فإذا كان على المرء عموماً أن يعتني باختيار الصاحب فإن أولى الناس بذلك الشاب المسلم في مقتبل عمره؛ لأن المرء في الغالب على أول نشأته, فإذا صحب أهل الصلاح والاستقامة والحرص على ما ينفع من مصالح الدين والدنيا, كان ذلك من أسباب سعادته -إن شاء الله-, وإن صحب أهل الفسوق والفجور والبطالة والشهوات, كان ذلك من أسباب شقاوته وضلاله...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102] (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1] (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) [الأحزاب: 70، 71].
عباد الله: لما كان الإنسان يتأثر أثراً بالغاً بأصحابه, كان على العاقل الذي يريد السلامة لنفسه في الدنيا والسعادة لها في الآخرة ألا يصاحب إلا من تنفعه صحبته وتزينه, وأن يحذر من مصاحبة من تضره صحبته وتشينه، قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28]. قال العلامة ابن سعدي: "يأمر تعالى نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- وغيره أسوته في الأوامر والنواهي, أنه يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي أي أول النهار وآخره, يريدون بذلك وجه الله فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها، ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء, فإن في مصاحبتهم من الفوائد ما لا يحصى.
(وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) أي لا تجاوزهم بصرك وترفع عنهم نظرك, (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فإن هذا ضار غير نافع قاطع عن المصالح الدينية. فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا فتصيرُ الأفكار والهواجسُ فيها، وتزول من القلب الرغبة في الآخرة, فإن زينة الدنيا تروقُ للناظر، وتسحرُ العقل فيقفل القلبُ عن ذكر الله، ويُقبلُ على اللذات والشهوات فيضيعُ وقته وينفرط أمره, فيخسرُ الخسارة الأبدية ويندمُ الندامة السرمدية". انتهى كلامه -رحمه الله-.
وقال تعالى محذراً من مصاحبة غير المتقين: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 67] أي إن الأخلاء يوم القيامة الذين اصطحبوا على الكفر والتكذيب وعلى معصية الله بعضهمُ لبعض عدو, يتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً, ويدعو بعضهم على بعض؛ لأن بعضهم ساق بعضاً إلى أسباب الهلكة من الكفر والفسوق والعصيان, فلم تكن مودتهم لله ولا مستقيمة على منهاجه, فانقلبت عداوة يوم القيامة إلا المتقين, الذين اتقوا الشرك والمعاصي, فإن محبتهم تبقى وتدوم بدوام من كانت المحبة لأجله.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" [رواه أبو داوود والترمذي]. قال العلامة المباركفوري -رحمه الله-: "قوله "الرجل" يعني الإنسان "على دين خليله" أي على عادة صاحبه وطريقته وسيرته. "فلينظر" أي فليتأمل وليتدبر "من يخالل" من المخاله وهي المصادقة والإخاء فمن رضي دينه وخلقه خالـله, ومن لا تجنبه فإن الطباع سراقة, والصحبةَ مؤثرة في إصلاح الحال وإفساده". انتهى كلامه -رحمه الله-.
قال الأصمعي -رحمه الله-: ما رأيت شعراً أشبه بالسنة من قول عدي بن ثابت:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينـه *** فكل قرين بالمقارن يقـتدي
وصاحب أولي التقوى تنل من تقاهم *** ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
وعن أبي موسى الأشعري أن النبي قال: " إنَّمَا مَثَلُ جَلِيسِ الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمًّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً" [متفق عليه].
فصحبة الصالح تنفعك, إما أن ينفعك علماً أو هدياً حسناً, أو أن يظن الناس بك ظناً حسناً ويذكرونك بالجميل, فإنه يقال: إنه لم يصاحب فلاناً إلا وهو على خير.
وصحبة الجليس السوء تضرك, إما في علمك أو في خلقك أو في سمعتك عند الناس, فإنه يساء بك الظن إذا رأوك تصاحبه.
أيه الإخوة في الله: إن ميزان اختيار الصاحب يجب أن يكون ميزاناً دقيقاً مبنياً على العلم والهدى لا على الجهل والهوى, عن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تصاحب إلا مؤمناً ولايأكل طعامك إلا تقي". [رواه أبو داوود والترمذي قال النووي إسناده لا بأس به].
ومن الناس من تخدعك صورته وحسن منطقه وظاهر حاله, وهو ينطوي على شر وخبث كالريحانة حسنة الريح مرة الطعم, فمتى رأيت مثل ذلك فيمن تصاحب فأسرع الهرب وبادر إلى النجاة, فإن صحبته شر, ولا يلبّس عليك الشيطان فيقول: صاحبه وترفق به لعله أن يصلح, فإن العادة جرت على حصول العكس وهو فساد الصالح لا صلاح الفاسد إلا ما ندر.
على حد قول القائل:
ولا ينفع الجرباء قربُ صحيحة *** إليها ولكن الصحيحة تجرب
ودعوة الضالِ شيء آخرُ غيرُ مصاحبته ومؤالفته.
فالحزم كل الحزم أن تنأى بنفسك عن موارد الهلكة وأسبابها, قيل لأعرابي: "لم قطعت أخاك من أبيك؟!" فقال: "إني لأقطع الفاسد من جسدي الذي هو أقرب إلي من أبي وأمي وأعز فقداً".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين أقول هذا القول وأستغفر الله..
الخطـبة الثانيـة
الحمد لله...
أما بعد: فإذا كان على المرء عموماً أن يعتني باختيار الصاحب فإن أولى الناس بذلك الشاب المسلم في مقتبل عمره؛ لأن المرء في الغالب على أول نشأته, فإذا صحب أهل الصلاح والاستقامة والحرص على ما ينفع من مصالح الدين والدنيا, كان ذلك من أسباب سعادته -إن شاء الله-, وإن صحب أهل الفسوق والفجور والبطالة والشهوات, كان ذلك من أسباب شقاوته وضلاله, إلا أن يتداركه الرحمن برحمته ولطفه.
وإذا كانت مصاحبة الفساق أصحاب الشهوات خطراً جسيماً فإن من الناس من صحبته أشدُّ خطراً، وإن كان من أهل العبادة والسمت الحسن, فإن ضررهم أشد؛ ألا وهم أهل الأهواء والبدع؛ لأنهم يُفسدون عقيدة المسلم وهو يظن أنه على الهدى والحق, فمتى يتوب مثلُ هذا من بدعته وضلالته التي تقوده إلى النار والبوار.
إن البدع أشدُ المعاصي لأن البدع تمحو معالم الدين, كما أنها تتضمن اتهام الدين بالنقص, فلو اعتقد المبتدع أن الدين كامل فما الذي أحوجه إلى البدعة, أما المعاصي فمع خطرها وعظيم ضررها إلا أن صاحبها يعلم من نفسه الخطأ والتقصير, فمثله يوشك أن يتوب ويرعوي.
ولهذا نصح أئمة السلف كل مسلم ومسلمة أن يحذر أهل البدع والأهواء, وأن يتجنبوا مصاحبتهم ومخالطتهم والتتلمذ عليهم؛ حفظاً للدين الذي هو رأس المال. قال أحمد بن حنبل: "إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه, وإذا رأيته مع أصحاب البدع فايئس منه فإن الشاب على أول نشوئه". وقال ابن الجوزي -لما ذكر بعض أهل البدع-: "اللهَ اللهَ من مصاحبة هؤلاء, ويجب منع الصبيان من مخالطتهم لئلا يثبت في قلوبهم من ذلك شيء, واشغلوهم بحديث رسول الله لتُعجن بها طبائعهم". وقال الإمام البربهاري: "وإذا رأيت عابداً مجتهداً متقشفاً محترفاً بالعبادة صاحب هوى -أي بدعة-, فلا تجلس معه ولا تسمع كلامه, ولا تمش معه في طريق, فإني لا آمن أن تستحلي طريقته فتهلك معه".
ومن كلام السلف قبل هذا قول ابن عباس: "لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب". وعن أبي قلابة -رحمه الله- أنه كان يقول: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة, أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم". [أخرجها الآجري في الشريعة].
فصحبة أهل البدع ومخالطتهم وموادتهم مخالف لسبيل السلف الصالح, الذين هم أعلم بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-, والذين هم أعظم بصراً بمكايد أهل البدع وطرائقهم في الإضلال, والذين هم أعظم إدراكاً لأضرار مصاحبتهم على القلوب والعقائد.
ومن أهل البدع القبوريون الذين يعظمون المشاهد والأضرحة ويصرفون لها العبادة, ومنهم الرافضة الذين يلعنون الصحابة ويكفرونهم, ومنهم الخوارج الذين يسبون ولاة الأمور ويطعنون عليهم ويخرجون عليهم بالقوة, ومنهم الحزبيون أتباع الفرق المعاصرة التي تسمى بالجماعات الإسلامية فتحزبهم بدعة منكرة, حيث يجتمعون على أصول اخترعوها ومناهج أحدثوها إليها يدعون وعليها يوالون ويعادون.
نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين وأن يعيذنا من الفتن وأن يجمع القلوب على الحق إنه سميع مجيب.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي