من إنعام الله علينا ومِنَنِه العظيمة، وآلائه الجسيمة: أن وهبنا الحياة، وهيأ لنا أسبابَها ومقوماتِها، فله الحمد، ثم أمرنا بطاعته، وأعاننا على القيام بها وأدائها، فله الشكر، فلولاه سبحانك ما عبدناه حقَّ عبادتك، ولا شكرناه حق شكرك، وضاعَف للعامِلين المخلصين منا أجورَهم، وتفضل على المقصرين بالعفو والغفران، فمن فضله وجوده وإحسانه على عباده المؤمنين: أن جعل الحسنة بعشر أمثالها، بل...
الحمد لله الَّذِي حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، المتعرف إلى خلقه بما أسداه إليهم من الكرم والمنن، الَّذِي أخَرَجَ النَّاس من الظلمَاتَ إلى النور، وهداهم إلى صراطه المستقيم، وجنبهم ما يوقعهم في مهامه الجحيم، الواحدِ الأحد، الصمدِ، العزيزِ الحكيمِ، لا تدركه الأبصار، وَهُوَ يدرك الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير، أحمَدُه سُبْحَانَهُ على فضله وجوده الغزير، وأشكره وَالشُّكْر مؤذنٌ بالزيادة والتوفير.
وأشهد أن لا إله إِلا الله وحده لا شريك له، وَهُوَ نعم المولى ونعم النصير.
وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه البشيرُ النذير، والسراجُ المنير، اللَّهُمَّ صل وسلم على عبدك ورسولك مُحَمَّد، وعلى آله وصبحه أولي الجِدِّ في الطاعة والتشمير، صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم المصير.
أما بعد:
أيها النَّاس: اتقوا الله -تَعَالَى- بفعل أوامره، واجتناب مناهيه، وقوا: (أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6] [موارد الظمآن لدروس الزمان (5/ 608)].
يَا مُنَزِّلَ الْغَيْثِ بَعْدَمَا قَنَطُوا *** وَيَا وَلِيَّ الإِنْعَامِ وَالْمِنَنِ
يَكُونُ مَا شِئْتَ أَنْ يَكُونَ وَمَا *** قَدَّرْتَ أَنْ لا يَكُونُ لَمْ يَكُنِ
قالها مَالِكُ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ خَارِجَة ابْن حِصْنٍ [انظر: ذم الهوى (ص: 540)].
فمن إنعامك علينا يا الله، يا رحمن يا رحيم، ومِنَنِك العظيمة، وآلائك الجسيمة: أن وهبتنا الحياة، وهيأت لنا أسبابَها ومقوماتِها، فلك الحمد، ثم أمرتنا بطاعتك، وأعنتنا على القيام بها وأدائها، فلك الشكر، فلولاك سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك، ولا شكرناك حق شكرك، وضاعَفت للعامِلين المخلصين منا أجورَهم، وتفضلت على المقصرين بالعفو والغفران، فمن فضلك وجودك وإحسانك على عبادك المؤمنين: أن جعلت الحسنة بعشر أمثالها، بل السيئة إذا تركها عبدك المؤمن جعلتها -بفضلك- حسنة، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً" [البخاري (6491)].
فأصحاب آحاد الحسنات هم من تركوا السيئات بعد أن هموا بها. و "من أخرج من طريق المسلمين شيئا يؤذيهم؛ كتب الله له به حسنة، ومن كتب له عنده حسنة أدخله بها الجنة" [صحيح الجامع (5985) رمز له "طس" عن أبي الدرداء، والصحيحة (2306)].
فإن فعلتَ حسنةً واحدةً فلك خيرٌ منها: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) [النمل: 89].
(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) [الشورى: 23].
يزاد للعبد في الثواب دون ذكر الكَمِّ والعَدَد، وهناك حسنات تتضاعف وتكثر: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 40].
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 245].
فإذا أردت -يا عبد الله- أن تترقَّى فتكون من أصحاب العشرات فافعل ولا تقصر، ف (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160].
واذكر اللهَ بذكرٍ ثوابُه مضاعف عشر مرات، عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَانَ لَهُ عِدْلَ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَكُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَحُطَّ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ فِي حِرْزٍ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ قَالَهَا إِذَا أَمْسَى كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ" قَالَ فِي حَدِيثِ حَمَّادٍ: فَرَأَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبَا عَيَّاشٍ يُحَدِّثُ عَنْكَ بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ: "صَدَقَ أَبُو عَيَّاشٍ" [سنن أبي داود (5077)].
أما أصحابُ الخمسةِ والعشرين درجة، فهم أهل المساجد والجمع والجماعات، ف "صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَفِي سُوقِهِ، خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ، لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً، إِلاَّ رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى، لَمْ تَزَلِ المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ، مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ" [البخاري (647)، ومسلم (649)].
فإذا زاد الإخلاص في الصلاة، وزاد العدد في الجماعة؛ زاد الأجرُ والثوابُ إلى سبع وعشرين، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلاَةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً" [البخاري (645)، ومسلم (650)].
ومن أراد أن يكون من أصحاب المئات من الحسنات، لقد ورد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلاَّ أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ" [البخاري (3293)، ومسلم (2691)].
والتخلص من بعض المخلوقات الضارة يورث مئاتِ الحسنات، فقد ثبت: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ قَتَلَ وَزَغًا -وهو سام أبرص- فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ كُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ دُونَ ذَلِكَ، وَفِي الثَّالِثَةِ دُونَ ذَلِكَ" [مسلم (2240)].
وأهل السبعمائة من الحسنات فاقوا من فاتهم ذلك: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261].
ففي الحديث القدسي عَنْ رَبِّ العزة -جَلَّ جلاله- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً" [البخاري (6491)].
أما إن أردت أن تكون من أصحاب آلاف الحسنات، فعليك بالذكر والتسبيح، فعن رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ، كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟" فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: "كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟" قَالَ: "يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ" [مسلم (2698)].
أما أصحاب ألوف الألوف من الحسنات، فهي خاصة بالتجار وروَّادِ الأسواق، فقد ثبت: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ دَخَلَ السُّوقَ، فَقَالَ: "لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ" [سنن الترمذي (3428) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ" انظر: الصحيحة (3139)].
وأصحاب مئات الألوف هم رواد المسجد الحرام، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ؛ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ" [ابن ماجة (1406)].
أما أصحاب القناطير من الحسنات "من قام -أي من صلى في الليل- بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" [صحيح الجامع (2189) رمز له "د، حب" عن ابن عمرو، والصحيحة (642)].
وهناك أنواع من الحسنات والأجور، منها النفقة على الأهل والعيال، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ" [صحيح البخاري (56)، ومسلم (1628)].
وهناك حسنات وأجور من المقتنيات، وهذا حديث فيه بُشرى وتحذيرٌ لمن يربُّون الخيول، فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، ثواب وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، لحاله وفقره وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، إثم وثقل فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أعدها للجهاد فَأَطَالَ بِهَا -أي ربطها من رجلها بحبل طويل- فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ -المرج الأرض الواسعة ذات الكلأ والماء- فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ المَرْجِ أَوِ الرَّوْضَة -الأرض ذات خضرة- كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهُ انْقَطَعَ طِيَلُهَا -أي حبْلُها- فَاسْتَنَّتْ -أفلتت ومرحت- شَرَفًا -وهو ما ارتفع من الأرض- أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا، وَأَرْوَاثُهَا -جمع روث وهو ما تلقيه الدواب من فضلات كلُّه- حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ، فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ -أي لم يقصد سقيها ومع ذلك يكون له هذا الأجر فلو قصد هذا لكان أجره أعظم- فَهِيَ لِذَلِكَ أَجْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا -استغناء عن الناس بطلب نتاجها- وَتَعَفُّفًا -عن سؤالهم بما يعمله ويكتسبه على ظهورها- ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلاَ ظُهُورِهَا -القيام بحقها والشفقة عليها في ركوبها- فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً -أي: تعاظما وإظهارا للطاعة والباطن بخلافه- وَنِوَاءً لأَهْلِ الإِسْلاَم -مناوأة وعداوة- فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ" [البخاري (2371)].
قَالَ أَبُو عُمَرَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ؛ أَنَّ الأَعْيَانَ لا يُؤْجَرُ الإِنْسَانُ فِي اكْتِسَابِهَا لأَعْيَانِهَا، وَإِنَّمَا يُؤْجَرُ بِالنِّيَّةِ الْحَسَنَةِ فِي اسْتِعْمَالِ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ مِنَ الْفَضْلِ فِي عَمَلِهِ؛ لأَنَّهَا خَيْلٌ كُلُّهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُ مُكْتَسِبِيهَا لاخْتِلافِ النِّيَّاتِ فِيهَا.
وَفِيهِ: أَنَّ الْحَسَنَاتِ تُكْتَبُ لِلْمَرْءِ إِذَا كَانَ لَهُ فِيهَا سَبَبٌ وَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ فَضْلُ الْحَسَنَةِ تَفَضُّلا مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ السَّيِّئَاتِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. [الاستذكار (5/ 7)].
أجور وحسنات تجري عليك -يا عبد الله- حتى بعد مماتك، وانتهاء عمرك، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ" [سنن ابن ماجة (242)].
زيادةُ الحسناتِ، وتكفيرُ السيئات، أكثرُه في المحافظة على الصلوات، والمداومةِ على الجماعات، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَزِيدُ بِهِ فِي الْحَسَنَاتِ؟" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ" [سنن ابن ماجة (427)].
وهناك من الأجور ما ادخره الله -سبحانه- لأهله، فلا يعلم أحدٌ كَم مقداره إلا الله، ألا وهو الصيام، ففي الحديث القدسي: "قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلاَّ الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ" [صحيح البخاري (1904) ومسلم (1151)].
يا عبد الله: فلا تُذهِب هذه العشرات والمئات والألوف من الأجور والحسنات، بآحاد الخطايا والذنوب والسيئات، بل تذهب وتضيع هذه الحسنات بالإسراف في بعض المباحات، وتعجيلِ بعض الطيبات، لقد ورد أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا، فَقَالَ: "قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ، إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ، بَدَتْ رِجْلاَهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ -وَأُرَاهُ قَالَ: وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي- ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ -أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا- وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ" [البخاري (1275)].
فمن أضاع طيباته في الدنيا فيه شبه من الكفار الذين قال الله فيهم: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) [الأحقاف: 20].
ويوم القيامة: "لا يُعْتَبَرُ النَّاسَ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَإِنَّ الْكَافِرَ قَدْ يُعْطَى الْمَالَ، وَرُبَّمَا حُبِسَ عَنِ الْمُؤْمِنِ" قاله قتادة في قوله تعالى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ: 37].
فبالإيمان والعمل الصالح تتضاعف لهم أجورهم، ويأمنون من كلِّ ألمٍ وعذاب.
أما ميزان الحسنات والسيئات يوم القيامة؛ فالعبدُ رهينةُ ما يثقِل ميزانِه: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114].
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ" [البخاري (2449)].
هذا هو الميزان، ف "إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا" [مسلم (2808)].
إذا كان قتلُ النفسِ بغير وجه حقٍّ كقتل جميع الناس، فإنَّ إحياءها وإنقاذَها من المهالك إحياؤٌ لجميع الناس، لقوله تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة: 32].
ألا واعلموا أن هناك من تبدَّلُ سيئاتُهم حسناتٍ، وهم الأوابون التائبون: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان: 70].
أما تكفيرُ السيئات، وعفوُ أرحم الراحمين، ودخول جنات النعيم، فهذا ما ادخره لعباده المؤمنين يوم القيامة، وهذا من جوده وكرمه وفضله، فهو القائل سبحانه: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا) [النساء: 31].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال: 29].
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) [العنكبوت: 7].
سئل ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ -أي مناجاة الله للعبد يوم القيامة- فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: "أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟" فَيَقُولُ: "نَعَمْ أَيْ رَبِّ!" حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: "سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ" فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: (هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18] البخاري (2441)].
وفي الختام:
خلِّ الذنوبَ ولا تهمَّ بفعلِها *** فأخو الذنوبِ طويلةٌ حسراتُهُ
واجْنح إلى التقوى فطُوبى لامرئٍ *** غلبتْ على آحادِهِ عشراتُهُ
"اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، يا منان، يا بديع السماوات والأرض، يا حيّ يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام؛ أن تمن علينا بمحبتك، والإخلاصِ لك، ومحبةِ رسولك -واتباعه-، ومحبةِ شرعك، والتمسك به.
اللهمَّ! يا مقلبَ القلوبِ ثبت قلوبَنا على دينك.
اللهم يا مصرفَ القلوب صرف قلوبَنا إلى طاعتك.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموتَ راحة لنا من كل شر.
اللهم تقبل صيامنا، وقيامنا، وأعد علينا من بركات هذا اليوم، وأعد أمثاله علينا، ونحن نتمتع بالإيمان، والأمن، والعافية.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين" [الضياء اللامع من الخطب الجوامع (2/ 181)].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي