فهذا أمية يحلف أن محمدًا لا يكذب، وهذه زوجته تحلف أن محمدًا لا يكذب، ومع ذلك يموتان على الكفر -عياذا بالله-، ولا يُقبل من أي نفس ترى الحق ثم تعرض عنه وتصدّ، فهذا -والعياذ بالله- من الكِبْر ومن غلبة الران على القلب، وقد استبان لكل أحد أن الطريق الموصل إلى الله إنما في تقواه -عز وجل-، فلا ينبغي لعبد أن يأنف أو أن يستكبر عن كل حق وطريق يقوده إلى رحمة ربه -جل وعلا- وإلى جنات النعيم التي يؤمل بها كل مؤمن، ويرجوها كل مسلم...
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أفاض على عباده النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، و"أودع الكتاب الذي كتبه عنده أن رحمته تغلب غضبه".
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله، ختم الله به النبوة، وأتم الله به الرسالات، فصلى الله وسلم عليه ما تلاحمت الغيوم، وما تلألأت النجوم، اللهم فصلّ عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله فإن تقوى الله -عز وجل- هي خير زاد إلى يوم الميعاد، بها يعظم العبد وتثبت قدمه يوم القيامة، قال ربنا وهو أصدق القائلين (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا) [مريم:85].
ثم اعلموا عباد الله أن الذين عنوا بسيرة النبي المختار -صلى الله عليه وسلم- دونوا ما صح فيها مما يتلألأ أثره، ويعظم معناه، وقد شاد من قبل مبناه.
ومن ذلك أيها المؤمنون أنه بعد هجرته -صلوات الله وسلامه عليه- إلى المدينة وقبيل غزوة بدر خرج سعد بن معاذ -رضي الله عنه وأرضاه- سيد الأوس في زمانه خرج إلى مكة معتمرًا فنزل على أمية بن خلف، وقد كان أمية تربطه بسعد علاقة إخاء تجارية، فكان أمية إذا خرج إلى الشام ينزل على سعد في المدينة، وكان سعد إذا أتى مكة ينزل على أمية، فنزل عليه ورحب به أمية، ثم قال له: إذا انتصف النهار وغفل الناس سأجعلك تطوف بالبيت.
فلما خرج وطاف سعد -رضي الله عنه- بالبيت إذا بأبي جهل يقدم فقال: "من هذا الذي يطوف بالبيت"، فلم يترك سعد لأمية الجواب، بل قال: أنا سعد، فقال أبو جهل متعجبًا منكرًا: "أتطوف بالبيت آمنا وقد أويتم محمدًا وأصحابه؟" فقال سعد "نعم" فتلاحيا، ووقع ما كان يحذره أمية من هذا الأمر، لكن أمية -بقدر الله- لم يُزرق الإنصاف ولم يُرزق يومها الحكمة، فأخذ يخفض من صوت سعد ويقول: "اخفض صوتك فإن أبا الحكم -يقصد أبا جهل- سيد أهل هذا الوادي"، فقال سعد -رضي الله عنه- لأبي جهل: "والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن عليك متجرك بالشام".
ولم يزل يلاحيه فغضب أمية لغضب أبي جهل، وأعاد الكَرّة على سعد، وقال: "اخفض صوتك"، وأخذ يمسكه ويقول: "إن أبا جهل سيد أهل هذا الوادي"، فغضب سعد وقال لأمية: أما وقد قلت هذا، فإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه قاتلك، فقال أمية لسعد: إياي؟ –يريد أن يتأكد- قال: "نعم"، فقال أمية وهو مشرك كافر، قال: "والله لا يكذب محمد إذا حدّث"!!
ثم رجع أمية إلى زوجه إلى بيته إلى أم صفوان فقال لها: أما علمت ما قال أخي اليثريبي –يقصد سعدًا- قالت: وما قال؟ قال: يخبر أن محمدًا سيقتلني، قال زوجته وهي كافرة مثله: "إن محمدًا لا يكذب إذا حدّث".
ثم مضت أيام وليالي فكانت معركة بدر، ومعلوم أن أبا سفيان أرسل قبل المعركة وهو يومئذ على قافلة قريش، بعث من يدفع قريش إلى النفير، فلما جاء الصريخ جاء ضمضم الغفاري يدعو قريش إلى نصرة العير، إلى نصرة القافلة، إلى إجابة دعوة أبي سفيان.
وعندها تذكر أمية قول سعد له، فأبى أن يخرج، فجاءه أبو جهل يستحثه، ويقول له: "إنك من سادت هذا الوادي، وإنك إن تخلفت تخلف الناس"، فقال أمية له: "أما وقد غلبتني –أي: في الحجة- لأشترين أجود بعير في مكة"، يريد أن إذا رأى الدائرة على قريش أن يفر به.
ثم عاد إلى بيته وقال لزوجته أم صفوان: جهزيني، فذكّرته بالخبر، وبقول سعد له، قال: "أذكر ذلك، ولكنني سأخرج معهم قريبًا ثم أعود".
فاشترى بعيرًا باهظ الثمن سريع الخطى، وخرج مع القوم، وكلما نزل واديًا عقل بعيره يأذن على أن يعود، لكنه لا يعود حتى كان في بدر، فقتله الله -عز وجل-.
أيها المؤمنون في هذا الخبر من المعاني والعبر الشيء الكثير أجلها: إباء سعد -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- هو في عرينهم في موطنهم، ومع ذلك لما سأل أبو جهل: "من هذا الذي يطوف بالبيت"؟ قال: أنا سعد.
إن التوكل على الله -جل وعلا- من أعظم مناقب الصالحين، ولا عزة مهما علت بمال أو جاه أو منصب أو غيرها هي أعظم من عزة الإسلام (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) وحريّ بالمؤمن أن يتحلى بالحكمة، لكن سعدًا -رضي الله عنه وأرضاه- أجاب أبا جهل بقوله: "أنا سعد".
ثم يتأمل الإنسان أن الأمور تجري بقدر الله، وأنه لا ينجّي حذَر مِن قدَر، مع أننا مأمورون بالأخذ بالأسباب، فهذا يعلم أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- صادق ويشتري بعيرًا باهظ الثمن، ومع ذلك يقذف الله في قلبه أن يخرج حتى يقع قدر الله، فيخرج وكلما عزم على العودة والأوبة إلى مكة، يقذف الله في قلبه أن يمضي؛ لأن الله -جل وعلا- غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، حتى يُقتل في بدر كما أخبر رسولنا -صلى الله عليه وسلم-.
إن على المؤمن أن يعلم أنه وإن شرع لنا الأخذ بالأسباب إلا أن تلكم الأسباب لا تنفع إلا إذا أراد الله أن ينفع بها.
فهذا نوح -عليه السلام- شيخ المرسلين، وأول الرسل مكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا ليلاً ونهارًا سرًّا وجهارًا، ومع ذلك كان يعلم أن دأبه في الدعوة وحثه لقومه، ورغبته في الخير ليست هي التي تهدي قومه، إنما الذي يهدي هو الله، قال الله -عز وجل- عنه: (وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [هود:34]، ألف سنة إلا خمسين عاما وهو يعلم أنه ليس بيده من الهداية شيء -صلوات الله وسلامه عليه-.
يتجلى في هذا الخبر والمقطوعة من السيرة أن بعض العباد يبتلى بأنه يعرف الحق ويستبين له ومع ذلك -والعياذ بالله- يُعرِض عنه، قال الله عن فرعون وآله (فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [النمل: 13- 14].
فهذا أمية يحلف أن محمدًا لا يكذب، وهذه زوجته تحلف أن محمدًا لا يكذب، ومع ذلك يموتان على الكفر -عياذا بالله-، ولا يُقبل من أي نفس ترى الحق ثم تعرض عنه وتصدّ، فهذا -والعياذ بالله- من الكِبْر ومن غلبة الران على القلب، وقد استبان لكل أحد أن الطريق الموصل إلى الله إنما في تقواه -عز وجل-، فلا ينبغي لعبد أن يأنف أو أن يستكبر عن كل حق وطريق يقوده إلى رحمة ربه -جل وعلا- وإلى جنات النعيم التي يؤمل بها كل مؤمن، ويرجوها كل مسلم، جعلني الله وإياكم من أهله.
أيها المؤمنون: كلما كان الناس والدول على وجه الخصوص أعظم بنيانًا اقتصاديًّا كانت قدرتهم على حماية أنفسهم أجلّ وأكبر، ولهذا قال سعد -رضي الله عنه- لأمية: "والله لئن منعتني من الطواف لأقطعن عنك متجرك في الشام".
والدول الإسلامية لها حاجة ملحة إلى سوق إسلامية مشتركة، وإلى اقتصاد عظيم تحفظ بها كرامتها، ويعينها ذلك على ما تلقاه من تحالف الدول وتآمر الأمم؛ فإن ذلك كله معدود فيما أمر الله -عز وجل- أن يعدّه المسلمون لأهل الكفر.
جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى..
أيها المؤمنون: قلنا: إن سعدًا -رضي الله عنه وأرضاه- انطلق معتمرًا قبل غزوة بدر أيام كانت مكة تحت إمرة أهل الكفر، ثم أفاض الله على نبيه النعمة، ففُتحت مكة في العام الثامن ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وإذا ذُكرت الكعبة ذُكر الحج؛ لأن الله -جل وعلا- قال: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) وقال: (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ).
وإذا ذُكر الحج تُذُكِّر أسماء ارتبطت تاريخيًّا إيمانيًّا، علميًّا فقهيًّا، بهذا الركن العظيم والشعيرة العظيمة يتذكر الإنسان أقوالاً وأحداثًا وأفعالاً لقمم إسلامية من الأنبياء وغيرهم ممن ارتبط ذكر الحج بهم، يتذكر الإنسان أمنا هاجر -عليها السلام-، وقد وضعها الخليل إبراهيم -عليه السلام- مع ابنها بوادي غير ذي زرع ليس معهما هي والابن إلا جراب فيه تمر، وسقاء فيه ماء.
وتعجب من صنيع الزوج وقد علمت من قبل عظيم رحمته وكريم أخلاقه وجليل شمائله، فكيف يصنع بها هذا، فلما ألحت عليه في السؤال وتستفسر عما آل إليه الحال قالت له بعد ذلك "الله أمرك بهذا؟" قال: "نعم"، فقالت تلك المرأة العارفة بربها: "إن الله لا يضيّع أهله".
إن أجلّ المعارف معرفة العبد ربه، وعجب لم تجلس في حلقات ولم تدرس في كتاكيب، لكن الله أودع في قلبها المعرفة به، ثم أعانها على أن تعمل بالعلم الذي علمته، فلما تركها زوجها قالت: "إن الله لا يضيع أهله".
يتذكر الإنسان خليل الله إبراهيم -عليه السلام- وهو يرفع القواعد من البيت يرجو ربه ويخشاه (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:127].
يسأل الله القبول ويندب بعد كل عمل صالح أن يسأل ربه أن يتقبل منه، وأن يغفر له، وأن الله كريم كما يعين على الطاعة يقبلها تبارك وتعالى، ويعفو عن السيئات، يتذكر الإنسان خير من حج واعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقف على عرفة، وقف على ناقته القصواء في موطن عرفة، وعرفة كلها موقف، واستقبل القبلة رافعًا يديه -صلوات الله وسلامه عليه-، فلا يزهد المؤمن القادر على أن يحج البيت ويقف كما وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
يتذكر المؤمن زبيدة أم الأمين زوجة هارون الرشيد يوم أن أمرت خازن أموالها أن ينفق الأموال في سبيل إعانة الحجيج، وجلب الماء لهم، وجمع ماء العيون من العراق إلى مكة، فلما أخبرها الخازن أن هذا يكلف كثيرًا قالت: "افعل ولو كلفت ضربة الفأس الواحدة دينارا" .
ترجو ما عند الله، وتعلم أن خدمة الحجيج شرف عظيم لا يوفّق له كل أحد، ولهذا فإن ظلم الحجيج في التعامل في البيع والشراء أعظم وزرًا وأكبر ذنبًا، فالحجاج والعمار وفد الله يجب إكرامهم.
يتذكر الإنسان هنا شاهدًا عيانًا ما تقوم به هذه الدولة السعودية المباركة -زادها الله توفيقا وأمانًا- من عمل صالح ومساعدة الحجيج، وقيام بواجبهم على أكمل وجه، نسأل الله أن يتقبل منهم، وأن يعينهم، وأن يجعلنا أجمعين من الموفّقين لخدمة حجاج بيت الله الحرام.
ألا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير ذي الوجه الأنور والجبين الأزهر الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي