جعل المحبةَ في قلوب عباده، محبةً تدفعُ صاحبها للعمل، وتحركه للسعي وتحقيق الأمل، وللمحبة دوافعُ ومحركات، بوجودها يتحرك المحب، وبفقدها يتوقف ويسكن، وبالحبِّ تكونُ حركةُ الإنسان، وبه ينْفَعِل الفعل. وهذه الدوافع، هي: الفطرة، أو الشهوة، أو الغضب، أو الإيمان بالله -تعالى-. فالفطرة والجبلَّة تشمل...
الحمد لله؛ الذي جعل المحبةَ في قلوب عباده، محبةً تدفعُ صاحبها للعمل، وتحركه للسعي وتحقيق الأمل، وللمحبة دوافعُ ومحركات، بوجودها يتحرك المحب، وبفقدها يتوقف ويسكن، وبالحبِّ تكونُ حركةُ الإنسان، وبه ينْفَعِل الفعل، قال ابن القيم في كتابه: "الجواب الكافي": "وكلُّ حركة في العالم العلوي والسفلى فأصلها المحبة، فهي علتها الفاعلية والغائبة".
وقال في [روضة المحبين (1/55)]: "وحركةُ كلِّ متحرك إنما وجدت بسبب الحب".
وهذه الدوافع، هي: الفطرة، أو الشهوة، أو الغضب، أو الإيمان بالله -تعالى-.
فالفطرة والجبلَّة تشمل جميع البشر مؤمنهم وكافرهم، وبرَّهم وفاجرَهم، قال سبحانه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران: 14].
فحبُّ الشهوات من النساء والبنين والحفدة من الفطرة، لا يختلف فيها أحد، إلا من شذ.
فالحب بين الزوجين شأن فطريٌّ، أكَّده الشرع وحث عليه، والعجب إذا كان أحدهما يبغض بشدة، والآخر يحب بشدة،كما ورد في البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ؛ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعبَّاسٍ: "يَا عَبَّاسُ! أَلا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا؟!" فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَوْ رَاجَعْتِهِ!" قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تَأْمُرُنِي؟! قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ". قَالَتْ: "لا حَاجَةَ لِي فِيهِ".
إن من الحبِّ الجِبِلِّيِّ الفطريِّ؛ حبَّ الوالدين والزوجة، والأولادِ والعشيرةِ والوطنِ، ونحوِ ذلك، فالإنسان مجبول مفطور على ذلك الحب، فهذا الحبُّ تجده عند الكافر والمسلم، ومن ذلك ما ثبت عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِىِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ يَقُولُ: "وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلاَ أَنِّى أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ" [قال في الفتح: "حديث صحيح أخرجه أصحاب السنن"].
فأنت إذا أحببْت والديك لله، وكذا الزوجة والأولاد والعشيرة والوطن، أو أنك تحبهم؛ لأن الله أمرك بحبهم، فأنت تحبهم في الله لا مع الله.
وحبُّ الأب لأبنائه دون تَفْرِقة يورث المودَّةَ بينهم، بينما إذا فرَّق الوالدان بين أولادهم في المحبة، فإنه يورث الأحقاد والحسد: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [يوسف: 7 - 8].
وكانت النتيجة محاولة التخلص من أخيهم، فنجاه الله.
ومن الحب ما قتل! ومن الحبِّ الفطريِّ ما حدث في عهد النبوة، وأثَّر في عاطفة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ما ذكره ابن إسحاق من حديث ابن أبي حدرد الأسلمي قال: "كنت في خيل خالد، فقال لي فتىً من بني جَذِيمة قد جُمعت يداه في عنقه برُمَّةٍ: يا فتى هل أنت آخذ بهذه الرُّمَّة، فقائدي إلى هؤلاء النسوة؟ فقلت: نعم، فقدته بها، فقال:
أسلمي حُبَيش *** قبل نفاد العيش
قال: "ثم ضُربت عنقُ الفتى، فأكبَّت عليه فما زالت تقبله حتى ماتت".
وقد روى النسائي والبيهقي في الدلائل بسند صحيح من حديث ابن عباس نحو هذه القصة، وفيها: "فقال إني لست منهم، إني عشقت امرأة منهم فدعوني أنظر إليها نظرة، فضربوا عنقه، فجاءت المرأة فوقعت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت".
فذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أما كان فيكم رجل رحيم؟".
وأخرجها البيهقي، وفي آخرها: "فانحدرت إليه من هودجها فحنت عليه حتى ماتت" [انظر: فتح الباري (8/58)، وانظر: السلسلة الصحيحة (2594)].
إن حب الزوجة، لا يعني عدمَ تأديبِها إن أخطأت، ولا تركَها تفعل ما حرم الله -سبحانه-، فإن استطاع منعها؛ وإلاَّ فارقها، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَجُلاً أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِى امْرَأَةً، وَهِىَ لاَ تَدْفَعُ يَدَ لاَمِسٍ! قَالَ: "طَلِّقْهَا" قَالَ: إِنِّى أُحِبُّهَا وَهِىَ جَمِيلَةٌ، قَالَ: "فَاسْتَمْتِعْ بِهَا" [سنن أبي داود (2049)، سنن النسائي (3229)].
ما معنى: "لا تدفع يد لامس؟" هل هو الفجور والفاحشة؟ قال به قوم.
وقال في [النهاية في غريب الأثر]: قيل: مَعْنى: "لا تَرُدُّ يَدَ لاَمس" أنها تُعْطي من مَاله مَن يَطْلُب منها، وهذا أشْبَه.
قال أحمد: "لم يكن لِيأمرَه بإمْساكها، وهي تَفْجُر".
قال علي وابن مَسْعود: "إذَا جاءكم الحديث عن رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم-؛ فَظُنُّوا به الذي هو أهْدَى وأتْقَى".
وفي [سبل السلام]: فالأقرب المراد أنها سهلةُ الأخلاق، ليس فيها نفور وحشمة عن الأجانب، لا أنها تأتي الفاحشة، وكثير من النساء والرجال بهذه المثابة، مع البعد من الفاحشة، ولو أراد به أنها لا تمنع نفسها عن الوقاع من الأجانب؛ لكان قاذفا لها".
وفي [شرح سنن أبي داود] مال عبد المحسن العباد إلى "أنها ليست لديها صيانة لنفسها، من ناحية التبذل، ومخاطبة الرجال، والتوسع في ذلك".
وطاعة الوالدين في المعروف مقدمة على حُبِّ الزوجات والأولاد والأموال، هذا إذا لم يكن هناك ظلم وحيف وجور من الوالدين، عندها لا سمع ولا طاعة، ولكن المصاحبة بالمعروف، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ -رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: كَانَتْ لِىَ امْرَأَةٌ كُنْتُ أُحِبُّهَا، وَكَانَ أَبِى يَكْرَهُهَا فَقَالَ لِى: طَلِّقْهَا! فَأَبَيْتُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "طَلِّقْهَا" فَطَلَّقْتُهَا [حسنه في الصحيحة (918)].
وما ذاك إلا لسبب عند عمر -رضي الله تعالى عنه-.
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي بِنْتُ عَمِّي، وَأَنَا أُحِبُّهَا، وَإِنَّ وَالِدَتِي تَأْمُرُنِي أَنْ أُطَلِّقَهَا! فَقَالَ: لا آمُرُكَ أَنْ تُطَلِّقَهَا، وَلا آمُرُكَ أَنْ تَعْصِيَ وَالِدَتَكَ، وَلَكِنْ أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ الْوَالِدَةَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؛ فَإِنْ شِئْتَ فَأَمْسِكْ، وَإِنْ شِئْتَ فَدَعْ" [حم، ت، هـ، ك" (7145) صحيح الجامع، والصحيحة (914)].
ويقع الحب للولد في القلب قبل الولادة، فإذا ولد زادت، فعن عمرو بن سعيد قال: كان عثمانُ إذا وُلِد له وَلَدٌ؛ دعا به وهو في خرقة فشمَّه، فقيل له: لم تفعل هذا؟ فقال: "إني أحب إن أصابه شيءٌ يكون قد وقع له في قلبي شيء" يعني الحبّ [أخرجه ابن سعد (3/59) انظر: كنـز العمال في سنن الأقوال والأفعال (3/763 رقم (8684)].
ومن محبة الآباء لأولادهم؛ أنهم لا يحبون أحدا يؤذيهم صغارا كانوا؛ أو كبارا متزوجين، ففي صحيح مسلم عن الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: "إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُونِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَلا آذَنُ لَهُمْ، ثُمَّ لا آذَنُ لَهُمْ، ثُمَّ لا آذَنُ لَهُمْ، إِلا أَنْ يُحِبَّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي، وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا ابْنَتِي بَضْعَةٌ مِنِّي؛ يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا، وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا".
وَعَنْ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ مَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- ذَاتَ يَوْمٍ: "أَتُحِبُّهُ يَا فُلاَنُ؟" قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله! أَحَبَّكَ الله كَمَا أُحَبَّهُ. فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله! مَاتَ ابْنُهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-: "أَمَا تَرْضَى -أَوْ لاَ تَرْضَي- أَنْ لاَ تَأْتِيَ يْوَمَ الْقِيَامَةِ بَابًا مِنْ أبوابِ الْجَنَّةِ؛ إِلاَّ جَاءَ يَسْعَى حَتَّى يَفْتَحَ لَكَ؟" فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله! أَلَهُ وَحْدَهُ أَمْ لِكُلِّنَا؟ قَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-: "بَلْ لِكُلِّكُمْ" [رَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، والنسائي (1974)، انظر: أحكام الجنائز (162)، المشكاة (1756)].
إن الأحفادَ لهم محبّةٌ خاصةٌ تختلف عن محبة الأبناء، وإقبالُ الأجداد على الأحفاد ملحوظ بين البشر، فعن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: طَرَقْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ لَيْلَةٍ فِى بَعْضِ الْحَاجَةِ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَىْءٍ؛ لاَ أَدْرِى مَا هُوَ؟ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ حَاجَتِى، قُلْتُ: مَا هَذَا الَّذِى أَنْتَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَكَشَفَهُ؛ فَإِذَا حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ -عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ- عَلَى وَرِكَيْهِ، فَقَالَ: "هَذَانِ ابْنَاىَ، وَابْنَا ابْنَتِى، اللَّهُمَّ إِنِّى أُحِبُّهُمَا، فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا" ["ت، حب" عن أسامة بن زيد. وحسنه الألباني، انظر: حديث (7003) صحيح الجامع].
والمحبة للأحفاد تتبعها محبةُ أصحابهم وأترابهم، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضى الله عنهما- عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّى أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا" [صحيح البخاري].
أما الحب الذي دافعه الشهوة والهوى، وتشعله الغريزة، وهو الحبُّ الذي ملأ الأسماع اليوم، في مختلف وسائل الإعلام، هو الحبُّ الذي بين الرجل والمرأة، بين الفتى والفتاة، بين الشاب والشابة، دون النظر إلى حِلِّه أو حُرمتِه، فهو ناتج عن الأهواء والشهوات، مما يدفعُ صاحبَه للعمل بكل وسيلة، لتحقيق الرغبة، وإشباع الشهوة، ولا يمنع هذا التحركَ شيءٌ من داخل الإنسان، بل من خارجه، كما ورد عن امرأة العزيز حيث أحبَّت يوسفَ -عليه السلام-، قال سبحانه: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [يوسف: 30].
فلولا أن الله قدَّر حضور سيدها لدى الباب، ولولا هذا التدخل الخارجي؛ فالله -سبحانه- وحده يعلم ماذا سيحدث؟ وماذا سيجري من هذه المرأة الفاتنة ذات الغريزة الملتهبة، والشهوة العارمة، التي غطت على تفكيرها، وأغلقت عقلها؟ وبعد أن مزَّقت قميص يوسف -عليه السلام- حين فرَّمنها، فما استيقظت إلاَّ على الباب يُطرقُ ويُقرع، وكان الطارقُ سيدَها، ونجا يوسف -عليه السلام- من كيدها، وبأعجوبة وعناية إلهية: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24].
وهو الحب الذي يدفع إلى الزنا والوقوع في الرذيلة، ومن ثم في مستنقع العمالة والخيانة للدين والوطن، والأهل والعشيرة.
عافانا الله وإياكم وسائر المسلمين؛ من كل ما يغضب ربَّ العالمين.
الحمد لله الذي جعل المحبة والمودة بين البشر، وربطها به سبحانه وبرسوله -صلى الله عليه وسلم-.
والمحبة محلها القلوب، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ؛ هُمْ أَلْيَنُ قُلُوبًا، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً" [رواه مسلم].
و"الأفئدة، توصف بالرقة، والقلوب باللين؛ لأن الفؤادَ؛ غشاءُ القلب، إذا رقّ نفذ القول فيه، وخلص إلى ما وراءه، وإذا غلظ تعذر وصوله إلى داخله، وإذا صادف القلب شيئا علق به إذا كان لينا" [الفروق اللغوية (1/433)].
عن أبي عنبة الخولاني يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ للهِ آنيةً من أهلِ الأرض، وآنيةُ ربِّكم قلوبُ عباده الصالحين، وأحبُّها إليه ألينُها وأرقُّها" [حسنه في صحيح الجامع (2163)].
وفي كتاب [أمثال الحديث، لأبي الشيخ الأصبهاني] عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَتْ: كَانَتْ بِمَكَّةَ امْرَأَةٌ مَزَّاحَةٌ، فَنَزَلَتْ عَلَى امْرَأَةٍ مِثْلِهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: صَدَقَ حِبِّي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ" وَلا أَعْلَمُهُ إِلاَّ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: وَلا تَعْرِفُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ [وأصل الحديث متفق عليه].
وأساس المحبة والتآلف، هو القلب، لذا نجد أن القلوب تتآلف وتحِنُّ لمن يوافق شاكلتها.
إن المحبة في الله سببٌ لمحبة الله للعبد، ولنستمع إلى من يحبُّهم الله -جل جلاله-، فلعلنا أن نكون منهم، أخرج الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ؛ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ. قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لا! غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ؛ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ".
إنها الزيارات والمواساة في الله ولله، سبب في محبة الله.
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-: "قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: "وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ".
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ! أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ".
واعلموا أنكم ستحشرون يوم القيامة مع من أحببتم في هذه الحياة الدنيا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" [متفق عليه].
وتنتشر المحبة إذا تساوت محبة الذات مع محبة الآخرين، عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" [متفق عليه].
إنّ من أراد أن تحقَّ عليه محبةُ الله، فعليه بالحبِّ في الله، والتواصلِ والتناصحِ في الله، والتزاورِ والتباذلِ في الله، فقد صح في الحديث القدسي: "قال الله -تعالى-: حقَّت محبتي للمتحابين فيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين في، وحقت محبتي للمتناصحين فيّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيّ، وحقت محبتي للمتباذلين في; المتحابون فيَّ؛ على منابرَ من نورٍ يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء" ["حم، طب، ك" عن عبادة بن الصامت (4321) صحيح الجامع].
إن المتحابين في الله لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ عِبَادًا يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ" قِيلَ: مَنْ هُمْ لَعَلَّنَا نُحِبُّهُمْ؟ قَالَ: "قَوْمٌ؛ تَحَابُّوا بِنُورِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، مِنْ غَيْرِ أَرْحَامٍ وَلاَ أَنْسَابٍ، وُجُوهُهُمْ نُورٌ، عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، لاَ يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلاَ يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ" ثُمَّ قَرَأَ: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس 62]. [صحيح الترغيب (3023)].
ولْنعلمْ أن كلَّ محبَّةٍ ستنقطعُ يوم القيامة، إلا ما كان في الله فهي باقية، قال تعالي: (الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 97].
فكل خُلَّة ستنقطع، وتنقلبُ إلى عداوة، وكلُّ محبة ستنتهي؛ إلا المحبة في الله.
وهنا سؤال: من هم الذين يجب أن نحبهم؟!
يا عبد الله: اجعل محبتك في الله لأهل الخير، حتى تكونَ معهم في الجنة، وإن لم تعمل بعملهم؛ أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-؛ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ".
وأخرج البخاري ومسلم من حديث عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-؛ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟!" قَالَ: لا شَيْءَ! إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَقَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ". قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ". قَالَ أَنَسٌ: "فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ؛ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ".
فهل هذه الدوافع التي نراها في العالم الإسلامي عامة، وفي "غزةَ" خاصة، هي: الإيمانُ بالله -تعالى-، أو الفطرةُ والجبلَّة، أو الهوى والشهوة، أو الغضبُ؟ ما نوع الحبُّ الذي يدفع الناس للجري وراء الفرق والأحزاب، وما الذي يبعدهم عن المحبة الأخوية، ويبعدها عنهم سوى العَدْوِ وراء السراب، حدِّثْ نفسَك واسألها: إذا مررت بين مجموعة من البشر في سوق من الأسواق، أو طريق من الطرقات؛ ماذا تشعر نحوهم؟ هل بالكره والحقد والكبرياء، والحسد والبغضاء؟ أو تشعر نحوهم بالحب والرحمةِ والتواضع، والمواساةِ والمناصحة؟ لماذا كان الشعورُ الأول؛ الكرهُ والبغضُ والحقدُ هو الأكثر؛ إن لم يكن هو السائد؟!
والجواب، هو: ضعف الإيمان في القلوب أو غيابُه، فلا بد تفقد الإيمان في القلوب، زيادته بالأعمال الصالحات، والنيات الخالصات، وتذكر الوقوف بين يدي رب البريات، يوم يبعث الناس من القبور، ويحصَّل ما في الصدور.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداءَ ولا الحاسدين.
اللهم وعافنا من محن الزمان وعوارض الفتن، فإنا ضعفاء عن حملها، وإن كنا من أهلها؛ فعافيتك أوسع يا واسع يا عليم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، يا أرحم الراحمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي