبل التفاف الساق، واستعدوا قبل عنف السياق، فإنما أنتم سهام تنتضل فيه المنايا، وإن الدنيا قد آذنت بوداع، وإن الآخرة قد أشرفت باطلاع، ألا وإن اليوم مضمار، وغدًا السباق، والسبقة الجنة، والغاية النار، فانتقلوا رحمكم الله بخير ما بحضرتكم.
أيها الصائمون:
حين يدرك الناس معنى الحياة ومعنى العبادة يجدون حلاوة الطاعة، ولذة العبادة، وحين يكون ذلكم يفزعون إليها ويستبشرون بها أيما استبشار، فيرغبون إلى ربهم في كل الأوقات، ويتحينون أحيان الهبات والرحمات، بعد أن جثمت عليهم الدنيا بكلكلها، وغلّت كثيراً منهم الذنوب بسلاسلها، فهم يتعطشون إلى غيث الحياة: حياة القلوب لا حياة الأبدان، يدور الزمان دورته، ويمضي العام عدته، ليهل علينا شهر رمضان المبارك، ليقول للغافل: أفق واحذر بوارك، وللمفرط: تدارك شهرك فما خاب من قد تدارك.
يا شهرنا: فارقتنا ودموع الحزن في المقل، وأتيتنا والشوق يحدوه الأمل.
فمرحباً بشهر التراويح، شهر يُترك فيه القبيح، شهر المتجر الربيح، فأنت للمتقين روضة وأنس، وللغافلين قيد وحبس.
رمضان بين أشهر العام الأحد عشر في الفضل كيوسف -عليه السلام- بين إخوته الأحد عشر، ألا ترون – سددكم الله – أن يعقوب -عليه السلام- لم يرتد إليه بصره إلا حين ألقي عليه قميص يوسف بعد العمى؟ فكذلك شهر رمضان يحيي أفئدة الكثيرين بعذب مائه، ويرفرف عليهم في سمائه وعليائه.
وإن أحد عشر شهرًا لربما أذهبت عذوبةَ فيض رمضان الماضي، حتى إذا حلّ رمضانُ أخرى إذا القلوبُ كهيأة التائه في صحراء قاحلة، فما هو إلا أن أشرف على نهرٍ جارٍ، وظل ظليل، وفاكهة كثيرة.
مثل القلوب قبيل رمضان كالأرض الخاشعة الميتة؛ فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزّت وربت.. ألا ترونها تبتلع الماء من شديد وجدها وعظيم عطشها، ثم هي تنبت من كل زوج بهيج.
لقد كان السلف الصالح -رحمهم الله - يستبشرون بدخوله، وكان من صالح دعائهم: "اللهم سلمنا لرمضان، وسلم لنا رمضان، وتسلمه منا متقبلا"، وحال اجتهادهم فيه حال غيرِ ذي أمل أن يدرك سواه..
إن استبشار المسلم بهذا الضيف الكريم رهين إيمانه وتقواه، واستبشاره به بريد الاجتهاد والإقبال على الله تعالى فيه.. يحاسبُ الموفقون أنفسهم فيه على ما قدموا وما أخروا..
إنه مدرسة الصيام، تلكم المدرسة التي لا تكلف الأمة إلا مزيدًا من الإذعان والتقوى والرضا عن الله –سبحانه- أبد الحياة... غايته حيازة فضيلة التقوى بالخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل، ولِمَ لا تكونُ التقوى مبتغى التعبد؛ والفوزُ العظيمُ لأهلها؟ والعاقبة لمن تمسك بها، وتكفير السيئات وتعظيم الحسنات لأربابها، وجهنم حسبُ من تأخذه العزة بالإثم إذا وصي بها.
أيها المؤمنون: القلب التقيّ هو المملوء إرادة وإقبالاً على ربه، راجيا قبولَ توبِه وغفرانَ ذنبه، يسابق إلى موعد الرحمات، ويتعرض لعظيم النفحات.. يصومُ نهارَ شهره المعظَّم والإيمان والاحتسابُ بين عينيه، عاليَ الهمة، يقِظ العزيمة، يرى الصيام مدرسة تربي الروح، وتقوي الإرادة، لتتلقّى آيات الله في الليل بقلب عقول..
قد كان على الهدى من وجد في الصيام فطاما عن شهوات بطنه وما حوى، ففطم عن الهوى ومرذولِ الأخلاق الرأسَ وما وعى، فلا يصخب لا يبغي، ولا يغش ولا يكذب ولا يخادع، ولا يجزي بالسيئة إلا بالصفح، وأعظم بتنقية القلب من الحسد المقيت، وكاذب الظنون.
وعلى النقيض: أين الإيمان والتقوى ممن يبيت شبعان، وهو يعلم محاويج يطيق مد يد العون إليهم فلا يفعل؟! وممن لا يحس إلا بذاته وشهواته وهو يسمع لليتامى أنينا، وللمشردين والمستضعفين والمرضى استغاثةً حينا وبكاء حينا..
إنه لواقعٌ غير خافٍ: أن في الممتنعين عن الطعام والشراب ضعافًا مهازيل، رأوا في الصيام إضعافا لحراكهم، ويبسا لعروقهم، فكان المساء عندهم مرتعا للتخمة، تعويضا لما قد فاتهم في النهار، قبيل رمضان يستنفرون النفوس في شد العزم ضربا في كل سوق؛ ليدخروا في البيت الواحد ما يكفي الفئام من الناس، ولربما كانوا يعرفون بيوتا محاطة بجدران البؤس وهم عنها غافلون أو يتغافلون..
وبئس القوم نوامون إذا الناس صاموا، لاهون إذا الناس للصلاة قاموا، وإذا كان لم يحيِهم تقوى؛ فماذا يمنعهم من منادمة اللغو والإفساد والرضا به على موائد التخم؟! متمثلا ذلكم اللغو في جلَد الإعلام الفاجر، الإعلام التابع، الإعلام الكذوب، المزعزع صبغةَ الله من النفوس الخاوية بلحن القول حينا، وبصريحه حينا، وزرع النفاق، بل الجرأة والكذب على الله تعالى ورسوله –صلى الله عليه وسلم-.
كيف لوليّ أمرٍ مؤمن يرجو القبول والغفران والعتق من النيران أن يرضى لمن تحت يده بمشاهدة الرديء من الفعل، وسماع الزور من القول ممن لم تُصفد شياطينهم في هذا الشهر يوم أن صُفدت شياطين الجن، إذ رأوا إقبال الناس في رمضان على الخيرات، وتلاوةِ الآيات وتدبر العظات، فأرادوا إفساد هذا عليهم، وأنساهم سخريتهم واستهزاؤهم بالدين وحملته ذكرَ الله، فأنساهم الله أنفسَهم..
إنه شهر الصبر، ومن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه..
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل خطيئة وإثم...
الحمد لله الذي جعل الصيام جُنّة، وجعله سبيلاً موصلا إلى الجنة، وصلى الله وسلم على معلم الكتاب والسنة..
أما بعد: فها هو شهر رمضان حالّاً علينا، فما بال بعض النفوس له متثاقلة؟! وما لها عن فضائل هذا الضيف غافلة أو متغافلة؟! ولتثبيط الشيطان الرجيم وكيده ووسواسه مسالمة؟!
ألم يكن ضيفا كريما كل عام؟! يجود بفضل مشرِّفه بوابلٍ من الهبات والإنعام؟! ألم يأتِ بعزائم المغفرة، وموجبات الرحمة، وغنائم البر؟!
بلى.. فلكم كان ربيعا للقلوب الخالية من القرآن، ومحطِّما لأغلال البخل والإمساك عن الإحسان، وسلسلاً عذبا يطعم فيه حلاوةُ الإيمان.
فما لنا يا عباد الله عن الاستبشار بهذا الشهر متثاقلين؟! فقد جاء ليبسط الله به أيادي قُبضت عن الدعاء، ولتُقبل وجوه طالما أعرضت عن النداء.. ليُسمع فيه القرآن، ويُتلذذ بخطاب الرحمن، يعظُم فيه الرجاء، كما يعظم فيه الخوف من الهلاك والشقاء..
كم نفوسٍ كانت أسرى هواها، اقترفت في عامها ما اقترفت، فإذا جاء رمضان حُبِّبَ إليها التوبة، وسُهِّل له سبيل الأوبة!! فيا لله؛ لكم يحسن مقصِّر ظنه بربه أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه، وأنه منَّ عليه بالعتق من النار..
وما لنا لا نقبل بالبشر على هذا الضيف الكريم أسرع من إقباله إلينا؛ وقد فسح الله في أعمارنا، ومدّ في آجالنا، ومِنْ أهلينا وأحبابنا مَن تخطفتهم يد المنون، فقُطِعَ عليهم حبل العمل..
ألا قد أفلح وأنجح من زكَّى نفسه، وسعى في طهارتها من كل خُلق ذميم، ومن كل فعل لئيم، وقول غير قويم، وقد وفق كل التوفيق من استبق الخيرات، وسارع في الصالحات، وبادر كلَّ أبوابِ القربات..
ورغم أنفُ من أدرك رمضان فلم يغفر له، وما أفدح خسارة من أدرك رمضان ثم لم يدع من باب الريان، ويا لعظيم خسران من استوجب النار فلم يعتق في رمضان..
ويا لعظم التوفيق، وكريم النصيب لمن أحسن الظن فأحسن العمل، فقبلت دعواته، وكفرت سيئاته، وأقيلت عثراته، وهدي إلى صراط مستقيم..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي