زجر العامة عن الخوض في القضايا العامة

علي بن يحيى الحدادي
عناصر الخطبة
  1. الأمور العامة تترك لأهلها   .
  2. وقفات مع آية ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ .
  3. مفاسد الخوض في القضايا العامة .
  4. أمثلة مما يخوض فيه الناس بلا علم .
  5. الأمور العامة لأولي الأمر حكاما وعلماء. .

اقتباس

لو تأمل العاقل في هذه الموضوعات التي تستهلك أكثر مجالس الناس, لوجد أنه كلام إن لم يضر لم ينفع, والعمر أغلى من أن يضيع في أمر لا فائدة من ورائه, فكيف الحال إذن إذا كان هذا الكلام ضاراً غير نافع؟!. إن الخسارة إذن أكبر...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102] (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1] (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:

فإن الأمور في هذه الحياة تنقسم قسمين: قسم خاص يتعلق بك في خاصة نفسك, فعليك أن تعنى به, وأن تسعى فيه بجد مما يتعلق بمصالح دينك ودنياك, وفي هذا يقول -صلى الله عليه وسلم-: "احرص على ما ينفعك".

وقسم عام يتعلق بأمر الناس والبلد في قضايا دينية أو دنيوية, فهذا إنما يخوض فيه من بيده مقاليد الأمور العامة, وهم أولو الأمر من الأمراء والعلماء, وإذا خاض فيها من ليس من أهلها تترتب على خوضه ممن الفساد الخاص والعام ما لا يعلم عواقبه إلا الله.

ولهذا أدبنا الله تعالى بأن يكف العامة عن الخوض في هذا النوع من القضايا, وأن يردوه إلى من أوكله الله إليه, فقال -سبحانه وتعالى-:  (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83].

عباد الله : في هذه الآية إرشادات عظيمة, لو وعاها المسلمون وطبقوها تطبيقاً صحيحاً؛ لسلموا من أكثر مشكلاتهم التي عصفت بهم ففرقت كلمتهم، وخالفت بين قلوبهم، وضيعت كثيراً من أعمارهم فيما يعود عليهم بالمضرة.

كلمات معدودة ولكن فوائدها وعوائدها غير محدودة, لكن أين من يفهم كلام الله؟ ثم أين من يستمع القول فيتبع أحسنه؟ نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم.

هذه الآية فيها تأنيب وإرشاد, أما التأنيب فهو للذين يتدخلون فيما لا يعنيهم, فإذا وقع أمر عظيم تتعلق به المصلحة العامة مما هو من خصائص ولاة الأمور من الحكام والعلماء أسرعوا إلى الخوض فيه, بالجهل والهوى والرؤية القاصرة, فقالوا غير الصدق وحكموا بغير العدل, وترتب على خوضهم هذا من الفساد الخاص والعام الشيء الكثير.

وأما الإرشاد فإن الله أمرنا أن نرد هذه القضايا الكبار إلى أصحابها, إن كانت سياسية فإلى أصحاب السياسة من ولاة الأمور, وإن كانت علمية فإلى أصحاب العلم من كبار العلماء يفتون فيها, وأما عامة الناس ممن ليس بذي سلطان ولا علم فلا دخل لهم في قضايا الأمة, وإنما عليهم بأمر أنفسهم فليشتغلوا بما يعنيهم, وليتذكر كل مسلم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".

إن ترك العمل بما أرشدت إليه هذه الآية الكريمة قد أوقع المسلمين في مشاكل عظيمة, أفسدت على كثير منهم دينهم ودنياهم, ومن الأمثلة على ذلك حين خاض في مسائل الجهاد من لا علم عنده بشريعة الإسلام, جروا على الإسلام وأهله جناية بالغة, فاستحلوا الدماء المعصومة, واستجلبوا الدمار لديار الإسلام بتحرشهم بالدول الظالمة الغاشمة التي أوتيت من أسباب القوة ما أوتيت, وشوهوا دين الإسلام ونفروا عنه بصورة عجزت عنها شياطين الشرق و الغرب.

هذه المفاسد كلها وقعت بسبب شذاذ خاضوا بلا علم ولا بصيرة فيما لا يحسنونه, فأوردوا المسلمين موارد الهلكة, نسأل الله العصمة والعفو والعافية.

ومن أمثلة مفاسد دخول المرء فيما لا يعنيه: انشغال كثير من الناس في مجالسهم بالقيل والقال حول قضايا سياسية, فيما يتعلق بأمر الداخل أو الخارج من تحليل لحدث أو توقع لما يكون مستقبلاً على غير هدى ولا بصيرة.

وذاك يفتي بأن هذا حلال وهذا حرام فيما يتعلق بمعضلات المسائل, وهو من أجهل الناس بأوضحها وأسهلها.

وهذا يوعز الصدور ويهيج قلوب الناس بمثل قوله: "لماذا الدولة لا تفعل؟ كذا ولماذا العلماء لا يفتون بكذا؟". وقد يكون ما تمناه عين الهلكة والفساد.

أيها الأخوة: لو تأمل العاقل في هذه الموضوعات التي تستهلك أكثر مجالس الناس, لوجد أنه كلام إن لم يضر لم ينفع, والعمر أغلى من أن يضيع في أمر لا فائدة من ورائه, فكيف الحال إذن إذا كان هذا الكلام ضاراً غير نافع؟!. إن الخسارة إذن أكبر.

وهذا هو الحاصل لما فيه من المخالفة لما أرشدنا إليه ربنا من رد هذه القضايا لولاة الأمور من العلماء والأمراء, يبتوّن فيها بما يرون فيه المصلحة للبلاد والعباد, ولما يترتب عليه من إيغار الصدور واختلاف الكلمة, ولما يحصل فيه من القول على الله بغير علم, وقد أدبنا ربنا بقوله: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36]. وعن أم حبيبة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل كلام ابن آدم عليه لا له, إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله" [رواه الترمذي].

وقد مدح الله المؤمنين بأنهم عن اللغو معرضون, ووعدهم على هذه الصفة وصفات أُخر بالفردوس الأعلى في الجنة, قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون: 1 - 3] إلى أن قال: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 10، 11].

فاحفظوا إيمانكم, واخزنوا ألسنتكم إلا بخير, وكِلوا أمور السياسة والفتوى لأهلها فقد كفيتم, واحمدوا الله على العافية.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

الخطبة الثانية:

الحمد لله...

أما بعد: يقول بعض أهل العلم عند قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) الآية. "خوض العامة في السياسة وأمور الحرب والسلم والأمن والخوف أمر معتاد, وهو ضار جداً إذا شغلوا به عن عملهم. ومثل أمر الخوف والأمن سائر الأمور السياسية والشؤون العامة التي تختص بالخاصة دون العامة.

فالواجب على الجميع تفويض ذلك إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإلى أولي الأمر في زمنه -صلى الله عليه وسلم-. وإلى أولى الأمر دون غيرهم من بعد؛ لأن جميع المصالح العامة توكل إليهم, والناس فيها تبع لهم، ولذلك وجبت فيه طاعتهم. ولا غضاضة في هذا على فرد من أفراد المسلمين ولا خدشاً لحريته واستقلاله، ولا نيلاً من عزة نفسه, فحسبه أنه حر مستقل في خويصة نفسه.

وليس من الحكمة ولا من العدل ولا المصلحة أن يسمح له بالتصرف في شؤون الأمة ومصالحها وأن يفتات عليها في أمورها العامة, وإنما الحكمة و العدل في أن تكون الأمة في مجموعها حرة مستقلة في شؤونها كالأفراد في خاصة أنفسهم، فلا يتصرف في هذه الشؤون العامة إلا من تثق بهم الأمة من أهل الحل والعقد المعبر عنهم في كتاب الله بأولى الأمر؛ لأن تصرفهم وقد وثقت بهم الأمة هو عين تصرفها. وذلك منتهى ما يمكن أن تكون به سلطتها من نفسها" انتهى كلامه بشيء من التصرف والاختصار.

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي وعن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي