يا من تسلُكون مسالِك الكذب والغشِّ والحِيَل والرِّشوة، للتفلُّت من أنظمة الحجِّ .. يا من تسلُكون الدُّروب الوعِرة، والطرق الخطِرة للفرار من نقاط التفتيش الأمنية التي لم تُوضَع إلا لمصلحة الحجِّ وأمنه وسلامة الحجيج .. يا من تُخالفون الشرع، وتتعدَّون حدود الله تعالى، وترتكِبون الحرام، وتتجاوزون المواقيت ونقاط التفتيش بلا إحرام، أيَّ حجٍّ تقصِدون؟َ وأيَّ ثوابٍ تُريدون؟! وأيَّ أجرٍ ترومون وأنتم تكذِبون وتحتالُون وتُخالِفون؟! يا من تُهرِّبون المُخالفين والمُتسلِّلين الذين يُريدون الحجَّ بلا تصريح، أجرتُكم كسبٌ خبيث، ومالٌ حرام، وسُحتٌ وإثم...
الحمد لله الذي نوَّر بالشريعة بصائِر المُؤمنين، وبيَّن الحلالَ من الحرام للمُكلَّفين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له ولا ظهيرَ ولا مُعين، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه أوضحَ الأحكام وأقامَ الأعلام للسالكين، وقال: "من يُرِد الله به خيرًا يُفقِّهه في الدين"، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابِه خُلفاء الدين وحُلفاء اليقين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون: اتَّقوا الله فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
الحجُّ أحد الأركان الخمسة التي بُنِي عليها الإسلام، يجبُ على المُكلَّف المُستطيع في العُمر مرةً واحدةً، ومن وجبَ عليه الحجُّ وأمكنَه فعلُه لزِمَه تعجيلُه؛ فعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أرادَ الحجَّ فليتعجَّل؛ فإنه قد يمرضُ المريضُ، وتضلُّ الضالَّةُ، وتعرِضُ الحاجة" (أخرجه أحمد وابن ماجه).
ومتى تُوفِّي من وجبَ عليه الحجُّ ولم يحُجَّ ويعتمِر، وجبَ أن يُخرَج عنه من ماله حجَّة وعُمرة، سواءٌ فاتَه بتفريطٍ أو بغير تفريطٍ، أوصَى أم لم يُوصِ؛ لحديث ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -، أن امرأةً من جُهينة جاءَت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرَت أن تحُجَّ فلم تحُجَّ حتى ماتَت، أفأحُجُّ عنها؟ قال: "نعم، حُجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمِّكِ دَينٌ أكنتِ قاضيَته؟ اقضُوا الله فالله أحقُّ بالوفاء"؛ (أخرجه البخاري).
ومن قدِر على الحجِّ بنفسه فليس له أن يستنيبَ، فإن فعل لم يُجزِئه. ومن وُجدت فيه شرائطُ وجوب الحجِّ وكان عاجزًا عنه ببدنِه، لمانعٍ ميؤوسٍ من زواله؛ كزمانةٍ أو مرضٍ لا يُرجَى زوالُه، أو كان لا يقدِرُ على الثبوت على الراحِلة إلا بمشقَّةٍ غير مُحتمِلة، أو كان شيخًا فانيًا، لزِمه أن يُقيم من يحُجُّ عنه ويعتمِر.
ومن أحجَّ عن نفسه ثم عُوفِيَ لم يجب عليه حجٌّ آخر؛ لأنه أتى بما أُمر به فخرجَ من العُهدة. ومن كان يرجُو زوالَ المانع والقُدرة على الحجِّ بنفسه، أو كان يُرجى زوالُ مرضه فليس له أن يستنيبَ، فإن فعلَ لم يُجزِئه.
والفقيرُ لا يجبُ عليه الحجُّ، ولا يُحجُّ عنه، ولا بأس ببذلِ النفقة له ليحُجَّ عن نفسه، ومن بُذلَت له نفقةُ الحجِّ ولم تلحَقه بقبولها منَّةٌ ولا ضرر فلا حرجَ عليه في قبولها وأداء الحجِّ بها.
ويجوزُ أخذُ الأُجرة على النيابة في الحجِّ، والأَولَى أن يأخذ النائِبُ من المُستنيبِ نفقةً ولا يأخُذ أجرًا.
وليس لمن لم يحُجَّ عن نفسه حجَّة الإسلام أن يحُجَّ عن غيره، فإن فعلَ وقعَ إحرامُه عن نفسه؛ لحديث ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمِع رجُلاً يقول: لبَّيك عن شُبرُمة، فقال: "من شُبرُمة؟"، قال: قريبٌ لي، قال: "حجَجتَ عن نفسِك؟"، قال: لا، قال: "حُجَّ نفسِك، ثم حُجَّ عن شُبرُمة" (أخرجه أبو داود وابن ماجه).
ولا ينعقِدُ الإحرامُ عن اثنين، فمن أحرمَ في نُسكٍ واحدٍ عن اثنين، أو عن نفسه وعن غيره، وقعَ إحرامُه عن نفسه. فإن أحرمَ بالعُمرة عن واحدٍ وبعد التحلُّل منها أحرمَ بالحجِّ عن آخر صحَّ؛ لأنهما نُسُكان.
ويُستحبُّ أن يحُجَ الإنسانُ عن أبويه إن كانا ميتَين أو عاجِزين، ويبدأُ بالحجِّ عن أمِّه؛ لأنها مُقدَّمةٌ في البرِّ، ويُقدِّم واجبَ أبيه على نفلِها.
وليس للرجل منعُ امرأته من حجَّة الإسلام إذا وجدَت مَحرَمًا، والمَحرمُ من استطاعة السبيل.
وقال الإمام مالك - رحمه الله تعالى -: "تخرج مع جماعة النساء".
وليس لمن تُوفي عنها زوجُها الخروجُ إلى الحجِّ في عدَّة الوفاة؛ لأنها العدَّة تفوت والحجُّ لا يفوت، فإن بلغَتها وفاتُه وهي قريبةٌ رجعَت لتعتدَّ في منزلها، وإن تباعَدَت مضَت في سفرها.
ومن كان عليه دَينٌ حلَّ وفاؤُه قدَّم الوفاءَ على الحجِّ إلا أن يأذَن الدائِن، ومن كان دَينُه مُقسَّطًا وعنده وفاءُ الأقساط في موعِدها حجَّ ولا يُشترطُ إذنُ الدائِن.
أيها المسلمون:
وتركُ التطوُّع بالحجِّ أو العُمرة في وقت شدَّة الزحام بقصد التوسيع على الضعفاء والنساء والمرضَى وكبار السنِّ، الذين قدِموا لأداء فريضة الحجِّ، تركُ ذلك أقربُ إلى البرِّ والخير والأجر والثواب.
فعن عبد الرحمن بن عوفٍ - رضي الله عنه -، قال: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف صنعتَ في استلام الحجَر؟"، فقلتُ: استملتُ وتركتُ، قال: "أصبتَ" (أخرجه ابن حبان)، والمعنى: أنه استلمَ في غير زحام، وترك في زحامٍ، فصوَّبه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والصدقةُ أفضلُ من التطوُّع بالحجِّ أو العُمرة إذا كان ثَمَّ رحّمٌ مُحتاجة، أو كان زمنَ مجاعَة، أو وُجّد من المُسلمين من هو مُضطرٌّ إلى صدقته، ومُحتاجٌ إلى نفقَته.
خرج عبد الله بن المُبارَك مرةً إلى الحج، فرأى جاريةً تأخذ طائرًا ميتًا قد أُلقِيَ في مزبلة، فسألَها فقالت: أنا وأختي ههنا ليس لنا قُوتٌ إلا ما يُلقَى على هذه المزبَلة، فأمرَ ابن المُبارَك بردِّ الأحمال، وأعطاها نفقةَ حجِّه وقال: "هذا أفضلُ من حجِّنا في هذا العام"، ثم رجع.
أيها المسلمون:
ومن لم يُصرَّح له بالحجِّ من الجهات الرسمية أجَّل حجَّه وجوبًا على الصحيح حتى يُصرَّح له؛ لأن السياسة الشرعية اقتضَت تحديدَ عدد الحُجَّاج والمُعتمرين، دفعًا لمفاسِد التزاحُم والتدافُع، ومنعًا لحصول الفوضَى.
يا من تسلُكون مسالِك الكذب والغشِّ والحِيَل والرِّشوة، للتفلُّت من أنظمة الحجِّ .. يا من تسلُكون الدُّروب الوعِرة، والطرق الخطِرة للفرار من نقاط التفتيش الأمنية التي لم تُوضَع إلا لمصلحة الحجِّ وأمنه وسلامة الحجيج .. يا من تُخالفون الشرع، وتتعدَّون حدود الله تعالى، وترتكِبون الحرام، وتتجاوزون المواقيت ونقاط التفتيش بلا إحرام، أيَّ حجٍّ تقصِدون؟َ وأيَّ ثوابٍ تُريدون؟! وأيَّ أجرٍ ترومون وأنتم تكذِبون وتحتالُون وتُخالِفون؟!
يا من تُهرِّبون المُخالفين والمُتسلِّلين الذين يُريدون الحجَّ بلا تصريح، أجرتُكم كسبٌ خبيث، ومالٌ حرام، وسُحتٌ وإثم.
فانتَهوا عن هذه الأفعال الذميمة، وانظُروا إلى الأمور بعين العقل والحكمة والمسؤولية، وإياكم والتدرُّع بذرائع واهية هي عند الحِجاج أوهَى من بيت العنكبوت، لا تُفضِي بصاحبِها إلا إلى الانقطاع والسكوت.
اللهم ألهِمنا رُشدَنا، وقِنا شرَّ أنفسنا يا كريمُ يا عظيمُ يا رحيم.
الحمد لله الذي عرَّف وعلَّم وفقَّه في دينه وفهَّم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنَا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه ومن سارَ على سَنن الحقِّ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقِبوه، وأطيعُوه ولا تعصُوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
أيها المسلمون:
الزَموا السُّنن المُسندات التي رواها الثقات الأثبات، واحذَروا البدع والمُحدثات؛ فما أكثرَ من تجمَّعوا على البدع وتحشَّدوا، وعدَلوا عن السُّنن وتفرَّدوا!
وأين من السُّنَّة أقوامٌ نحَت إلى القبور ترجُوها، ووجَّهت لها قلوبًا ووجوهًا، اتخذوها سندًا ومفزعًا ومُلتجَا، وبابًا وحجابًا ومُرتجا، يسجُدون على أعتابها، ويذبَحون على أبوابها، ويطوفون بأركانها، يرجُون منها كشفًا ونفعًا وشفعًا وبركةً وفيوضًا.
بدعةٌ اسمها "القبورية"، وأصلُها الوثنية، أجمعَ الأئمةُ الأعلام، وشيوخُ الإسلام أبو حنيفة ومالكٌ والشافعيُّ وأحمد على أنها من البدع الشنيعة، المُناقِضة للشريعة.
وربُّنا الكريم يُفيضُ العطاء، ويسمعُ الدعاء بلا شُفعاء ولا وُسطاء، لا من الأنبياء ولا من الأولياء.
زُوَّار مسجد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -! احذَروا التمسُّح بجُدران المسجِد وأبوابه، ومنبَره ومحاريبِه؛ فالبركةُ لا تُلتمسُ في التمسُّح بالجمادات.
احذَروا التبرُك بتربة القبور، أو الاستِشفاءَ بها، أو رمي الأطعمة والحبوب والنقود عليها، أو سُؤال أصحابها؛ فإن ذلك من أفعال الجاهلين.
تلقَّى الله سعيَكم بالقبول والإثابة، ودعاءَكم بالرضا والإجابة، وساقَ لكم الرزقَ وفتحَ لكم أبوابَه.
وصلُّوا وسلِّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورَى طُرًّا؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
للخلق أُرسِل رحمةً ورحيمًا *** صلُّوا عليه وسلِّموا تسليمًا
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن جميع الآلِ والأصحاب، وعنَّا معهم يا كريمُ يا وهَّاب.
اللهم أعزَّ الإسلام والمُسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر الطغاةَ والقتلةَ المُفسِدين المُعتدين يا رب العالمين.
اللهم ادفَع عن جميع بلاد المُسلمين الحروب والفتن والصراعات والاضطرابات والنزاعات يا كريم.
اللهم أدِم على بلادنا المملكة العربية السعودية أمنَها ورخاءَها، وعزَّها واستقرارها، ووفّق قادتَها لما فيه عزُ الإسلام وصلاحُ المُسلمين.
اللهم وفِّق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين ونائِبَيه لما فيه عزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وارحَم موتانا، وفُكَّ أسرانا، وانصُرنا على من عادانا يا رب العالمين.
اللهم احفَظ الحُجَّاج والزوَار والمُعتمِرين، اللهم تقبَّل مساعِيهم وزكِّها، وارفَع درجاتهم وأعلِها.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي