تصدع وشقوق في جدار الحياء

حسان أحمد العماري
عناصر الخطبة
  1. خطورة الاحتكام إلى الهوى ومصلحة الذات .
  2. أهمية إصلاح العلاقة بين الناس وضبط سلوكياتهم وتصرفاتهم .
  3. فضائل خُلق الحياء .
  4. درر من كلام السلف عن الحياء .
  5. ذهاب الحياء من عقوبة الذنوب والمعاصي .
  6. ثمار خُلق الحياء. .

اقتباس

لما احتُضر الأسود بن يزيد بكى فقيل له: ما هذا الجزع ؟ قال: "ما لي لا أجزع؟! ومن أحق بذلك مني.. والله لو أُتيت بالمغفرة من الله -عز وجل- لأهمني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه، ولا يزال مستحييًا منه".. وقال مجاهد رحمه الله في قوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن:46]، هو الرجل يخلو بمعصية الله فيذكر مقام الله فيدعها فرقًا من الله.

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وألبسنا لباس التقوى خير لباس..

الحمد لله حمداً طـاب وانتشرا  *** على ترادف جود في الوجــــود سرى

الحمد لله حمـداً سرمداً أبــدا *** ما أضحك الغيث وجه الأرض حين جرى

حمدا كثيرا به أرقى لحضـرته ***  على منابــر أنس أبلـــــغ الوطرا

ثم الصلاة على ختم النبوة مـن ***  إذا تــــــقدم كـان الأولــون ورا

مع السلام الذي يهدى لحضرته *** يعم آلاً وصحباً ســــادة غــــررا

ونسأل الله توفيقاً لطاعتـــه***ورحمة لم نجـــد من بعـــدها كدرا..

أما بعـــــد: عبـــــاد الله: يقول تبارك وتعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ *فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة:27-32].

  هكذا عندما تستبد الدنيا بالقلوب وتُفتن بها العقول وتعمى لأجلها الأبصار تتحول الحياة إلى جحيمٍ لا يُطاق، فيظهر الصراع بين الناس، وينتشر الظلم ويظهر العدوان وتذهب الألفة والمحبة، وتضيع الحقوق وتُهمل الواجبات ويصبح الاحتكام إلى الهوى ومصلحة الذات سيد الموقف، ويختفي الوازع الديني، ويذهب الحياء والخوف من الله ومراقبته من النفوس، ويحل محل ذلك الأنانية وحب التسلط والإثم والعدوان، والله -سبحانه وتعالى- ما خلق البشر لكي تصبح حياتهم بهذه الصورة أو على هذا النمط أو هذا الشكل من أشكال الحياة بل كانت رسالة الله للأنبياء جميعهم -عليهم السلام- قوله تعالى:  (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13]، وقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: من الآية2].

 لقد كان الهدف من هذا التوجيه وهذا البيان الإلهي إصلاح العلاقة بين الناس وضبط سلوكياتهم وتصرفاتهم  وكلمة (ابني آدم) تدل على أنه موجه لكل أولاد آدم، فهو بيانُ عالمي ورسالة عالمية  لكل البشر؛ فما أروع هذه الآية ومعناها (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ) لماذا؟ هل لأنه أضعف منه؟ أو لأنه لا يستطيع أن يقتله؟ كلا، ولكن كما قال: (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: "وأيم الله، إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه الخوف والورع والحياء من الله الذي يسمع ويرى ويعلم ما يفعله العبد، والذي بيده الخلق والأمر والحساب والعقاب والجنة والنار..

قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة: 7]، وقال عز وجــل:  (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30].

أيها المؤمنون/ عبـــاد الله:  الحياء خلقٌ من أخلاق العظماء وهو خلق الإسلام الأول قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ لكل دين خُلقاً، وخلق الإسلام الحياء" (موطأ مالك، وسنن ابن ماجه).

 والحياء خلق يبعث على ترك القبيح وعدم التقصير في حق الله ومراقبته، وهو أن تخجل النفس من فعل كل ما يعيبها وينقص من قدرها ومروءتها، وهو  من الأخلاق الرفيعة التي أمر بها الإسلام وأقرها ورغب فيها وقد جاء في الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-:  "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها لا إله إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"،  وهو خُلق  توارثته النبوات وأمر به الأنبياء ووصى به العظماء قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن مما أدرك الناسَ من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت" (البخاري 3/1284)..

وجاء سَعِيدِ بن يَزِيدَ الأَزْدِيِّ، ذات يوم فقَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَوْصِنِي، قَالَ: "أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ" (صححه الألباني في السلسلة الصحيحة 741)..

قال عمر -رضي الله عنه-: "من قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه".

ولما احتضر الأسود بن يزيد بكى فقيل له: ما هذا الجزع ؟ قال: "ما لي لا أجزع؟! ومن أحق بذلك مني.. والله لو أُتيت بالمغفرة من الله -عز وجل- لأهمني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه، ولا يزال مستحييًا منه"..

وقال مجاهد رحمه الله في قوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن:46]، هو الرجل يخلو بمعصية الله فيذكر مقام الله فيدعها فرقًا من الله.

إذا ما خلوت بريبة في ظلمة  *** والنفس داعية إلى الطغيان

فاستحِ من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني

والحياء مقرونٌ بالإيمان وملازمٌ للمؤمن كظله، فإذا رُفع أحدهما رُفع الآخر قال -صلى الله عليه وسلم-: "الحياء والإيمان قُرنا جميعاً، فإذا رُفع أحدهما رُفع الآخر" (رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين).. وقد جاء في الأثر: "إن الله –تعالى- إذا أبغض عبداً نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا بغيضاً مبغضاً" ..

 فما أجمل أن يكون لنا من الحياء السياج الذي يحفظ علينا نور الإيمان، ويلبسنا ثوب التقى والطهر والعفاف، ونكون به بين الناس مبعث نور، ومصدر برّ ومنار هدى، تتميز به شخصيتنا، وتظهر من خلاله ملامح عزتنا وكرامتنا...

اللهم زينا بالتقى واحفظنا من الردى واغفر لنا في الآخرة والأولى.. قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطـبة الثانـية:

عبـاد الله: يحدثنا ابن القيم رحمه الله عن عقوبة الذنوب والمعاصي فيقول: "ومن عقوباتها- أي الذنوب والمعاصي- ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب، وهو أصل كل خير، وذهابه ذهاب كل خير بأجمعه..".

 إن جدار الحياء في نفوس كثير من المسلمين اليوم قد تعرض لشقوق وتصدعات وثقوب فأصبح ضعيفاً، بل وسقط وتهدم عند كثير منهم؛ بسب الغفلة عن حقيقة الدنيا والدار الآخرة، والتقصير في الطاعات والعبادات، والتنافس على الدنيا، ونسيان الآخرة، وعدم العمل بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والركون إلى الذين ظلموا أنفسهم من اليهود والنصارى والمنافقين أعداء الدين، فظهرت بسبب ذلك قسوة القلوب والشدة والغلظة، وقطيعة الأرحام، وذهاب المعروف، وضعفت الأخوة، ورُئيت الجرأة على حدود الله وحرماته بل والمجاهرة بالمعاصي، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه" (متفق عليه)..

أين الحياء وهناك من يفاخر بأنه قتل أخاه المسلم؟ أين الحياء وهناك من يتحدث ظلمه وعدوانه وأكله المال الحرام؟ أين الحياء وهناك من تقوم بينه وبين إخوانه وجيرانه العداوات والخصومات بسبب أمور تافهة أو عصبيات جاهلية أو نزغات شيطانية لن تشفع له يوم القيامة؟ أين الحياء وهناك من يعق والديه ويقطع رحمه، ويتحدث على أن تلك الأشياء من إنجازاته ولا يشعر بتأنيب الضمير..؟

إذا لم تخـشَ عاقبـة الليالي  *** ولم تستح فاصنع ما تشـاء

فلا والله ما في العيش خيـر  *** ولا الدنيا إذا ذهـب الحيـاء

يعيش المرء ما استحيا بخير  *** ويبقى العود ما بقي اللحـاء

أيها المؤمنون/ عبــاد الله:  إن من ثمار خلق الحياء أنه يمنع صاحبه من فعل المنكرات وارتكاب الموبقات، وبه تنال الدرجات، وهو عنوان على صدق الإيمان وقوة الأخلاق، وبه تتنزل الرحمات، ومن ثماره أنه يؤلف بين القلوب.. والحياء يعصم الدماء، ويحفظ الأعراض لأنه يولد  الخوف من الله وتذكر عواقب الخسارة في الدنيا والآخرة..

والحياء.. يحفظ جميع الأخلاق ويحرسها في نفس المسلم فتستقيم حياته.. والحياء يبث في النفوس استشعار المسئولية تجاه النفس والدين والأولاد والوظيفة والأوطان.. ومن أحبه الله رزقه الحياء..

فلنتخلق بهذا الخلق ونصلح ما به من تصدعات وشقوق لتثبت نفوسنا على الحق والخير والمعروف حتى نلقى الله ويكون ذلك بتربية نفوسنا على طاعة الله ومراقبته والقيام بالعبادات وتلاوة القرآن وتدبر معانية والاستعداد للقاء الله والوقوف بين يديه، والطمع فيما عنده من أجر وثواب.

فلنتخلق بخلق الحياء ولنزكي به نفوسنا ونربي عليه أبناءنا، وننشره في بيوتنا ومجتمعاتنا وهو خلق مطلوب في الرجل والمرأة والصغير والكبير والحاكم والمحكوم..

فنسأل الله أن برزقنا هذا الخلق وأن يجود علينا بفضله وكرمه وأن يهدينا لأحسن الأخلاق وأن يصرف عنا سيئها...

اللهم احفظنا بحفظك الذي لا يرام واحرسنا بعينك التي لا تنام واحقن دمائنا واحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين..

اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ما فسد من أحوالنا، وردنا إلى دينك رداً جميلاً .. هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي