إخوة الإسلام: وإذا ذكرت الأمانة، لم يتبادر إلى أذهان الكثيرين إلا الأمانة في ردّ الحقوق إلى أهلها فحسب، وهذا -في الحقيقة- قصورٌ في الفهم، فإن رد الحقوق إلى أهلها ما هو إلا صورة من صور الأمانة فحسب، وإلا فمن تأمّل النصوص الشرعية، وكلامَ السلف، وجد أن مساحة الأمانة تتسع جداً لتشمل...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن أمراً يعرض على السماوات، ويعرض على الأرض، ويعرض على الجبال، فيعتذرن عن حمله، لأمرٌ عظيم، وخطب جليل.
ثم يأتي هذا الإنسان -على ضعفه وتقصيره- ويتحمله!.
إنه عهد الأمانة الثقيل، إنها الأمانة التي قال الله فيها: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: 73].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فامتناع السموات والأرض والجبال من حمل الأمانة لأجل خلوها من العقل الذي يكون به الفهم والإفهام، وحُمِّلَ الإنسانُ إياها لمكان العقل فيه" [الروح، ص(50)].
وقال أيضاً: "ولا يستحق اسم الأمانة إلا من قام فيها بالعدل المحض: نصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولعباده" [زاد المهاجر، ص(32)].
ومن تأمل الآية، مع كلام ابن القيم -رحمه الله- تبين له أن تضييع الأمانة نقص في العقل، وأن تضييعها لا يخرج عن سببين ألا وهما: الظلم، والجهل.
إخوة الإسلام: وإذا ذكرت الأمانة، لم يتبادر إلى أذهان الكثيرين إلا الأمانة في ردّ الحقوق إلى أهلها فحسب، وهذا -في الحقيقة- قصورٌ في الفهم، فإن رد الحقوق إلى أهلها ما هو إلا صورة من صور الأمانة فحسب، وإلا فمن تأمّل النصوص الشرعية، وكلامَ السلف، وجد أن مساحة الأمانة تتسع جداً لتشمل الدين كلّه:
1- ألم يكن من جملة حجج الرسل -عليهم الصلاة والسلام- في وجوب قبول دعوتهم، ورسالاتهم أنهم أمناء على الوحي الذي أوحى إليهم؟ ألم يكن كل واحد منهم يقول: (وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) [الأعراف: 68].
2- ألم يحذر الله -تعالى- من خيانة أمره وأمر رسوله؟ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27].
3- أليست الأمانة شرطاً من أهم شروط من يتولى أمراً عاماً من أمور المسلمين؟! ولهذا لما طلب يوسف من ملك مصر أن يتولى أمر الخزانة المالية، قال: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 55].
والحفيظ، هو بمثابة الخازن والوزير.
4- ألم يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن إسناد الأمر إلى غير أهله من تضييع الأمانة، بل ومن علامات الساعة، ولا يكون الشيء من علامات الساعة إلا وهو عظيم،كما في صحيح البخاري: "إذا ضُيِّعتِ الأمانة فانتظرِ الساعة" فقيل: وكيف إضاعتها؟ قال: "إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة".
أيها المسلمون: ولعظم منزلة الأمانة في الدين كَانَ نبيكم -صلى الله عليه وسلم- إذا ودّع أحداً، قال: "أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَك وَأَمَانَتَك وَخَوَاتِيمَ عَمَلِك" [رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: "حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ"].
قال الخطابي -رحمه الله-: "وَالْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ هَاهُنَا: أَهْلُهُ وَمَنْ يَخْلُفُهُ مِنْهُمْ، وَمَالُهُ الَّذِي يُودِعُهُ، وَيَسْتَحْفِظُهُ أَمِينَهُ وَوَكِيلَهُ، وَجَرَى ذِكْرُ الدِّينِ مَعَ الْوَدَائِعِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِإِهْمَالِ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدِّينِ فَدَعَا لَهُ بِالْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ فِيهَا".
إخوة الإسلام: إن التخلق بخلق الأمانة له ثمرته في الدنيا والآخرة:
أما في الدنيا، فلها ثمار عظيمة، منها:
أ- تفريج الكربات، وهذا واضح في قصة أحد الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار، والذي حدثنا بقصتهم نبينا -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال أحدهم: "اللهم استأَجَرْتُ أُجَرَاءَ، وأعطيتُهم أجرَهم، غير رَجُل واحد، تَركَ الذي له وذهب، فَثَمَّرتُ أَجْرَهُ حتى كَثُرَتْ منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله، أَدِّ إِليَّ أجري، فقلت: كلُّ ما ترى من أَجْرِكَ، من الإِبل والبقر، والغنم، والرقيق، فقال: يا عبد الله! لا تستهزئُ بي، فقلتُ: إِني لا أستهزئُ بك، فأخذه كلَّه فاسْتاقه، فلم يتركْ منه شيئا، اللهم فإن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافْرُج عنا ما نحن فيه، فانفرجتِ الصخرة، فخرجوا يمشون" [متفق عليه].
ب- الرفعة والمنزلة عند الناس، وهذا ظاهر في المنزلة التي نالها نبينا -صلى الله عليه وسلم- عند قومه قبل أن يوحى إليه، حتى لقبوه بالصادق الأمين، وقال الإمام مالكٌ: "بلغني أنه قيل لِلُقْمان الحكيم: ما بلغ بك ما نرى؟ -يريدون الفضل- قال: صِدْقُ الحديث، وأداء الأمانة، وتَرْكِي ما لا يعني".
وأما ثمرات التخلق والتحقق بخلق الأمانة في الآخرة، فلو لم يكن منها إلا: السلامة من تبعات حقوق الخلق، فكفى، فكيف وقد أخبر الله عن فلاح المؤدين للأمانات كما في صدر سورة "المؤمنون" بقوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون)[المؤمنون: 1] -وذكر من صفاتهم-: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون: 8]. ثم قال: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 10 - 11].
وأثنى عليهم في سورة المعارج؛ إذْ لما ذكر صفات أهل الجنة، الناجين من عذاب الله، والمبرؤون من تلك الصفات السيئة في الإنسان، قال: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المعارج: 32].
ثم قال: (أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) [المعارج: 35].
إخوة الإسلام: ومع هذه المكانة العظيمة للأمانة، إلا أن الملاحظ أن هذه الأمانة حصل من البعض تضييع لها، وتفريطٌ في حفظها، أدرك بدايات ذلك بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث حذيفة المتفق عليه حيث قال: حدَّثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثين، وقد رأيتُ أحدَهما، وأنا أنْتَظِرُ الآخر، حَدَّثنا أنَّ الأمانة نزلت في جَذْرِ قلوب الرِّجال، ثم نزل القرآن، فَعلِمُوا من القرآن، وعلموا من السُّنَّة، ثم حدَّثنا عن رفْع الأمانة، فقال: "ينامُ الرجُلُ النومَةَ، فتُقْبَضُ الأمانةُ من قلبه، فيظَلُّ أثَرّها مِثْلُ أثَرِ الْوَكْتِ، ثمَّ ينامُ النَّومةَ، فَتُقْبَض الأمانةُ من قبله، فيظلُّ أثَرهُا مثْلُ أثَرِ الْمجْلِ، كَجَمْرِ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتراه مُنْتبِرًا، وليس فيه شيءٌ -ثم أخَذَ حصى فدحْرَجَهُ على رجْلِهِ- فيُصْبِحُ النَّاسُ يتبايَعون، فلا يكاد أحدٌ يُؤدِّيَ الأمانةَ، حتَّى يُقالُ: إنَّ في بني فلانٍ رَجُلاً أمينَاً، حتى يقال للرجل: ما أجْلَدَهُ! ما أظْرَفَهُ! ما أعْقَلَهُ! وما في قلبه مِثْقَالُ حبَّةٍ من خَردلٍ من إيمانٍ! ولقد أتى عليَّ زمانٌ وما أبالي أيّكُم بايعْتُ، لئِن كان مُسلمًا ليَرُدَّنَّه عليَّ دينُهُ، وإنْ كان نَصْرانيًا أو يَهوديًا ليَرْدَّنه عليَّ ساعيه، وأما اليوم فما كنتُ أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا".
ولخرقِ هذه الأمانة في المجتمع مظاهر شتى نشير إلى شيء منها بعد قليل.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن لتضييع الأمانة، والتفريط فيها مظاهر شتى، من أبرزها:
1- تضييع الصلاة -عياذاً بالله- إما بتركها أو بترك بعض أوقاتها، أو بتأخيرها عن وقتها، أو بالتفريط في واجباتها -نعوذ بالله من ذلك كلّه-.
2- إهمال تربية الأولاد -وما أكثر هذا المظهر في عصرنا ولا حول ولا قوة إلا بالله- وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة في سورة الأنفال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال: 27 - 28].
والحديث عن مظاهر التفريط في التربية ليس هذا موضعه، وكل شخص يدرك حاله: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة: 14].
3- الغش في الاختبارات، وهذا أمره بيّن وظاهر.
4- تتبع العورات، والنظر في البيوت، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "من تضييع الأمانة النظر في الحجرات والدور".
5- الرشوة التي فتكت في كثير من الناس، يتحايلون عليها بأسماء مختلفة، فويل لهؤلاء، ثم ويلٌ لهم، ثم ويلٌ لهم من لعنة الله ورسوله.
6- التفريط في أداء الوظيفة التي أوكلت للإنسان: سواء كان موظفاً حكومياً، أم في قطاع خاص، أم كان كاتباً صحفياً أم على الشبكة، أم في مسؤولية عامة؛ كإدارة دائرة، أو إمامةٍ أو أذانٍ، أو كلُّ ذلك يشكو -على تفاوت بين هذه الوظائف- من وجود نوع من التقصير بل والتفريط! سواء في مراعاة وقت الوظيفة، أو في جودة العمل، أو في النصح لمن تحت الموظف من عاملين.
وأختم حديثي هنا بقصة لرجل من أهل بلدنا توفي: كان إماماً لأحد المساجد، وكان إذا سافر لحج أو عمرة، أو تخلف عن إمامته للصلاة وقتاً أو أكثر جمعَ ما يقابل هذه الأوقات، وذهب به إلى مدير إدارة الأوقاف وسلّمه له، مع أنه لا يكاد يترك الإمامة إلا لعذر، ولا يذهب حتى يقيم مكانه رجلاً في مكانه، فرحمه الله رحمةً واسعة، وأكثر في الناس من أمثاله، ولله در الحسن البصري: حين قال: "لأهل التقوى علامات يعرفون بها: صدق الحديث، وأداء الأمانة، والإيفاء بالعهد، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وحسن الخلق، وسعة العلم، واتباع العلم فيما يقرب إلى الله زلفى".
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي