المؤمن له مع الله عبودية في الضراء كما له عبودية في السراء، وله عبودية في العسر كما له عبودية في اليسر، فينزل البلاء ليستخرج الله به أنواعاً من العبودية لم تكن لتخرج لولا البلاء. وربما كان فَقْدُ ما فقدته سبباً للوقوف على الباب واللجأ، وحصولُه سبباً للاشتغال به عن...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أتاني قبل ثلاثة أيام -وأنا في صالة الاختبار-، وقد كنتُ افتقدته مدةً من الزمن، فسألته عن حال أختيه اللتين بقيتا فيمن بقي من أهل بيته! فتنهّد تنهد المكلوم المحزون، وأخذ يتحدث عن عظيم الفاجعة التي حلّت بهم، وعن آثارها النفسية عليهم: فما قصة هذا الشاب؟!
هذا الشاب أحد الطلاب الذين درستهم في الجامعة، وكان الأول على دفعته، متميزاً في تحصيله، ينتمي إلى أسرة متدينة، لا تعرف إلا العلم الشرعي والدعوة، ساروا في صيف 1429، من المدينة عائدين إلى الكويت بعد رحلة إلى الحرمين الشريفين، وفي الطريق يقع لهم حادث، فيموت أبوه، وتموت أمه، واثنين من أخواته، وبعد يومين يموت اثنان آخران من إخوته الذين بقوا في العناية ليستكملوا ما بقي لهم من أنفاس بقيت لهم في آجالهم، فَقَدَ ستةً من أهل بيته دفعةً واحدة! ولم يبق إلا أختاه فحسب، بقي هؤلاء الثلاثة في العناية المركزة حتى تحسنت حالتهم ثم خرجوا، وما زال فيهم من آثار ذلك الحادث إلى هذا اليوم، ضعف في الذاكرة، آثار تشوهات في أبدان أخواته، أخذ يحدثني، وهو يتذكر والديه، وإخوانه، فقلتُ له: إن المصاب عظيم، لكن هل تعتقد أنه لا يوجد من أشد منك مصيبة؟ قال: بلى، ولكن، قلتُ له: دعك من لكن.
وإليك هذه القصة التي وقعت لأستاذ جامعي في المدينة، فقد ودّع الأستاذ أولاده وزوجته الذين ذهبوا إلى القصيم من أجل حضور مناسبة زواج، وفي طريق العودة أخذ هذا الأب يتصل بأولاده ليطمئن على مسير عودتهم، فأجابوه أننا قد سلكنا الطريق للتو، وبعد ساعة يتصل، فإذا بهم يجيبونه بأنا قد قطعنا 100 كم، وبقي نحو 400 كم، وبعد ساعتين يتصل، ولكن هذه المرة لا يجيبه أحد! حاول مراراً لكن لا مجيب، وإذا بالخبر يأتيه، احتسب زوجتك وأولادك! أتدرون كم عددهم -يا عباد الله-ـ؟
لقد كانوا أحد عشر نفساً، وبعضهم قد تقطعت أوصاله، ولك أن تتصور حال هذا الرجل -الذي كاد عقله يطيش -وهو يصلي على تلك الجنائز، ويدفنها واحدةً واحدة!.
إنها فاجعة عظيمة وكبيرة، لا يحتملها إلا من ربط الله على قلبه، فلما قصصتُ خبر هذه العائلة على تلميذي كأنه تسلى قليلاً، وودعني وفي حلقه غصّة.
جبلت على كدر وأنت تريدها *** صفوا من الأقذاء والأقذار
وقول الله أبلغ: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4].
عباد الله: هذه نماذج من الابتلاء الذي يتعرض له الناس، مسلمهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، طائعهم وعاصيهم، إلا أن الفرق بين الفريقين هو في طريق التعامل مع هذه المصائب.
والمؤمن له مع الله عبودية في الضراء كما له عبودية في السراء، وله عبودية في العسر كما له عبودية في اليسر، فينزل البلاء ليستخرج الله به أنواعاً من العبودية لم تكن لتخرج لولا البلاء، قال الحسن البصري: "كانوا يتساوون في وقت النعم، فإذا نزل البلاء تباينوا".
وقال ابن الجوزي -رحمه الله- في بيان شيء من حكم الابتلاء، وتأخر إجابة الدعاء: "إنه ربما كان فَقْدُ ما فقدته سبباً للوقوف على الباب واللجأ، وحصولُه سبباً للاشتغال به عن المسؤول، وهذا الظاهر، بدليل أنه لولا هذه النازلة ما رأيناك على باب اللجأ، ... فهذا من النعم في طي البلاء، وإنما البلاء المحض ما يشغلك عنه، فأما ما يقيمك بين يديه ففيه جمالك" [صيد الخاطر، ص(132) طبعة ابن خزيمة].
وما أجمل ما قاله بعض العلماء: "بالابتلاء ينظر العبد إلى قهر الربوبية، ويرجع إلى ذل العبودية" [ابن ناصر الدين، في كتابه: "برد الأكباد"، ص(37)].
ومن تأمل شيئاً من معاني اسم الله: "اللطيف" تبيّن له بعض أسرار هذا الاسم العظيم فيما يقدره الله من ابتلاء، ذلك أن الله -تعالى- من لطفه بعبده: "يبتليه ببعض المصائب، فيوفقه للقيام بوظيفة الصبر فيها، فينيله درجات عاليه لا يدركها بعمله، وقد يشدد عليه الابتلاء بذلك، كما فعل بأيوب -عليه السلام-، ويوجد في قلبه حلاوةَ روحِ الرجاء، وتأميلَ الرحمة، وكشف الضر، فيخف ألمه وتنشط نفسه" [تفسير الأسماء الحسنى، للسعدي، ص(74)].
عباد الله: وإن من أعظم ما يسلي المؤمن -وهو يعيش المصيبة أو ينتظرها- أن يوطن نفسه على أمورٌ إذا استحضرها هان عليه ما يلقى، ومن ذلك:
1- أن يعلم أن الابتلاء قاسم مشترك بين الخلق، كما قال الأول:
وأعلم أني لم تصبني مصيبة *** من الله إلا قد أصابت فتى قبلي
ولو كان أحد يسلم منه لسلم منه الأنبياء والمرسلون، بل هم أشد الناس بلاءً، ولكن الله تعالى -لحكمة بالغة- ينوّع على عباده البلاء، فمنهم من يبتلى بالسراء، ومنهم من يبتلى بالضراء، منهم من يبتلى بالفقر، ومنهم من يبتلى بالمرض، وآخرون بفقد الأحبة، وغيرهم بالسجن وسواهم بالقتل، في سلسلة من الابتلاءات، تقع وفق حكمة الله، وتقديره البالغ.
لما مات ابن لسليمان بن عبد الملك، عزّاه بعض العلماء بقوله: "من أحب البقاء فليوطن نفسه على المصائب" [الاعتبار، لابن أبي الدنيا، ص(44)].
فما الحل إذن؟
لا حل غير الصبر واليقين، فالجزع لا يحيي ميتاً ولا يشفي مريضاً، ولا يصلح فاسداً: "ومن يتصبر يصبره الله" [صحيح مسلم].
وقد روى ابن أبي الدنيا في القناعة والعفاف: (69)، عن الأحنف بن قيس يقول: "اللهم هب لي يقينا يهون علي مصائب الدنيا".
2- أن تتذكر كم صرف ربك عنك من النقم والبلاء، وأن ما أصابك لا شيء بالنسبة لما صرف عنك، قال الحسن البصري -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات: 6] قال: "يعدد المصائب، وينسى النعم".
ومن الطرق المفيدة المجرّبة لتخفيف المصيبة: أن تحاول تعدد بعض النعم التي تعيش فيها.
قال العلامة السعدي في [الوسائل المفيدة للحياة السعيدة (7) بتصرف]: "فإن معرفتها والتحدث بها يدفع الله به الهم والغم، ويحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها حتى ولو كان العبد في حالة فقر أو مرض أو غيرهما من أنواع البلايا، فإن العبد إذا قابل بين نعم الله عليه -التي لا يحصى لها عد ولا حساب- وبين ما أصابه من مكروه، لم يكن للمكروه إلى النعم نسبة".
جرب -أخي- أن تقول -إذا ضعفت نفسك بسبب ما أصابك -جرب أن تقول، وبصوت مسموع: أنا أوي إلى بيت وفي الناس من لا يجد ما يؤيه! قل: أنا عندي من المال ما أستغني به عن الناس وغيري يسأل، قل: أنا آمن وغيري خائف، قل: أنا أتحرك وغيري مشلول، قل: أنا أخرج فضلاتي مرتاحاً وغيري يتقطع حسراتٍ عند خروج قطرات من بوله، أو لا يتحكم فيها أصلاً، قل: أنا في صحة جيدة، وغيري في العناية المركزة أو في أمراض عصيّة، وإن فقدتَ حبيباً فقد غيرك أحباباً، بل قل: أنا مؤمن وكم في الأرض من كافر؟ في نعم لو بقيت عمرك ما استطعت عدها، ووالله لو أخذتَ تربي نفسك بهذه الطريقة ستجد عجباً وأثراً نفسياً حسناً.
وتأمل في ذلك العلاج النبوي الذي له أثره البالغ لمن استعمله، ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم".
قال العلامة ابن سعدي -رحمه الله- معلقاً على هذا العلاج النبوي: "فإن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحظ الجليل رآه يفوق جمعاً كثيراً من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه مهما بلغت به الحال، فيزول قلقه وهمه وغمه، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها، وكلما طال تأمل العبد بنعم الله الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، رأى ربه قد أعطاه خيراً ودفع عنه شروراً متعددة، ولا شك أن هذا يدفع الهموم والغموم، ويوجب الفرح والسرور" [الوسائل المفيدة للحياة السعيدة (7) بتصرف].
ومن القصص المعبِّرة في هذا المقام: "أصيب عروة بن الزبير -رحمه الله- بأحد أولاده، وبأحد اطرافه، فسمع الوليد بن عبدالملك بمصيبته، فاستدعاه إلى قصر الخلافة، من أجل أن يسليه، فخرج أعوان الخليفة ليبحثوا عن رجل مصاب بمصيبة ليسمع عروة قصته، لعله يتسلى، فإذا هم برجل أعمى يتلمس الطريق بجانب قصر الخليفة، فأدخلوه على الخليفة، فسأله: ما خبرك؟ قال: أنا رجل من بني عبس، والله ما كان في بني عبس رجلٌ أغنى مني، كانت عندي أموال كثيرة، وكان عندي أولادٌ كثر، وكان عندي من الإبل والبقر والغنم والدراهم والذهب والفضة ما لا يعلمه إلا الله -عز وجل-، ثم عزب لي قطيع من الإبل، فخرجت أبحث عن هذا القطيع، قال: ثم عدت بعد ثلاثة أيام، وقد رجعت بالقطيع، فإذا سيل قد جاء على الوادي بعدي، فلم يبق لي ولداً ولا أماً ولا أختاً ولا بنتاً ولا ابناً ولا مالاً، فإذا الديار خراب بلقع، ليس بها داع ولا مجيب، قال: فوقفت، وإذا أنا بطفل صغير معلق بشجرة -طفلٍ صغير من أطفاله- لم يبق سواه، قال: فتقدمت إليه، وأخذته وضممته على صدري، وأنتحب، قال: وإذا بأحد الجمال يند ويهرب، قال: قلت: ضيعتُ كل شيء من أجلك؟ لأرجعن بك، فترك ابنه الصغير، قال: وبينما أنا أطارد الجمل، وإذ بصوت الطفل الصغير يصرخ، فإذا ذئب قد أخذه، وإذا به يسحبه من أمامي، قال: فبقيت وراء الإبل، لم يبق لي إلا الإبل، أريد أن أستعيد هذا الجمل، فبقيت أطارده، وإذ به يرفسني فيعمي عينيّ، فإذا أنا في الصحراء، لا أهل ، ولا مال ، ولا صديق ، ولا صاحب، ولا أنيس إلا الله الذي لا إله إلا هو، وجئتك ووالله ما جئتك يا وليد شاكياً، ولكن جئتك ليعلم الناس أن لله عباداً يرضون ويسلمون بقضاء الله وقدره ، وإني لأرجز العقبى، وحسن الخلف من الله".
يجرى القضاء وفيه الخير نافلةٌ *** لمؤمنٍ واثقٍ بالله، لا لاهي
إن جاءه فرحٌ أو نابه ترحٌ *** في الحالتين يقول: الحمد لله
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة خير أنبيائه.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله ...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
3- فمن أعظم ما يسلي العبد المبتلى أو المصاب: أن يتذكر أن البلاء له أمدٌ ينتهي إليه، ووقت ينقضي عنده، وما عرف أن بلية استحكمت استحكاماً تاماً لا فرج معه، وقد كانت العرب تقول: الشدة بتراء، أي: منقطعة يوماً من الدهر، أين أنت من ابتلاء يعقوب الذي امتد عشرات السنين فجاءه الفرج؟ وأين أنت من أيوب الذي طال بلاؤه حتى استنكره أقرب الناس له، فجاءه الفرج؟.
يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "وليعلم أن مدة مقام الشدائد عنده كمدة مقام الضيف، فيا سرعة انقضاء مقامه، فكذلك المؤمن في الشدة ينبغي أن يراعي الساعات، ويتفقد فيها أحوال النفس، ويتلمح الجوارح، مخافة أن يبدو من اللسان كلمة، أو من القلب تسخط، فكأنْ قد لاح فجر الأجر، فانجاب ليل البلاء" [صيد الخاطر، ص(133) ط. ابن خزيمة].
4- استعن بالدواء، إنه دواء لم يصفه مخلوق قد يصيب وقد يخطئ، وليس له تاريخ صلاحية، ولا له عوارض سلبية، بل كلّه خير، إنه علاج من قال عنه نفسه: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].
إنه علاج جمعه الله في سياق واحد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153].
من هم الصابرون؟
(وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 154 - 156].
فتأمل كيف جمعت هذه الآيات ثلاثة أنواع من العلاج: علاج نفسي: وهو التصبر، وعلاج قولي: وهو الاسترجاع، وعلاج بدني وقلبي: وهو الصلاة.
ومع وضوح هذا العلاج الرباني، إلا أن من الناس من يطلق العنان لفكره، ويبدأ في تقليب ملفات المصائب والمقلقات، فلا يزداد بذلك إلا همّاً على همّ، وينسى أن يفزع إلى هذه الأدوية الربانية، التي أقسم بالله أنه ما من عبدٍ يلجأ إليها، موقناً بها إلا وسكب الله في قلبه من اليقين والرضا ما لا يخطر له بال، مع استحضار ما سبق ذكره من العلاجات التي سبقت الإشارة إليها.
ولنختم بمحكم من القول من كلمات من نوّر الله قلوبهم بنور القرآن، يقول علقمة بن قيس -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن: 11].
قال رحمه الله: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم".
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي