أيها المسلمون: وفي سبيل هذا الاعتزاز والتميّز، جاءت الأحكام الشرعية التي تؤكد على هذا التميز، وتحث على مجانبة ما يقلل منه -فضلاً عما ينغصّه أو يقضي عليه- تحرِّم التشبّه، وتقرر عقيدة الولاء لله ورسوله والمؤمنين، والبراءة من أعدائهم. ومن تأمل في الأحكام الشرعية، والتوجيهات الإسلامية التي دلت عليها عشرات النصوص؛ وجدها متفقةً على...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
فإن الله -تعالى- حين ختم بالرسالة المحمدية جميعَ الرسالات، ونسخ بالقرآن جميعَ الكتب، فأصبح هذا الدينُ مهيمناً على سائر ما سبقه؛ صار من المتعين على أهل هذه الملة، وأتباع هذه الشريعة أن يعتزّوا بهذه النعمة، وأن يظهر ذلك عليهم في سلوكهم، ولباسهم، وتعاملاتهم: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزل الله) [المائدة: 48].
أيها المسلمون: وفي سبيل هذا الاعتزاز والتميّز، جاءت الأحكام الشرعية التي تؤكد على هذا التميز، وتحث على مجانبة ما يقلل منه -فضلاً عما ينغصّه أو يقضي عليه- تحرِّم التشبّه، وتقرر عقيدة الولاء لله ورسوله والمؤمنين، والبراءة من أعدائهم.
ومن تأمل في الأحكام الشرعية، والتوجيهات الإسلامية التي دلت عليها عشرات النصوص؛ وجدها متفقةً على تقرير قضية مهمة جداً، ألا وهي: الحفاظ على الهويّة الإسلامية من الخدوش، فضلاً عن المسخ والطمس، من خلال أمور كثيرة منها:
1- تحريم التشبه بأعداء الله، ولو في لباسهم، أو طريقة وضع شعورهم، ونحو ذلك، ففي صحيح مسلم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى على عبد الله بن عمرو بن العاص ثوبين معصفرين -أي: مصبوغين بالعصفر- فقال: "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها" [مسلم ح(2077)].
وفي صحيح مسلم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعمرو بن عَبَسة السلمي: "صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار" [مسلم ح(832)].
والقاعدة العامة في هذا هي المقررة في الحديث المشهور: "من تشبّه بقوم فهو منهم".
فهل يعي شبابنا وفتياتنا الذين فتنوا بالتشبه بالكفار في ملابسهم، وطريقة قصّات شعورهم، هل يعون هذا المعنى؟
2- وأساليب الشريعة في الحرص على بقاء الهوية الإسلامية: تحريم البقاء والإقامة الدائمة في بلاد الكفر إلا من عذر شرعي، أو مصلحة راجحة، ومن قرأ التوبيخ القرآني للذين لم يهاجروا إلى بلاد الإسلام، تبينت له هذه الحقيقة، في آيات يهتز لها قلبُ الموحّد: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورً) [النساء: 97 - 99].
3- ومن أساليب الشريعة في ترسيخ الهوية الإسلامية: التذكير بنعمة الإسلام، والهداية له، وتفضيل المسلمين على غيرهم، كما قال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) [آل عمران: 103].
وقال سبحانه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين) [فصلت: 33]. [علّقَ الحسن البصري -رحمه الله- كما رواه الطبري في تفسيره (21/ 469) على هذه الآية، فقال: "هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، فهذا خليفة الله"].
ومن المأثور عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به، أذلنا الله" [رواه الحاكم في "المستدرك" (1/ 130)، وصححه].
ويتضح هذا المعنى، حين يرى المسلم بأم عينيه، كيف بلغ الذل بالمسلمين مبلغه، حين ضعف تمسكهم بدينهم، بعد أن كان مَلِكُ الروم يخاف منهم وهو في قصر ملكه في بلاد الروم- والله المستعان-.
4- أيها المسلمون: وفي سبيلِ ترسيخ الهوية الإسلامية، والاعتزازِ بهذا الدين، يجلّي القرآن حقيقة الكفار الذين أعرضوا عن هذا الدين، فشبّههم بأنهم كالأنعام، بل هم أضل، كما قال خالقهم وخالقُ المسلمين: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان: 44].
"لأن البهائم تهتدي لمراعيها، وتنقاد لأربابها، وهؤلاء الكفرة لا يطيعون ربهم، ولا يشكرون نعمة من أنعم عليهم، بل يكفرونها، ويعصون من خلقهم وبرأهم" [تفسير الطبري (19/ 274)].
فإذا تبينت للمسلم أن حقيقة هؤلاء هي كما وصفهم الله في علاقتهم بالآخرة، وتعلّقهم بالدنيا، فهل يرضى المسلم بأن يكون كالبهيمة؟
وهذا لا يعني عدم الإفادة من مخترعاتهم، ولا تجاربهم في عمارة الدنيا، وإنما الشأن في أمر الآخرة، التي هم عنها غافلون.
5- وفي سبيل ترسيخ الهوية الإسلامية: جاءت النصوص بالحث على لزوم جماعة المسلمين، والحذر من التفرق، فإن الاجتماع قوة، والتفرق ضعف، ولأن الانفراد عنهم، أو الارتماء في أحضان الكفار، مظنّة ذوبان الهوية الإسلامية، وهذا ما تؤكده الدراسات الاجتماعية، أن الجيل الثالث من أبناء المهاجرين يتماهى ويذوب في نفس عادات وتقاليد ذلك المجتمع، سواء كان صالحاً أم طالحاً! ومن سافر لبلاد الغرب، أدرك ذلك بنفسه، ورأى شدة معاناة المسلمين مع أبنائهم وسط تلك البيئات التي يُعلنُ فيها بالفسق والفجور.
6- ومما يقوّي الاعتزاز بالهويّة الإسلامية: العناية بلغة القرآن، التي نزلت بها الشريعة.
ولقد كان أعداء المسلمين يدركون ماذا يعني أن تبقى اللغة العربية هي اللغة الحيّة بين أبناء المسلمين، إنها تعني القدرة على الارتباط بالقرآن والسنة، مصدر عزهم وقوتهم المعنوية، فعملوا في حركاتهم الاحتلالية لبلاد الإسلام -التي تسمى زوراً بالاستعمار-، عمدوا إلى طمس لغة القرآن، وإحلال اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرها حسب لغة المحتلّ للبلد! لينشأ جيل لا يستطيع قراءة القرآن والسنّة.
بل ذهب المحتلّون إلى ما هو أبعد من ذلك -وخصوصاً إبان الحكم الشيوعي- وذلك بمنع الأسماء الإسلامية، كلّ ذلك محاولةً منهم لطمس أي معْلمٍ للهوية الإسلامية في نفوس أبناء المسلمين ولو بمجرد الاسم.
فهل يعي شباب الأمة وفتياتهم، ماذا يعني اهتمامنا بلغة القرآن والاعتزازُ بها؟ إنها أكبر من مجرد لغة؟ إنها شعار الإسلام وأهله.
وإنك لتعجب من عربيّ يهجر لغته ويفتخر بإتقانه لعدد من الأحرف الإنجليزية، وفي المقابل يجد عشرات المعاهد والكليات في بلاد المسلمين الأعجمية التي تُعَلّم لغة القرآن!.
قال ابن تيمية -رحمه الله- مبينّاً فضل الفاتحين من المسلمين في تعليم اللغة العربية لأهل البلاد التي فتحوها-: "ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر -ولغةُ أهلهما رومية- وأرضَ العراق وخراسان -ولغة أهلهما فارسية- وأرضَ المغرب -ولغة أهلها بربرية- عوّدوا أهل هذه البلاد العربية، حتى غلبت على أهل هذه الأمصار: مسلمهم وكافرهم...، إلى أن قال: وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة، ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه يصعب"ا.هـ [اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 526)، ولكلامه تتمة مهمة].
رزقنا الله وإياكم الاعتزاز بديننا، والدعوة إليه على بصيرة، والوفاة عليه وربنا راضٍ عنا.
اللهم بارك لنا في القرآن والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة ...
الحمد لله ...
أما بعد:
فيومكم هذا هو اليوم الثاني من أيام شهر رجب، وهو أحد الأشهر الحرم الأربعة التي قال الله فيها: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) [التوبة: 36].
وفسّرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ثلاثة متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب -شهر مضر- الذي بين جمادى وشعبان".
قال تعالى: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة: 36].
أي لا تظلموها بالمعاصي ولا القتال، وذلك تعظيماً لأمرها، وتغليظاً للذنب فيها [ينظر: تفسير ابن جزي (1/252) عند تفسيره لآية التوبة (36)، وللسعدي في تفسيره فوائد قيمة، فلتنظر هناك].
قال قتادة -رحمه الله-: إن الظلم في الأشهر الحُرُم أعظم خطيئةً ووزراً فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله -تعالى- يعظِّم مِن أَمرِه ما يشاء -تعالى- ربنا [ينظر: تفسير ابن كثير للآية، رقم (36) من التوبة (2/340)، وجامع ابن رجب (2/317)، ففيه بحث حول مضاعفة الذنوب في المكان والزمان الفاضل].
فطوبى لمن عظّم ما عظّمه الله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].
وطوبى لمن زاد عمله الصالحُ فيها، وبادر التوبة قبل النقلة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي